لا ينكر أحد أن القلق أصبح هو العامل المشترك في كل الأحاديث التي يتداولها المصريون حول النيل، فبصرف النظر عن الموقف السياسي سواء مؤيد أو معارض للحكومة، فإن كل يوم تخطو فيه إثيوبيا خطوة في اتجاه استكمال بناء سد النهضة يضع كل مصري يده على قلبه وهو يتساءل في جزع: هل سيجف مجرى نهر النيل في مصر؟
فالنيل ليس مجرد نهر يجري في أرض مصر، بل هو حضارة مصر وحياتها، ويمكن القول إنه بدون النيل لا توجد مصر، فالنيل ومصر يكادان يكونان متردافين.
وإذا بحثنا عن كلمة (نيل) نجد أنها قد وردت في القواميس الهيروغليفية العالمية، ومعظم مراجع علوم المصريات الكبيرة والنصوص الفرعونية بمعنى نعمة الله؛ وكان يرمز لكلمة (نعمة) بالماء أو حرف (ن)، وهو عبارة عن رسم يعبر عن ماء جار.
أما حرف اللام فيرمز إلى كلمة (الله).. وعلى ذلك كانت القراءة الظاهرية لعبارة (نعمة الله) المختزلة هي (نيل)، وهو الاسم الذي أطلقه المصريون القدماء على نهر النيل، لأنه هو بالفعل (نعمة الله) لكل المصريين، وقد قرأ علماء المصريات هذه الكلمة بنطق (نيث) وقالوا إن معناها هو حبل؛ أو قيد؛ أو رباط.. وحرف النون (ن) المصري هو رمز لكلمات مثل.. نهر.. نعمة.. جنات.
وقد قرأ علماء المصريات هذه الكلمة بنغمة (نتث) .. وقالوا إن معناها هو (يغني).. لكن ماذا تعني كلمة “نيل أو النيل المعرفة” وما هي مشتقاتها وتصريفاتها؟ نيل Nile كلمة مشتقة من كلمة ni / nee في اللغة النوبية والتي تعني يشرب أو أشرب.. كان يسمى في عصر المصريين القدماء بحابي، ويرى البعض أنه اسم نوبي خالص أطلقه عليه الأوائل وله اشتقاقاته ودلالاته في اللغة النوبية، فاسم نيل فهو لم تعرفه دولة مصر القديمة إلا عندما قدم إليها اليونانيون وأسموا حابي بالنيل نسبة إلى إله الأنهار اليوناني نيلوس، وقد كان رمسيس الثاني من أكثر حكام مصر القديمة تحمساً لأعياد النيل حينما جعل الاحتفال بالنيل مرتين في العام، فالاحتفال الأول في نهاية مايو؛ حيث كان يعتقد المصريون القدماء أن مياه الفيضان كانت تبدأ في هذا الشهر من المنبع، والاحتفال الثاني كان في الرابع من أغسطس، حيث كان الفيضان يصل فيه إلى جبل السلسلة بالقرب من إدفو بصحراء مصر الغربية.
ويبدو أن الفراعنة وصلوا أو كادوا حسب دراسات أثرية فرعونية في بلاد النوبة وما بعدها، صوب الجنوب عبر النيل لاستكشاف منابعه؛ فالنقوش الأثرية للفراعنة منذ الدولة القديمة في مصر (300 ق. م) تشير إلى أنه كانت بين مصر وبلاد النوبة الواقعة جنوباً علاقات منذ فجر التاريخ.. كما تشير النقوش الأثرية إلى أن المصريين أسهموا في تنظيم طرق الاتصال ببلاد النوبة وما يجاورها عن طريق البر عبر الدروب الصحراوية، وكذلك عن طريق نهر النيل، واستطاعوا أن يتغلبوا علي العديد من العقبات الطبيعية في محاولة منهم للوصول إلى منابع النيل.. كما ثبت أيضاً من النقوش الأثرية أن القدماء المصريين كانت لهم علاقات تجارية مع سكان الأقاليم الواقعة على ساحل البحر الأحمر.
