الحـب و الجنون في حياة ميّ زيادة

 

 

 

” .. أتمنى أن يأتي بعد موتي مَن ينصفني ..”هكذا تمنت الأديبة مي زيادة ذات يوم.. وبعد أن قرأتُ كتاب ”  مي زيادة .. سيرة حياتها وأوراق لم تنشر ” للأديب الصحفي المصري خالد محمد غازي، أيقنتُ أن أمنيتها قد تحققت، وأستطيع أن أطمئن روحها الهائمة بين وديان الناصرة في فلسطين، وجبال الأرز في ذرى لبنان، وضفاف النيل الخالد على مقربة من الأهرام: أن ما تمنته قد حصل، وأن كاتبا مصريا قد أنصفها حقا وزاد على ذلك، إذ إنه بعد أن انكب على دراسة جميع ما كُتب عنها من كتب ومقالات وتحقيقات صحفية وتقارير طبية ومرافعات قضائية، وبعد أن قرأ مؤلفاتها الكاملة بإمعان وتحليل، وبعد أن نقّب في خواطرها ومذكراتها، وجاس نظره في رسائل عشاقها ومحبيها ومن أُعجبوا بها وفي جواباتها إليهم، وبعد أن تتبع نشاطها في مختلف مراحل حياتها القصيرة، منذ أن كانت طفلة لاهية حتى أصبحت فتاة ناضجة الأنوثة فاتنة الملامح، وبعد أن سهر الليالي الطويلة في مناجاة روحها واستنطاقها، بعد هذا كله، وبفعل هذا كله، وقع في غرامها.

لقد وقع المؤلّف خالد محمد غازي ـ من حيث لا يدري ـ في فخ الغرام المخبوء بين كلمات مي الرقيقة المنتقاة، وعباراتها الأنيقة المشتهاة، وسقط في شراك العشق المبثوثة في أفكارها الرومانسية وخواطرها العاطفية• وبعد أن أحس بشباك الصياد تلتف حوله وصار مثل أسد أسير، راح يناضل جاهدا من أجل حريته للحفاظ على حياد المؤرخ ونزاهة الباحث وإنصاف الناقد..  وهكذا جاء كتابه ممتعا مفيدا يجمع بين شاعرية العاشق وموضوعية كاتب السيرة، ولا يستطيع قارئ هذا الكتاب إلا أن يتملكه الإعجاب بمي والتعاطف معها، وكلما يوغل القارئ في رياض الكتاب وخمائله يزداد تعاطفه معها حتى يصير شغفا، ويزداد إعجابه بها حتى يصبح حبا.. وهكذا، ومن حيث لا يدري كذلك، يصنع المؤلفُ آلاف الغرماء له ؛من بين أولئك الذين أضحوا مغرمين بمي بعد قراءة كتابه.

أحزان الطفولة بعبارات شفافة كالنسيم، وكلمات كهمس اللمى، وبإشارات موحية ولمسات ناعمة من قلمه؛ يُنوّم المؤلف قرّاء كتابه ويقودهم بخطوات خفيفة رشيقة إلى مدينة الناصرة عام 1886 ليشهدوا معه مولد مي زيادة من أب لبناني اسمه إلياس زخو زيادة ؛وهو مسيحي ماروني المذهب يعمل معلما في مدرسة بتلك المدينة، وأم فلسطينية اسمها نزهة خليل معمر، وهي مسيحية أرثودوكسية المذهب، تمتاز بوعيها الثقافي ومطالعاتها الواسعة وانغماسها في حفظ شعر التصوف وخاصة ديوان ابن الفارض، ثم يرافقهم إلى الدير في الناصرة ؛حيث تعلمت مي وهي طفلة صغيرة، وعندما تبلغ السنة الثالثة عشرة من عمرها ويبعث بها والدها إلى مدرسة راهبات عينطورة، يشدّ المؤلف ـ وهو جوّاب آفاق ـ رحاله إلى لبنان ويتتبع تفاصيل حياتها في القسم الداخلي خلال أربع سنوات من عام 1900 إلى عام 1903، ويطيل النظر إلى ” ضفيرتيها المنسدلتين على كتفها، وشعرها الأسود الذي يزيد وجهها الملائكي المستدير جمالا وضياء “(ص 18 ) فيزداد شغفا بها وإعجابا بمواهبها المتفتحة كزهرة ربيعية.. وعندما تنتقل من مدرسة عينطورة تلك إلى مدرسة الراهبات اللعازات في بيروت، يترك هو الآخر بلدة عينطورة ويتوجه إلى بيروت ليحدد موقع المدرسة الجديدة، ويفحص محيطها، ويراقب أنشطة مي فيها.

