أتمنى أن يأتى بعد موتى من ينصفنى

 

في الساعة العاشرة وخمس دقائق من صباح الأحد 19 من أكتوبر 1941 ، أسلمت الروح إلى بارئها مي زيادة الرائدة الأولى في احتراف الصحافة، المرأة المثقفة الاستثنائية بكل ما تحوى الكلمة من معنى في ذلك الوقت، ولم يعرف بخبر وفاتها ولم يمش في جنازتها إلا قلة قليلة من الاوفياء.

لم يكن أمام الكاتب خالد محمد غازى مؤلف كتاب “مي زيادة .. سيرة حياتها وأدبها” غير أن يزج قارئ كتابه في صميم حياة صحافية وأديبة عربية أثرت في أجيال تالية كثيرة وصارت ملمحا من ملامح الثقافة العربية، وعلامة من علامات الحركة النسوية، لا في مصر وبلاد الشام وحدهما، بل وفي اقطار المشرق والمغرب كافة، في وقت ندر فيه وجود نساء متعلمات ومؤثرات، في مجتمعات نسبة الأمية بين ذكورها تربو على التسعين في المئة، والنسبة تصل بين نسائها الى تسعة وتسعين بالمئة.

وسياحة خالد غازى في حياة هذه الكاتبة قربت القارئ من أحوال عصر كامل، يبتدئ في الحادى عشر من شهر شباط “فبراير” عام 1886 وهو اليوم الذى ولدت فيه مي زيادة في الناصرة بفلسطين، التى يقول عنها المؤلف إنها ايضا – موطن السيد المسيح – في إشارة واضحة للدور الذى لعبته الكاتبة وجسدته فعليا في حياتها وتأثيرات ديانتها – النصرانية – في تكوين قناعاتها الفكرية فيما بعد.

وخالد محمد غازى يزجنا في حياتها الضاجة، فيقول عنها: “لم تكتف بالكتابة في فن أدبى واحد، نبغت بعدة مجالات: الصحافة، النقد والترجمة، الشعر ، الخطابة وأدب الرسالة، كانت فيضا لا ينفذ ومعينا لا يعتريه الجفاف من الثقافة المتنوعة .

إن مغامرة الكاتب لولج عالم المرأة شديدة الحيوية والطموح، شيقة ومتعبة في آن واحد، فقد ابتدعت في الصحافة مجالات سبقت غيرها بها، فعندما أنشأت جريدة “السياسة الاسبوعية” المصرية في سنة 1926 عرضت هذه الجريدة على مي أن تتولى فيها تحرير القسم النسائى، بعدما اشتهرت مي بمقالاتها في الصحف المصرية وبأسلوبها المتمكن في الكتابة وعفويتها في التناول والعرض، لكن ميا رفضت هذا التخصص وابتكرت في تحرير – السياسة الاسبوعية – باباً جديداً أطلقت عليه اسم “خلية النحل” وكان قوامه أن يتقدم من يشاء من القارئات والقارئين ببعض الاسئلة وأن يتولى من شاء من القارئين والقارئات الاجوبة عن هذه الاسئلة، وكانت كل وظيفة الصحافية المشرفة على تحرير هذا الباب هى اختيار الاسئلة والاجوبة وإعادة صياغتها صياغة لائقة، وكان هذا الباب أول باب يقبل عليه شباب القراء في سنة 1926  وكان إقبالهم على هذا الباب يمثل جانبا من إقبال القراء على الجريدة وهكذا برهنت مي على تفهم السباق في الفن الصحافي، لكن هذا العمل كان أخر عمل ادته مي للصحافة.

وعن تأثير مي في النهوض النسائي، وبلورة أفكار أولية متأثرة بما يحدث في بداية القرن التاسع عشر في أوروبا، التى كانت تضج بالحركات النسائية، نادت مي بتحرير المرأة من ظلم المجتمع وطالبت بتعلمها وإعطائها حقوقها المهدورة التى نادت بها الاديان السماوية، وانتظمت في صفوف المصلحات وصار قلمها أحد المصابيح المضيئة في عتمة تخلف المجتمع. ولم تكن ترى في تعليم المرأة مسوغا يجعلها تصرب بتقاليد مجتمعها عرض الحائط، وقد راعها أن ترى النساء منشغلات عن أطفالهن، مقبلات على الزينة والاحاديث الفارغة، فخاطبتهن: “.. صغيرك يناديك فلماذا لا تجيبين يا أم الصغير؟ لست بالعليلة لأنى رأيتك منذ حين تميسين بقدمك تحت قبعتك والجواهر تطوق العنق منك، أنت صحيحة الجسم فلماذا لا تشعرين؟، ألا تحرقك دموع الطفل الذى لا ترين؟!..”