وقد ازدادت هذه العلاقات في عهد الملكة حتشبسوت التي زارت بلاد بونت في الصومال وإريتريا، وقد ازداد اهتمام المصريين بأمر نهر النيل وتتبع مجراه قديماً حينما قام بطليموس – وهو مصري من أصل يوناني – برحلة استكشافية رسم من خلالها خريطة وصف فيها النيل ومجراه حتى مدينة مروي، كما وصف فيها نهر العطبرة والنيلين الأبيض والأزرق.. وهو ما يشير إلى أن القدماء المصريين بحضارتهم الفرعونية قد تركوا بصماتهم وتأثيراتهم في العديد من الدول الواقعة على نهر النيل، وغيرها من الدول الأفريقية جنوب الصحراء.. ويؤكد هذا الافتراض، اتجاه بعض علماء الآثار الذين يرجحون أن بعض الآثار التي عُثر عليها في زيمبابوي ترجع إلى تأثيرات فرعونية.
ويعتبر نهر النيل من أطول الأنهار في العالم، حيث يبلغ طوله 6650 كم، وهو يجري من الجنوب إلى الشمال نحو مصبه في البحر الأبيض المتوسط، وذلك في الجزء الشمالي الشرقي من قارة أفريقيا، وينبع النيل من بحيرة فيكتوريا التي تبلغ مساحتها 68 ألف كم2، وهي ثاني أكبر بحيرة للمياه العذبة في العالم والأكبر في أفريقيا، كما تعتبر أكبر بحيرة استوائية على وجه البسيطة، وتحيط بها كل من كينيا التي تشغل 6% من شواطئها، وأوغندا التي تشغل منها 45%، وتنزانيا التي تشغل 49% الباقية منها.
ويعتبر نهر كاجيرا Kagera من الجداول الرئيسية لنهر النيل، ومن أكبر الروافد التي تصب في بحيرة فيكتوريا، وينبع من بوروندي قرب الرأس الشمالي لبحيرة تنجانيقا الواقعة إلى الجنوب من بحيرة فيكتوريا في وسط أفريقيا، ويجري في اتجاه الشمال صانعا الحدود بين تنزانيا ورواندا، وبعدما يتجه إلى الشرق يصبح الحد الفاصل بين تنزانيا وأوغندا، ومنها إلى بحيرة فيكتوريا بعدما يكون قد قطع مسافة 690 كم.
أما نهر روفيرونزا “Rovironza” الذي يعتبر الرافد العلوي لنهر كاجيرا، وينبع أيضا من بوروندي، فيلتحم معه في تنزانيا، ويعتبر الحد الأقصى في الجنوب لنهر النيل.
ويعرف النيل بعد مغادرته بحيرة فيكتوريا باسم “نيل فيكتوريا”، ويستمر في مساره لمسافة 500 كم مرورا ببحيرة إبراهيمKyoga حتى يصل إلى بحيرة ألبرت التي تتغذى كذلك من نهر سمليكي(Semliki) القادم أصلا من جبال جمهورية الكونغو الديمقراطية مرورا ببحيرة إدوارد، وبعدها يدعى “نيل ألبرت”.