وتتفاقم فرحة الباحث عندما تلتحق مي بوالدها الذي انتقل إلى القاهرة عام 1908 رغبة منه في تحسين أحواله المعيشية والاتصال بأسباب النهضة العربية. ومن بواعث فرح الباحث أن هجرة مي إلى القاهرة ” توافقت مع اكتمال أنوثتها، فأصبحت امرأة ناضجة آسرة الجما( ص 23 ) وأنه، وهو المصري، أدرى بشعاب القاهرة ودروبها، ويستطيع بسهولة أن يتابع مي في جميع حركاتها وسكناتها عندما جاهدت مع أبيها لتحسين وضع عائلتها المادي حيث قامت بتدريس الفرنسية لبنات العائلات الموسرة ، وعندما التحقت بجامعة القاهرة للدراسة، وعندما أخذت تنشر مقالاتها الرائعة في أكبر دوريات القاهرة كالأهرام والهلال والمقتطف، داعية إلى تحرير المرأة، وعندما نشرت كتابها الأول عام 1911، هو ديوان باللغة الفرنسية بعنوان “أزاهير حلم”، وعندما أنشأت عام 1913 صالونها الأدبي الذي استمر حتى نهاية الثلاثينات والذي كان ينعقد كل يوم ثلاثاء برئاسة الشاعر إسماعيل صبري ويحضره كبار الأدباء مثل طه حسين وأحمد شوقي وعباس محمود العقاد وحافظ إبراهيم وزكي مبارك وموسى سلامة وطاهر الطناحي ومصطفى صادق الرافعي ومصطفى عبد الرزاق ومصطفى الشهابي وخليل مطران وإبراهيم المازني وعبد الرحمن شكري وأمين المعلوف ويعقوب صروف ومحي الدين رضا وأنطون الجميل وغيرهم.

ويفتخر المؤلف ويفاخر بأن صالون ميّ كان أنجح الصالونات الأدبية وأكثرها شهرة، ويفسّر لنا أسباب النجاح بقوله: ” وفي رأيي أن هناك مجموعة من الأسباب أدت إلى نجاح هذا الصالون؛ وعلى رأس هذه الأسباب، الخصائص الذاتية لشخصية مي زيادة، فإخلاصها وشبابها وتألق نبوغها وسحر حديثها، أروى ظمأ رواد صالونها إلى السعادة الروحية، فإثرت في أدباء عصرها من الناحيتين الإنسانية والفنية، فكانت تشارك في كل حديث، وتختصر للجلساء سعادة العمر في لفتة أو لمحة أو ابتسامة، فرواد صالونها كان لا يفوتهم الثلاثاء من كل أسبوع، فإذا تعذر حضور الأديب منهم، واضطر للغياب كان كظامئ الطير حواما على الماء على حد تعبير الشاعر اسماعيل صبري، الذي اضطر للغياب عن الصالون لسبب طارئ، فكتب معتذرا عن الغياب:

روحي على بعض دور الحي حائمة كظامئ الطير حـوّاما على المـاء إن لـم أمتّـع بمـنيّ نـاظـرىَّ غـداً أنكرتُ صبحكَ يا يوم الثلاثاء “(ص81) مَن الذي أحبته مي؟ وتجوس عينا المؤلف، كنسر عاشق غيور، خلال أولئك الأدباء الذين كانوا يرتادون صالون مي الأدبي ؛ليعرف مَن هو الذي حاز على إعجابها ومال إليه فؤادها ؛ فيسترق النظر إلى ابتساماتهم وإشاراتهم ونظراتهم، ويصيخ السمع إلى كلماتهم وأحاديثهم؛ فيعمل الفكر في فحواها ومغزاها ومراميها، ثم يسمح لنفسه بالإطلاع على المراسلات الشخصية التي جرت بين مي وبين عدد من الأدباء ، سواء أكانوا من بين روّاد صالونها أم من غيرهم، خارقاً بذلك ـ عن عَمْد وسبق إصرار ـ المادة الثانية عشرة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي تمنع التدخل ” في حياة الإنسان الخاصة ومسكنه وأسرته ومراسلاته ..” فالغيرة أحيانا تدفع العاشق إلى فعل ما لا يقدم عليه وهو في حالته الطبيعية والحب ـ كما نعلم جميعا ـ كالقدر لا يمكنك تفاديه حتى إن كنتَ تملك كنزاً من الحذر.