 الطفولة والصبا

تقول مي زيادة عن ازدواجية الولادة في بلد والعيش في بلد آخر، متسائلة عن جوهر الانتماء: “..ولدت في بلد، وأبى من بلد، وسكنى في بلد، وأشباح نفسى تنتقل من بلد إلى بلد، فلأى من بلد هذه البلدان أنتمي، وعن أى هذه البلدان أدافع؟” ويظل تساؤل مي الحزين معلقا دون إجابة.. ولدت مي زيادة لأب لبنانى “إلياس زخور زيادة” مارونى المذهب وأم فلسطينية المولد والموطن – سورية الأصل – “نزهة خليل” أرثوذكسية المذهب، وكان لمي أخ صغير، غيبه الموت فتوفي صغيرا، مما شكل هزة عنيفة للأسرة الصغيرة ولمي على الخصوص، فأسبغ الوالدان الحنان على طفلتهما الوحيدة “مارى” فلقيت الرعاية منذ نعومة أظفارها، ولقد أثرت مارى زيادة اسم “مي” فـ “مارى” اسم أفرنجى النغمة لم تألفه الاذن العربية، على حين اسم “مي” عربى خفيف، رشيق في نطقه.

وتلقت مي مبادئ القراءة والكتابة في قرية الناصرة وعلى وجه التحديد في دير المدينة الذى ذكرته في كتاباتها، ثم انتقل والدمي “إلياس” هو واسرته الصغيرة الى لبنان وعمل بالتدريس ، وبعد دراسة مي بـ “دير المدينة” التحقت بمدرسة راهبات وهى في الثالثة عشرة من عمرها، حيث أرسلها والدها لتدرس في القسم الداخلى بين عامي 1900 – 1903م نشأت في ظل تعاليم الدين كما أسلفنا في عرضنا للكتاب، أشرق في نفسها نور الحياة والايمان وخشية الله ، وعلى الرغم من أن مي قد نشأت بين أبوين يختلفان في المذهب، إلا أنها تتحيز إلى أحدهما في مذهبه بل التزمت منذ نشأتها خير ما في سجيتها، كذلك أثر في مي زيادة تغيير المدن وابتعادها عن مدينة مسقط الرأس.

في عام 1908 هاجرت الأسرة إلى مصر، وفي المدينة الكبيرة “القاهرة” انصرف والد مي إلى الصحافة، وأسس جريدة “المحروسة”، وكانت مي تحرر فيها باب ثابتا بعنوان “يوميات فتاة” كتبت فيه العديد من الآراء والمقالات الجرئية باسماء مستعارة مثل “خالد رأفت ايزيس كوبيا، السندبادة البحرية الأولى.. “.. وعن شكل مي الخارجى يحدثنا الكاتب: كانت مي ربعة القوام، لم تملأ جسمها ولم تكشف عن نحافة، مستديرة الوجه، أما لون بشرتها فحنطى مشرق باسم شفاف يجلل وجهها شعر أسود فاحم السواد.. كانت كل حاسة من حواسها وجارحة من جوارحها تنم عن ذكائها، وكل ذلك جعلها تؤثر في مستمعيها بحديثها الى جانب ما في شخصيتها من اللطف والدعة واللين، ويحدثنا خالد محمد غازى أيضا عن ثقافتها، ليكتمل لنا البورتريه الذى رسمه لمي بزواياه البارزة، المؤثرة في القارئ إلى أمد بعيد: كانت مي مثقفة، قوية الحجة توزع اهتمامها بين العلم والانوثة، ورغم اطلاعها على الافكار الغربية المتطرف منها والمعتدل ومع أن مكتبتها كانت تخلو من كتاب جديد في مذهب جديد أو رأي مبتكر ورغم سفرها المتكرر لأوروبا إلا أنها لم تتأثر بأي رأى هدام أو مخالف لشخصيتها العربية التى ظلت متمسكة بها، ولم تأخذ عادة سيئة من الغرب، بل استعملت بصرها كما استعملت بصيرتها في الكتابة وما تحمله بين ضفافها.