وعندما يصل جنوب السودان يدعى “بحر الجبل”، وبعد ذلك يجري في منطقة بحيرات وقنوات ومستنقعات يبلغ طولها من الجنوب إلي الشمال 400 كم، ومساحتها الحالية 16.2 ألف كم2، إلا أن نصف كمية المياه التي تدخلها تختفي من جراء النتح والتبخر، وقد بدأ تجفيف هذه المستنقعات عام 1978 بإنشاء قناة طولها 360 كم لتحييد المياه من عبورها، وبعدما تم إنشاء 240 كم منها توقفت الأعمال عام 1983 بسبب الحرب الأهلية في جنوب السودان؛ وبعد اتصاله ببحر الغزال يجري النيل لمسافة 720 كم حتى يصل الخرطوم، وفي هذه الأثناء يدعى “النيل الأبيض”، حيث يلتحم هناك مع “النيل الأزرق” الذي ينبع مع روافده الرئيسية (الدندر والرهد) من جبال إثيوبيا حول بحيرة تانا الواقعة شرق القارة على بعد 1400 كم عن الخرطوم. ويشكل النيل الأزرق نحو 80% من مياه النيل الإجمالية، ولا يحصل هذا إلا أثناء مواسم الصيف بسبب الأمطار الموسمية علي مرتفعات إثيوبيا، بينما لا يشكل في باقي أيام العام إلا نسبة قليلة، حيث تكون المياه قليلة، أما آخر ما تبقى من روافد نهر النيل بعد اتحاد النيلين الأبيض والأزرق ليشكلا نهر النيل، فهو نهر عطبرة الذي يبلغ طوله 800 كم، وينبع أيضا من الهضبة الإثيوبية شمالي بحيرة تانا، ويلتقي عطبرة مع النيل علي بعد 300 كم شمال الخرطوم، وحاله كحال النيل الأزرق، وقد يجف في الصيف، ثُم يتابع نهر النيل جريانه في الأراضي المصرية حتى مصبه في البحر الأبيض المتوسط، ويبلغ عدد الدول المشاركة في حوض نهر النيل عشرا، وهي من المنبع إلى المصب كما يلي: بوروندي ورواندا وتنزانيا وكينيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية وأوغندا وإثيوبيا وإريتريا والسودان ومصر؛ ومعظم الدول المتشاطئة في الحوض – ما عدا السودان ومصر- تملك حاجتها من المياه وزيادة لكثرة البحيرات العذبة والأنهار ولكثرة هطول الأمطار فيها، بينما يعتمد السودان بنسبة 77% ومصر بنسبة 97% على مياه نهر النيل.
وقد بدأت بعض الدول بالانقلاب على الاتفاقيات والمطالبة بالمحاصة المتساوية بين دول حوض النيل والتي لم نسمع عنها في السابق؛ ومطالبة مصر والسودان بدفع أثمان المياه القادمة من بحيرة فيكتوريا حيث ينبع نهر النيل وذلك بإيحاء من إسرائيل.
وهذه المحاصة التي سمعنا عنها حديثا، من شأنها حتما إثارة الخلافات بين هذه الدول، إذ يجد المتتبع لاتفاقيات المياه التي حصلت منذ القدم أنها كانت تدور حول استغلال مياه نهر النيل بما يعود بالنفع على كل دول الحوض دون المساس بالحقوق التاريخية في هذه المياه. فبذل الجهود في هذا المجال أفضل بكثير من هدرها في الخلافات التي من شأنها إشعال الفتن بين الدول المتشاطئة بدون جدوى.
إن الأزمة مرشحة للتفاقم ولا يمكن التعامل معها، بكونها “مؤامرة” إسرائيلية فقط للعبث بمياه النيل، فهناك حقائق ومتغيرات سياسية واجتماعية وثقافية جديدة لا بد من التعامل معها وأخذها بعين الاعتبار، لكي تتمكن دول المصب من التوصل إلى اتفاقات مع دول المنبع بما يعود ذلك بالفائدة علي الجميع ويجنب المنطقة حرب مياه؛ فموضوع المياه يشكل محورا أمنيا قوميا غير قابل للعبث أو المزايدة.
إن إصرار إثيوبيا على تجاهل حقوق مصر التاريخية وحصتها في نهر النيل، بل وبناء سدود جديدة، يضع منطقة حوض نهر النيل بأكملها في دائرة الخطر، فمصر لن تقف مكتوفة الأيدي لتنتظر الموت عطشا، بل سوف يكون في وسع متخد القرار المصري أن يلجأ لكل الخيارات، وهي خيارات ليست مجهولة لمن يسأل عنها.
د. خالد محمد غازي
موقع ( التنويري )