ولأهمية هذا الموضوع، يفرد المؤلف فصلا كاملا في الكتاب بعنوان ” عاشقة ومعشوقة ” يتكون من ملفات خاصة لكل واحد من عشاق مي والمعجبين بها : جبران خليل جبران، وعباس محمود العقاد، وإسماعيل صبري، ومصطفى صادق الرافعي، وإنطون الجميل.. وعندما يجد أنهم كثر يجمع الباقين في ملف واحد عنوانه ” عشاق ومعجبون آخرون “يضم فيه أمين الريحاني، والطبيب الفيلسوف الدكتور شبلي شميل، والدكتور يعقوب صروف، والشاعر الأديب ولي الدين يكن؛ ثم يضيف قائلا بصوت تُشمّ فيه رائحة الغيرة: ” وغيرهم وغيرهم …” ساورني أول الأمر شيء من القلق على المؤلّف، وأنا أتخيّل أن الغيرة تحرق قلبه المحتدم بالعواطف والمشاعر كما تلتهم النيران بيدر غلة ثمينة في فصل الصيف، وظننت أن موضوعيته كباحث ستُنحر على مذبح الغيرة، ولكنني سرعان ما أدركت أن ولهه بمي ومجابهته لعشاقها الكثيرين لم ينالا من حياده كباحث أو إنصافه كمؤرخ؛ فقد كان يقدّر كل عاشق حق قده، وينزله منزلته اللائقة به، بعبارات مخلصة وبأسلوب مشرق ناصع لا أثر فيهما للغيرة ولا للمرارة، فهو يقول عن عباس محمود العقاد، مثلا: ” الأستاذ عباس محمود العقاد ظاهرة فذة فريدة، وفي أوائل القرن التاسع عشر سطع نجمه وذاع صيته، ربما لأنه دخل الساحة الأدبية مسلحا بأشياء كثيرة في مقدمتها شخصيته القوية، واعتزازه بنفسه وقلمه، وإقباله على المعرفة الجادة وإبحار فكره وقلمه في العديد من الميادين …” (ص 117)

وبعد أن يفحص المؤلف ملفات العاشقين والمعجبين بمي، وينبش محتوياتها، ويقرأ ما بين السطور وما وراء الحروف وما تحت الفواصل ، ليعرف مَن هو الرجل الذي أحبته مي حقا، يتوصل إلى استنتاج يريح فؤاده المُعنّى، مفاده أن علاقات مي مع الأدباء ـ وحتى الحميمة منها ـ لم تكن إلا “نوعا من الصداقة الجميلة” وأن حب الأدباء لمي لم يكن إلا إعجابا بثقافتها ونبوغها المبكر وشخصيتها الجذابة. ويرتاح لهذه النتيجة ويطمئن إليها. وعلى الرغم من أن كثيراً من الباحثين يتحدثون عن علاقة ” الحب” التي ربطت بين ميّ وجبران خليل جبران، وبينها وبين عباس محمود العقاد، فإن المؤلف يختلف معهم جميعا. وتحاور المؤلف بلطف قائلاً: لعل علاقة مي بجبران عن طريق المراسلات التي استمرت تسعة عشر عاما من 1912 حتى وفاة جبران عام 1931، هي الأقرب إلى ” الحب “.. ألا تتسامح، يا أستاذ خالد، وتقبل بذلك؟ فينكر ذلك بإصرار وينبري محاججا بقوله: ” وهل من الممكن أن تنمو علاقة حب ناضجة سليمة بين طرفين ( رجل وامرأة ) لم يلتقيا ولو مرة واحدة؟ أحسب أن تصديق هذا ضرب من الخيال والشطحات اللامعقولة لا أكثر، فأبسط معاني الحب أن تتلاقى الارواح والاجساد في رباط مقدس ” ( ص 116 ) ثم يقرر بكل وضوح : ” ما كان بين مي وجبران هو إعجاب متبادل لا يصل إلى مرتبة الحب، فلو كان حبا لقهر حاجزي الزمان والمكان والتقى العاشقان ، لكن العلاقة بينهما لم تتم ولم تتبلور إلا في تلك الرسائل التي تبادلاها .” (ص 116)