ويحق لنا وللكاتب أن نتساءل: مي.. ألم تقولى: “بأنه ليس للعلم والفلسفة والشعر والفن وطن”؟ فما بالك استرسلت في تساؤلاتك عن الانتماء؟!! صالونها الأطول عمراً يصف الشاعر الكبير إسماعيل صبرى مشاعره، معبرا عن ضيقه عندما تغيب مرة عن المجئ الى صالون مي الأسبوعى: روحى على بعض دور الحى صائمة كظامئ الطير صواما على الماء وهذا يقودنا الى الحديث عن الصولونات الأدبية بداية القرن الماضى، لقد لعبت الصالونات الأدبية دورا مهما في نشر الثقافة وإلقاء الضوء على إنتاج الادباء والمفكرين، والتعريف بالأداب المختلفة ودفع الادباء المغمورين الى عالم الشهرة والنجاح.

صالون مي

وكانت بداية انعقاد صالون مي عام 1913 حينما وجهت دعوة في إحدى خطبها، فقد كانت خطيبة بارعة ومحاضرة من الطراز الرفيع وفي حديثها سحر يجذب المجتمع، لعقد صالون أدبى في بيتها، فلقيت من المحاضرين تشجيعا واستحسانا كبيرين، كان صالونها الأدبى يعقد كل يوم ثلاثاء من كل أسبوع ومكث أعواما تحت رئاسة الشاعر الكبير إسماعيل صبرى، واستقطب الصالون المفكرين والكتاب والشعراء ونوعيات مختلفة من علية القوم والاثرياء والأدباء والشعراء الفقراء، وكان صالون مي فسيحا، اختارت أثاثه بنفسها، وعلقت في صدر صالونها أبياتا للامام الشافعى تقول: إذا شئت أن تحيا من الاذى وعيشك موفور، وعرضك رصين لسانك لا تذكر به عورة امرئ فكلك عورات وللناس ألسن تقدم مي في صالونها شراب الورد أو القهوة على الطريقة الشرقية وكانت تجلس في صدر صالونها ترحب بضيوفها.. وكان المترددون على صالونها يتحدثون في شتى المواضيع الفكرية والأدبية ويتكلمون بالعربية أو بغيرها من اللغات الأجنبية، أما مي فكان حديثها دائماً باللغة العربية الفصحى والتى كان رائدها في تعليمها لها “القرأن الكريم” “مصدر جميع العلوم ومصدر الحضارة العربية” كما تقول مي دائماً ذلك، رغم إتقانها لخمس لغات أجنبية: الفرنسية ، الانكليزية، الالمانية، الايطالية والاسبانية، وترجمتها للعديد من الأعمال الأجنبية.

استمر صالون مي لغاية الثلاثينيات من القرن العشرين ما يناهز الخمسة والعشرين عاما وهى أطول فترة عرفها صالون أدبى في الشرق أو في الغرب!

اذكرينى كلما كتبت كتب جبران خليل جبران يوما على بورتريه رسمه لمي زيادة عبارة : “اذكرينى كلما كتبت” كانت مي نبعا فياضا لإلهام الإدباء والشعراء والفنانين من مرتادى صالونها، فوقع في حبها أعظم مفكرى وأدباء العرب في القرن العشرين ، كالعقاد، أحمد لطفي السيد، إسماعيل صبرى ، أمين الريحانى، يعقوب صروف وغيرهم الكثير.

ولنا أن نتساءل لماذا يقع هذا العدد الكبير من أفضل الرجال الذين بنوا تصوراتهم عن الجمال على أرقى المواصفات التى استنبطوها من قراءاتهم لمواصفات الجمال في الشعر العالمي خاصة والادب عامة وفلسفة الجمال؟! يجيب الكاتب خالد محمد غازى وكيف لا! فقد كانت جميلة ، جذابة وأديبة نابغة.

وللحديث عن العلاقات العاطفية لمي بمن حولها نستحضر علاقة كتب عنها الباحثون كتبا بأكملها، وهى علاقتها بجبران خليل جبران الرسام والأديب اللبنانى الشهير، وحينما يقرأ المرء ويطبع على هذه العلاقة السامية، ستغمره الحيرة والذهول، وربما يسأل نفسه: هل من الممكن أن تنشأ علاقة حب بين رجل وامرأة دون أن يلتقيا طوال حياتهما؟! نعم.. هذا ما كان في علاقة مي وجبران! وللحديث من هذه العلاقة العاطفية الغريبة بين رجل لم يلتق امرأة ويحبها، وامرأة لم تلتق رجلا وتحبه، فنقول : كانت بداية العلاقة بينهما مبنية على أساس إعجاب مي بمؤلفات جبران، فقد بعثت له برسالة عام 1912 الى أمريكا – حيث يعيش – لتعبر له إنها في كثير من الاحيان تخالفه الرأي، لقد أعجبت مي بجبران، إعجاب المناقضة وهو أن يعجب المرء بصفات إنسان آخر يتمنى أن تكون موجودة فيه هو مي لوضوح أفكارها واستقامة سلوكها، هى في الحقيقة نقيض جبران.