ثم يدعم المؤلف آراءه بحجج استقاها من الوثائق الكثيرة التي اطلع عليها فيقول: ” أكان جبران يتذكر مي وهو يسطّر رسائل الشوق والغرام لماري هيسكل ويقول لها: ” دعيني أصرخ بكل ما في حنجرتي من صوت: “إني أحبك” وفي نفس الوقت يكتب لمي زيادة: ” متى يا ترى تتفتح الأبواب الدهرية إذا كان هذا الحب ـ أو هذا الوهم ـ حباً صادقا لا تسليةً ظريفة .. ” (ص 116) ويسرني، في هذا الموقف أن أفضي بسرّ إلى المؤلف ـ وقد أخذتُ أتعاطف معه ـ وكنت قد اطلعتُ على هذا السرّ إبان دراستي في الولايات المتحدة في كتاب بعنوان ( نبيي المحبوب) لكاتبة أمريكية من أصل لبناني اسمها الحلو، وخلاصته أن ماري هيسكل تلك، وهي صاحبة مدرسة أهلية ومديرتها ، اكتشفت موهبة جبران الفنية فابتعثته على حسابها إلى باريس لمدة سنتين لدراسة الرسم، ثم أنفقت عليه باستمرار بعد عودته إلى أمريكا، وعلّمته كيف يكتب بالإنجليزية، ولكنها لم ترتبط معه بعلاقة جسدية، وأن جبران كان يبادلها رسائل غرامية، ومع ذلك فقد كان، خفية،ً على علاقة جسدية مع إحدى معلماتها الأصغر سناً في المدرسة.

ولعل في هذا السرّ ما يدعم رأي المؤلِّف ويريح فؤاده.. أما علاقة ميّ بعباس محمود العقاد، فلا يعدّها المؤلّف حباً، لأن العقاد كان يحب آنذاك، خلال مراسلاته الحميمة مع مي، امرأة أخرى اسمها المستعار (سارة ) وهي بطلة روايته التي تحمل الاسم ذاته، وفي رأي المؤلف، لا يمكن لرجل أن يحب امرأتين حباً كاملاً في آن واحد، ويستقي المؤلف شاهدا يدعم موقفه من كلام العقّاد نفسه حين قال: ” إذا ميّز الرجل المرأة بين جميع النساء فذلك هو الحب… أما أن يجتمع حبّان قويان من نوع واحد في وقت واحد ، فذلك ازدواج غير معهود في الطباع ..” (ص 126) وحتى لو كانت علاقتا العقاد بالمرأتين تختلفان من حيث النوع: حبّه لمي حبّ الروح وحبّه لسارة حبّ الجسد، فإن المؤلّف لا يعتبر ذلك حبّاً، لأن الحبّ الكامل في رأيه هو الذي يلتقي فيه الروحان والجسدان في رباط مقدس، كما أسلفنا،

وبعد أن يتوصل المؤلف إلى هذه النتيجة التي يرتاح إليها وتريحه، يستقر رأيه على أن جميع نصوص الغزل الشعرية والنثرية التي فاه بها رواد صالون ميّ من الأدباء كانت مجرد مجاملات تقتضيها آداب الزيارة والتعبير عن الشكر للمضيفة التي كانت ترد على تحيتهم بأجمل منها. جنون أم اكتئاب؟ ثم يتفرغ المؤلّف لقضية مهمّة تملأ نفسه حزنا وتدمي فؤاده حسرة، تلكم هي قضية جنون ميّ زيادة التي أعطت للكتاب عنوانه، فيفرد لها فصلاً مطولاً بعنوان ” محنة مي”.. وفي ظنّي أن الكتاب، جلّه إن لم يكن كلّه، يرمي أساسا إلى الإجابة على السؤال: هل جنّت ميّ حقا؟ وعلينا أن نقرأ عنوان الكتاب على أنه :(تحقيق في جنون مي)، وليس جنون ميّ ثابت.

ويحسّ القارئ بآلام المؤلّف وأوجاعه وهو يروي لنا محنة مي وكيف أن الأحزان قد تكالبت عليها بعد وفاة أبويها، وكيف أن صحتها قد تدهورت، وكيف ” تآمر” عليها بعض أقاربها الذين استنجدت بهم لمساعدتها، فحصلوا منها، سنة 1937، على توكيل عام، ثم عادوا بها إلى لبنان، وحجروا عليها، وأدخلوها مستشفى المجانين في العصفورية، حيث أمضت سبعة أشهر دون أن يتفقدها أحد من أصدقائها السابقين أو يمد لها يد العون.

وتنتعش آمال المؤلّف قليلاً عندما تقوم صحيفة المكشوف اللبنانية وبعض الأصدقاء وفي مقدمتهم أمين الريحاني، ، بحملة واسعة، أوائل عام 1938، للدفاع عن ميّ حتى تمّ لهم نقلها من مستشفى المجانين إلى مستشفى الجامعة الأمريكية.

ويتابع المؤلف بإعجاب وقائع المحاضرة التي ألقتها مي بعد ذلك في الجامعة الأمريكية حول ” رسالة الأديب إلى المجتمع العربي ” برباطة جأش وحضور ذهن وهدوء نفس، ما أتاح للمدعي العام وكبير الأطباء في لبنان دحض تهمة الجنون والحصول على قرار من محكمة بيروت برد اعتبارها. وتعود ميّ إلى مصر، ويسعد المؤلّف بعودتها، واستردادها حرية التصرف بممتلكاتها، واستئنافها نشاطها الثقافي الأدبي حيث ألقت محاضرة في الجامعة الأمريكية بالقاهرة عام 1939، ونشرت عدة مقالات، وكتبت مؤلفات لم تُنشر، منها كتاب ( ليالي العصفورية ) التي وصفت فيه معاناتها في مستشفى المجانين، ومذكراتها التي تتعرض فيها إلى حياة الأدباء الذين عرفتهم وإنتاجاتهم.

إذن، مي لم تكن مجنونة وهذا ما يُفرح المؤلف ويريحه. ولكن موضوعية الباحث في أعماقه تضطره إلى عدم إغفال شهادات مناقضة، أو مشككة على الأقل، لعدد من أصدقائها الذين زاروها بعد عودتها من لبنان، فيورد نصا من عباس العقاد يقول فيه: ” زرت الآنسة مي ورأيتها ترتجف، وهي تفتح الباب وتشير إلى المسكن الذي أمامها وتضع إصبعها على فمها تحذرني من الظلام، قالت: ألا ترى هذه الحجرات وما فيها من النور؟ إنها خالية وخاوية فلِمَ ينيرونها في هذه الساعة؟ فاتجهتُ إلى تلك الحجرات وسألتُ عاملا وجدته عند بابها، فعلمتُ منه أنهم يعدونها للتسليم في اليوم التالي وهو أول الشهر وأول تاريخ الإيجار، فلما أنبأتها بما علمتُ بدا عليها الخوف، وخطر لها أنني أخفي عنها المؤامرة أو أشترك مع المتآمرين.” (ص 183)

ثم يورد نصا آخر لموسى سلامة يقول فيه: ” كانت صورة مي في ذهني-عندما ذهبنا لزيارتها -لا تزال صورة الفتاة الجميلة الحلوة التي تضحك في تدلل… ودققنا الجرس، فخرجت لنا امرأة مهدمة كأنها في السبعين، وقد اكتسى رأسها بشعر أبيض مشعث وكان وجهها مغضنا، وقد تقاطعت فيه الخطوط وكان هندامها يبدو مهملا…وقعدنا نتحدث وجعلت تلومني لأني لم أسأل عنها وتدفقت دموعها كما لو كانت ميازيب… وجرى بكاؤها في تشنّج كأنها تلتذه، ثم هدأت وأشعلت سيجارة..وجعلت تدخن وتنفخ دخانها عليّ مداعبة، لأني أكره الدخان، وهنا استولى عليها الطرب فشرعت تصحك في إسراف يزيد على إسرافها في البكاء، وكانت تتشنج بالضحك كما تتشنج بالبكاء وتكرر هذا منه ضحك فبكاء ، مع إسرافي في الاثنين. لقد وقفت مي على أطراف ” مرقص الحياة ” على حد تعبيرها في كتابها ( ظلمات وأشعة ) قبل خمس وعشرين سنة .” (ص 184)

ويداهم الحزنُ المؤلفَ عندما تتدهور صحة ميّ نفسيّاً وجسديّاً، ويذرف دمعة حرّى بصمت عندما تُنقل إلى مستشفى المعادي بالقاهرة في حالة إعياء وإغماء حيث تسلم الروح إلى بارئها في التاسع عشر من أكتوبر عام 1941 ” وكانت وهي تسلمها مبتسمة في غفوة تفكير وتأمل.. وكأنها كانت تشعر بمجيء تلك اللحظة فتهيأت لها” كما يخبرنا المؤلف التحليل النفسي لكتابات مي هل جنّت ميّ حقاً ؟ لا يميل المؤلّف إلى إثبات جنون ميّ، لأن الجنون، كما تعرّفه المعاجم، يعني زوال العقل أو حصول اختلال فيه.