اذن لقد تحول الاعجاب الأدبى إلى صداقة حميمة وعلاقة روحية متبادلة بين الطرفين لتتطور بعد ذلك بالتلميح بالحب ثم الحب الصريح! ولم تلتق مي بجبران إلا في رسائلهما ومؤلفاتهما حتى وفاته عام 1931 إثر علة أصابته في قلبه، وفي إحدي رسائلها لجبران عام 1921 قالت فيها وهى تفصح عن حبها وقلقها عليه في ثوب من الوقار والاحتشام الشرقى : “أريد أن تساعدنى وتحمينى، وتبعد عنى الأذى ليس بالروح فقط، بل بالجسد أيضا.. حدثنى عن صحتك ، وأذكر عدد ضربات قلبك، أخبرنى كيف تصرف نهارك؟ أتوسل إليك أن تتناول الادوية المقوية مهما كان طعمها ورائحتها..”

دامت المراسلة بين جبران ومي تسعة عشر عاما، وقد كان أديبها المفضل الذى وجدت فيه امانيها، وكانت هى سلواه في بلواه وغربته والهامه في كثير من إبداعاته، كتب إليها يوما : “هل تعلمين بأنى كنت أقول لذاتى، هناك في مشارق الأرض صبية ليست كالصبايا، قد دخلت الهيكل قبل ولادتها.. ووقفت في قدس الاقداس فعزمت السر العلوى الذى اتخذه جبابرة الصباح ثم اخذت بلادى بلاداً لها وقومي قوما لها..”.

 بداية العد العكسى لتحطيمها

ككل شئ في العالم يوشك أن يأفل، ككل الورود التى توشك أن تخشر تويجاتها، ككل الطيور التى كانت تحلق عاليا وعاليا وعاليا: بدأ النسر المحلق الذى تعود على القمم يعصف به الزمن وهو جريح لا يملك من أمر نفسه شيئا، فالعمر أخذ يتقدم بـ (مي) وولى عهد الجمال والشباب وخلا من حولها المعجبون وفارقها الاصدقاء وتوالت عليها النكباتَ.

ويعرض الكتاب لنكبات وأحزان الادبية والصحافية والرائدة النسائية “مي زيادة” مؤرخا تلك النكبات والاحزان ، في 24/10/1931 توفي والدها بعد داء عضال وصراع مع المرض، زاد من لهيبه ما كابد من شركائه في قطعة أرض لبنان لم يستطع أن يستخلصها لوحيدته فرحل وتركها مشكلة معقدة منغصة لحياة مي! و في 10/4/1931 توفي جبران خليل جبران رفيق طموحاتها ، لقد توفي في أمريكا، عاجلته المنية قبل الوفاء بوعده لمي في أن يلقاها وجها لوجه في لبنان!

وفي 5/3/1931توفيت أمها، ففقدت الحنان والعطف وعانت اضطربات نفسية وعاشت في وحدة رهيبة.. فكان من نتيجة كل ذلك لجوءها الى التدخين علها تجد فيه تسرية عن همومها واكتئابها ولكن الحزن الذى استبد بها كان أكبر من محاولاتها التخلص منه، فانهارت أعصابها، وكان لتدخل ورثة أسرتها في شؤونها الخاصة وإلحاحهم في مقاسمتها التركة، أبلغ الاثر في تردى صحتها حينما وجدت نفسها وحيدة أمامهم لاسند يحميها ولا قانون، استنجدت مي بأحد ابناء عمومتها المقيمين في بيروت وهو الدكتور جوزيف زيادة.. وكتبت له رسالة تصور له مرضها ويأسها من الحياة.. وكانت هذه الرسالة بداية العد التنازلى الحقيقى لتدمير حياة مي زيادة!