ونستشف من مجمل الكتاب أن المؤلف يرجّح أن ذلك لا ينطبق على ميّ حتى عندما كانت في مستشفى العصفورية وبعد خروجها منه مباشرة ، فقد استطاعت أن تكتب وهي في المستشفى كلاما يدل على رجاحة عقل، وألقت محاضرة بعد خروجها من المستشفى تدل على عقل منظم يقظ. وإذا لم يكن ما أصاب ميّ هو الجنون أو نوع من الجنون فماذا أصابها يا ترى؟ وما هو سرّ محنتها؟ للإجابة على هذا السؤال يستعين المؤلف بالتحليل النفسي الحديث الذي يؤكد أهمية مرحلة الطفولة في حياة الفرد، ودور اللاشعور في التأثير على سلوكه وتصرفاته. فينقب في مسيرة حياتها، وكتاباتها، وكل ما يمت إليها بصله ثم يشخّص حالتها بالكآبة. ونعود إلى كتب علم النفس فنعرف أن الاكتئاب هو من أكثر الاضطرابات النفسية شيوعا، فهو إذن يصيب النفس لا العقل. وهو على أنواع كثيرة ودرجات متفاوتة من حيث الحدّة، وأعراضه تختلف من شخص لآخر، فعند بعضهم يكون على شكل أحاسيس قاسية من اللوم وتأنيب النفس، وعند بعضهم الآخر يكون على شكل مشاعر باليأس والتشاؤم والملل من الناس. وللاكتئاب أنواع عديدة، أبسطها الاكتئاب الاستجابي الذي يحصل استجابةً لأحداث خارجية تنزل بالإنسان، كفقدان شخص عزيز، فيشعر بالحزن والإحباط والقلق، ولكن هذا النوع من الاكتئاب ينتهي بعد فترة قصيرة ، وأخطر أنواع الاكتئاب هو الاكتئاب الداخلي الذي ينشأ ويتكرر ويستمر دون وقوع أحداث خارجية ملموسة.

ويتحول المؤلّف إلى طبيب نفساني مستخدماً التحليل النفسي في تمحيص ما مرّ في حياة مي من أحداث وما أصابها من نكبات منذ طفولتها، فخلّف في نفسها ذلك الاكتئاب، مستعينا بكتاباتها ..وهكذا يصبح النقد عنده نوعا من القراءة السيكولوجية للنصوص الأدبية..ومعروف أن التحليل النفسي لم يُطبّق على النصوص السردية والشعرية كثيرا في البلاد العربية، ربما لنشأته الفرويدية ولأسباب إيديولوجية أخرى،ولكن أنصاره يقولون إن هذا النوع من النقد يساعد في إغناء النص الأدبي ويجعل له مستويات متعددة للقراءة والتأويل، ويضيف إلى العُقد الظاهرة عُقداً باطنة، ويصطحب فيه الناقدُ القارئَ إلى دهاليز اللاشعور لدى الكاتب وهو يبدع عمله الفني، وإذا كان التحليل النفسي ينصبّ عادة على الذكريات الكامنة في اللاشعور، والأساطير، والأحلام؛ فإن الناقد يطبقه على النصوص الأدبية وكأن الكتابة نوع من الحلم الجميل،ولقد أصاب المؤلِّف في تطبيقه التحليل النفسي على النصوص الأدبية التي خلّفتها ميّ زيادة وهو يحاول التوصل إلى جذور محنتها وأسباب الآلام النفسية التي عانتها، فهو يردّ اكتئاب مي إلى صراع نفسي وحزن عميق ومشاعر مضطربة، ويتتبع الأسباب ابتداء بولادتها وجذورها العائلية. ويضع يده على أول هذه المسببات وهو ما يمكن تسميته بـ ” اللاوطن” أو الإحساس بعدم الانتماء إلى وطن معين..

ويجد المؤلف ما يدعم رأيه في نص من نصوص ميّ ورد فيه ما يلي: ” وما لبث أن انقلب التفكير فيّ شعوراً، فشعرت بانسحاق عميق يذلني؛ لأني، دون سواي، تلك التي لا وطن لها.. ولدتُ في بلد، وأبي من بلد، وسكني في بلد، وأشباح نفسي تنتقل من بلد إلى بلد، فلأي هذه البلدان أنتمي؟ وعن أي هذه البلدان أدافع؟..” (ص 24) ولم تشعر ميّ أن نفسها موزعة بين البلدان فحسب، وإنما كانت موزعة بين الأسماء كذلك. فعندما ولدت اختار لها أبواها من الأسماء اسم ( ماري ) ولكنها غيّرت اسمها فجعلته (مي) لا لأنه اختصار لاسم (ماري) بالاقتصار على الحرفين الأول والأخير منه فحسب، بل، كذلك، لأن اسم (ماري) أجنبي اللفظ والرنين في حين أن (ميّ) اسم عربي أصيل يبعث في النفس الحنين، فقد كان اسم (ميّ) هو اسم محبوبة ا لشاعر الأموي ذي الرمة، التي قال فيها: خليلىّ عُدّا حاجتي من هواكما ومَن ذا يواسي النفسَ إلا خليلها ألمّـا بمـيٍّ قبـل أن تطـرح النـوى بنا مطرحـاً، أو قبلَ بينِ يزيــلهـا فألا يكن إلا تعلل ساعة قليــلا فـإنـي نافـعٌ لـي قليلـــــهــــا وهي أبيات ألقاها طه حسين حزيناً رصيناً في مطلع رثائه لها في حفل تأبينها حتى ظنّ بعض السامعين أنها من نظمه ، وقد تسمّت ماري زيادة بعدّة أسماء أخرى غير مي،ّ منها: إيزيس كوبيا، وعائدة، وكنار، وشجية، والسندبادة البحرية الأولى، ومادموزيل صهباء، وخالد، ورأفت، ووقّعت بهذه الأسماء بعض مقالاتها وقصصها.

ويتساءل المؤلِّف قائلا: ” عجباً .. كل هذه الأسماء لفتاة واحدة.. قلقة..حائرة، لم يسلم من قلقها وحيرتها حتى اسمها فيتغير بتغير الظروف والأحوال…”)ص 16) ثم يدقق المؤلف في معاناة ميّ في طفولتها حينما كانت تعيش في مدرسة داخلية في لبنان بعيداً عن أهلها الذين كانوا في فلسطين فيقول: ” إن شعورها بالكآبة والتشاؤم وهي فتاة دون الخامسة عشر من عمرها، يرجع إلى شعورها بالوحدة والاغتراب والبعد عن أهلها، فقد كانت تقضي أيام الآحاد والأعياد في المدرسة حين تنصرف رفيقاتها وزميلاتها إلى بيوتهن دونها، فوجدت دنياها الأولى في الدير مع الراهبات، حيث كانت تسرح روحها في ملكوت الألحان السماوية والتأمل الغيبي، غير أن هذه الوحدة لها عيوب ومميزات، فمن عيوبها أنها تجعل المرء يشعر بالكآبة وتفيض نفسه باليأس، كذلك نرى أن الجو الاعتزاليّ جو رهيب يحتاج إلى صبر وجلد…” (ص 21)

وعن تلك الفترة من حياة مي يقول المؤلف عن معاناتها: ” وتظل ميّ تفتش عن السعادة بين ضباب الدموع، وتسأل الله في إحدى قصائدها الفرنسية قائلة: ” يا أيها الخالق ! إن الحياة مراحل آلام، وسلسلة أوجاع، ولجة دموع، ومع ذلك فَطَرْتَ الإنسان على السرور وأعددته للسعادة، أين السعادة الموعودة؟ أفى العلا ؟ أم فى سمائك الزرقاء الجميلة بين الشموس التى لا تحصى والعوالم اللامتناهية ؟ …” (ص 38)

واستنادا إلى تحليل المؤلف النفسى لنصوص مىّ الأدبية ، يرى أن اكتئابها متجذّر فى أحزانها على فقد أشخاص عزيزين عليها ، ففى طفولتها اختطف الموت أخاها الوحيد الصغير . وقد يظن القارئ أن هذا الحدث سيصبح مجرد ذكرى باهتة مع مرور الزمن .

ولكن المؤلف يعتقد أنه خلف جراحاً فى أغوار ذاتها لم تبرأ أبداً ، لأنه عثر على أهداء صغير افتتحت به كتابها (ابتسامات ودموع ) الذى ترجمته عن الكاتب الألمانى ف مكس مولر ن تقول فيه : ” إلى العينين اللتين أطبقهما الموت قبل أن ألثمهما، إلى الابتسامة التي لا أعرف منها إلا خيالها، إلى الاسم العذب الذي لا تهمس به شفتاي دون أن تملأ عينيّ الدموع، إلى الطفل الذي رحل إلى خالقه ويتّم فيّ عاطفة الحب الأخوي، فحرمني من حنو الأخ وقبلته وابتسامته ودمعته..إلى أخي الوحيد الذي تقاسمه الأثير والثرى ..” (ص 157) أذن عاشت ميّ وحيدة في طفولتها: في المنزل ، والدير، والقسم الداخلي، وعاشت وحيدة لم تتزوج في شبابها، ” ولم تكن تعلم أن هنالك شيئا يجذب شبابها إلى التلاشي، إنه الزمن الذي هو أقوى من أي شيء آخر، لم تشغل ميّ نفسها بالمستقبل، فلم تدخر شيئا لمستقبلها ولم تختر لنفسها زوجاً يشاركها رحلة عمرها “، كما يقول المؤلف (ص 147) وقد تضاعفت هذه الوحدة عندما توفي والدها عام 1929، وتوفي جبران خليل جبران عام 1931 قبل أن يستطيع أن يفي بالوعد الذي قطعه لميّ بالعودة إلى لبنان، وتوفيت والدتها عام 1932، وبوفاتها فقدت ميّ العطف والحنان والسعادة وازداد شعورها بالوحدة والتعاسة.