 إن مي لا أهل لها

في أحد الحوارات الصحافية التى أجريت مع مي زيادة تساءلت مي في إستنكار : “أنا التى أكسر الحديد، وأخنق الأطفال؟!.. إن هذا التساؤل المر يقودنا إلى حقيقة ما حدث فقد فجعت أديبتنا في ذلك الانسان “ابن عمها” الذى وثقت فيه، فكان من المتربصين بها، فبعد أن أخذ منها توكيلا عاما لإدارة ممتلكاتها إخرجها من بيتها ، ونقلها إلى مستشفي للامراض العقلية والعصبية في لبنان، وظلت فيه سبعة أشهر، عذبت وضربت حتى نقص وزنها إلى 28 كيلو جراماً! وأضربت عن الطعام، وأشاع أهلها واصدقائها أنها جنت فلم يتقدم أحد من أصدقائها لمساعدتها برغم أن الصحف كانت تنشر أخبار الاشاعات التى تروح عنها!

وفي تلك المحنة التى عانت فيها مي زيادة معاناة شديدة، والتى طعنت باعز ما لديها “عقلها” ولم تجد ناصرا أو معينا من الاصدقاء والاقارب، استطاعت جريدة “المكشوف” اللبنانية في 7 فبراير 1938 وفي عددها 135 من أن تلفت أنظار الأدباء ورجال القضاء إلى المؤامرة التى وقعت الاديبة مي في شباكها ، بفضل حملة قامت بها الجريدة، دامت أربعة أشهر..

وعن تعليق مي حول دور الصحافة في نشر الاشاعات عنها! “لقد اشتد كرهى للصحافيين، يوم نشروا خبر جنونى، وأوجدوا عند الناس في الشرق والغرب فكرة بل اعتقادا بان ؟”مي مجدوبة” ولو أن اساءتهم لى اقتصرت على ذلك الأمر، ولكن هناك ما هو امر واقظع.. أنا صحافية، وبنت صحافي ولقد كان على الصحافيين في لبنان، إن لم يكن إكراما لى بل إكراما لوالدى، أن يبدوا شيئا من الاهتمام، أو شيئا نحو زميلهم وابنه زميلهم.. إن “مي” لا أهل لها، إن أهلى هم الصحافيون، هم الادباء رجال العلم، فما كان يجدر بكم ان تحيطونى ببعض العناية عسى أن تخففوا عنى وطاة الجنون”..

وأخيرا، تم نقل مي من مستشفي الامراض العصبية الى بيت صغير في رأس بيروت استأجره لها بعض المنقذين. ولم تنته أزمة مي، إذ صعّد أهلها الطامعون بها القضية برفع دعوى حجر عليها! وكان من الطبيعى إذن بعد أن ترادفت عليها الاحزان وغذت وحيدة غريبة أن ترى الحياة مظلمة، وأن تشعر بان كرامتها مهددة بعد أن أخذت تستدين لتسد خصاصة العيش. وانتهت قضية الحجر على مي في صالح الأديبة الكبيرة، إذ صدر قرار محكمة بيروت برد دعوى الحجر في الأول من شهر حزيران “يونيو” عام 1938 . ورجعت مي زيادة، الاديبة والصحافية تجدد نشاطها الفكرى والأدبى، تقرأ الكتب وتعد المحاضرات وتكتب المقالات .

يقول الكاتب خالد محمد غازى عن ذلك: في 22 من نفس الشهر ألقت أديبتنا محاضرة قيمة في الجامعة الامريكية في بيروت موضوعها “رسالة الأديب الى المجتمع العربى”.. وكانت تلك المحاضرة – الرهان القاطع – على صحة قواها الفعلية وعمق ثقافتها وحضور ذهها.. ووقف الحاضرون جميعا بعد انتهاء المحاضرة “ونحن معهم الآن وغدا” يهتفون إعجابا بها. وصفقوا بقوة لمدة طويلة تحية لهذه الأديبة التى “خرجت عن النص” بوقت مبكر. إن المحصلة النهائية لحياة كاتبة عربية من طراز مي زيادة تجعلنا نتأمل حياة كاتباتنا العربيات المعاصرات، مالهن وما عليهن ، في مرحلة تجئ بعد عقود من مرحلة الريادة النسوية، وقد نجح الكاتب خالد محمد غازى في رسم لنا بورتريه نابضا بالحياة، لكاتبة عربية كبيرة ستبقى في الذاكرة ووجدان المثقفات العربيات طويلاً.

شيما فيصل

القدس العربي – لندن