إذن، فالمؤلف يرد أسباب محنة مي ومعاناتها إلى الاكتئاب ويلقي باللائمة عليه، ولكنني أود أن أخفف عن المؤلف بعض الشيء فأخبره أنه لولا ذلك الاكتئاب لما أبدعت مي روائعها الأدبية، إذ إن تاريخ الأدب يدلنا على أن الاكتئاب عامل من عوامل الإبداع الفني لدى بعض الكتّاب الذين لا يتناولون القلم إلا وهم تحت وطأة ذلك الإحساس الداخلي المؤلم، وميّ واحدة من أولئك الأدباء.

مكانة أدبية رفيعة

ويفاجئك المؤلّف في آخر الكتاب عندما يقيّم إنتاج مي الأدبي تقييماً موضوعياً ، لا أثر فيه للهوى ولا محاباة، فيستعرض أراء النقاد في أدبها، بموضوعية لم تتأثر بمحبته لها، فتراه متزناً لا يقف مع أولئك الذين كالوا الثناء والمدح والإطراء لمؤلفاتها كالشاعر كامل الشناوي، ولا مع أولئك الذين تحاملوا على مي وسخروا منها كالصحفيّ محمد التابعي، وإنما يقيّم ما قالوه بحياد تام في ضوء نصوص ميّ الأدبية ويخرج برأي مستقل..

وهكذا فإن المؤلف يرى أن إنتاج ميّ يجب أن يقيم في ضوء أدب عصرها، وأن ميّ التي لُقّبت في زمانها بـ ” سيدة القلم العربي ” و ” الأديبة النابغة ” و ” أديبة العصر ” ” كانت أهلا لكل تقدير لما قدمته للمكتبة العربية من مؤلفات، وكانت من رواد التجديد في عصرها..” ثم يردف قائلا: لا أبالغ إذا قلت إنها لو انصرفت إلى التخصص في فنّ أدبيّ واحد لأثرت المكتبة العربية والغربية أيضاً بنفائس عظيمة تصنع تياراً خالداً. إن أديبتنا خطبت وحاضرت وترجمت وفتحت صالونها للأدباء والمفكرين، وكل هذا بالطبع وزع انتاجها ومواهبها.” (ص 247 -248)

وعندما نتذكر أن مي زيادة كتبت ـ خلال حياتها القصيرة ـ ديوان شعر باللغة الفرنسية وترجمت رواية من اللغة الألمانية ورواية من اللغة الإنجليزية وروايتين من اللغة الفرنسية وألفت رواية باللغة الإنجليزية، ومارست الخطابة، وكتبت المقالة، والسيرة، والنقد، والخواطر والسوانح، والمذكرات واليوميات، والقصة، وغيرها من الأجناس الأدبية، نقتنع أن المؤلف كان على صواب في أحكامه، وفي الوقت نفسه ندرك أن المكانة الأدبية المرموقة التي تبوأتها ميّ في صرح الأدب العربي إن هي إلا نتيجة لثقافتها المتنوعة، ومواهبها المتعددة، وقريحتها المتدفقة. لا أجد خاتمة أجمل من كلمات المؤلف التي تكشف لنا عن سرّ محبته لمي وغرامه بها: إن جمال الصورة في ميّ لم يكن في لمحات وجهها وحدها، ولا في رشاقة جسمها وحركاتها، وإنما كان نبعه الصافي من أعماقها ومما أوتيت من بصيرة ملهمة وعبقرية فاتنة وأنوثة مهذبة .” (ص 30) ” وإذا كان لكل شيء بداية فحتما ستكون له نهاية..فكل زهرة مصيرها بعد النضرة والنضج إلى الجفاف والذبول .. هكذا الحال مع ميّ، سارت حياتها بخطوات سريعة إلى الهموم قبل الأوان، فعرفت الشيخوخة والمحن في ريعان شبابها، وألحّ عليها الحزن والغمّ فاكتأبت وزهدت في كل شيء حولها، وتعكّرت ملامح وجهها. وإذا كانت قد غابت صورة ميّ المحسوسة، فإن صورتها الحقيقية الخالدة ما تزال باقية في مؤلفاتها وآثارها.” (ص 32)

   د . علي القاسمي