(1)
هل تنجح الجهود الدبلوماسية في احتواء أزمة مياه النيل، بعد أن وقعت أربع من دول المنبع على الاتفاقية الإطارية لإعادة تقسيم حصص المياه فى أوغندا دون الرجوع لمصر والسودان؟
وزير الري المصري د. محمد نصر الدين علام قال “ان مصر وجهت دعوة لجميع دول الحوض لإعادة النظر فيما اتخذ من مواقف انفرادية، والعودة إلى مائدة الحوار ؛ للوصول إلى حلول ترضى جميع الأطراف، والاستغلال الأمثل لمياه نهر النيل ؛ الذي يمثل المصدر الوحيد والأساسى للمياه فى مصر؛ بينما لا يزيد على ٣ إلى ٥% من مصادر المياه فى دول المنبع”.
و أشار إلى الدعوة التى وجهتها مصر لدول الحوض، لإعادة النظر فى المبادرة الرئاسية المصرية – السودانية التى تتيح إنشاء “مفوضية عليا” بإعلان رئاسى، تعمل على جذب رؤوس الأموال والمعونات والمنح لإنشاء مشروعات تنموية فى جميع دول الحوض.
وكان د. مفيد شهاب وزير الشؤون القانونية والمجالس النيابية قد قال إن «أمن مصر المائي وحقوقها التاريخية في مياه النيل مسألة حياة أو موت لا يمكن التفريط فيها».. ومناسبة هذا الكلام كانت فشل مفاوضات دول حوض النيل ، في التوصل إلى اتفاق جامع بينها .. خلال الاجتماع الذي عقد في شرم الشيخ مؤخرا .
(2)
لم تعرف البشرية ، نهراً اقترن اسمه بالتاريخ مثلما هو نهر النيل الذي حظي بالتقديس في سائر الأزمان الغابرة باعتباره “واهب الحياة لمصر”.
لقد ألهب خيال الإنسان أكثر مما فعل أي نهر آخر في العالم ؛ و طوال قرون ظل النيل يتحدى جرأة المغامرين في بحثهم عن منابعه ؛ لا أحد يعرف أول من بدأ البحث. فأقدم المدونات التاريخية عن هذا الموضوع تقول إن باحثاً إغريقياً طموحاً، أبحر من مسقط رأسه هالكارناسوس على الساحل التركي ؛ وجاب كل الحضارات حول المتوسط، هو أول من خرج في مثل هذه المغامرة. هذا الإغريقي هو هيرودوت الذي تبع النهر حتى المصب الأول ليرى ما يستطيع “رؤيته بعيني”.
ووصف في كتاباته ما شاهده من معابد ومدافن فرعونية خلال أسفاره .. وتشير الوثائق اللاحقة إلى أن الإمبراطور الروماني نيرون أرسل حملة لاستكشاف منابع النيل، غير أنها تخلت عن مهمتها هذه في منتصفها دون أن تعثر على منبع النهر. كما أوقف العرب الذين أتوا لاحقاً بحثهم عن منابعه عند المستنقعات الشاسعة جنوب السودان وسموا تلك الأراضي بالحاجز.لقد انتظر الإنسان حتى قرابة قرن مضى؛ ليعاود استكشاف نهر النيل وراء تلك المستنقعات؛ ومن أشهر الذين خرجوا لاستكشاف إفريقيا والبحث عن منابع النيل نذكر ديفيد ليفنغستون وجون هاننغ سبيك وريتشارد فرانسيس بورتون وصامويل بيكر وهنري مورتن ستانلي. غير أن الأمر احتاج حتى عام 1937 قبل أن يتمكن مستكشف مغمور هو الألماني بيركهارت والديكر من تتبع النيل حتى أبعد منابعه جنوباً وهو نبع ماء صغير ينساب من قمة جبلية منفردة في بوروندي. كان ذلك النبع هو مكان الولادة المتواضع لنهر النيل العظيم. كما ثبت من النقوش الأثرية أن القدماء المصريين كانت لهم علاقات تجارية مع سكان الأقاليم الواقعة على ساحل البحر.
(3)
لقد نال نهر النيل عناية عظيمة من حكام مصر باعتباره شريان الحياة الانسانية في مصر ..وقد بذل هؤلاء الحكام علي مر العصور؛ جهوداً لضمان العدالة عن طريق قياس مستوى الماء في النيل فيما يخص جمع خراج الأراضي الزراعية، فالأراضي التي يغمرها النيل بالفيضان تختلف عن تلك التي يصعب ريها.. ونشأت علي ضفافه الحضارة المصرية .. وازدهرت علوم وثقافات ومهن لم يكن القدماء يعرفونها ..
وهو ما يشير إلى أن القدماء المصريين بحضارتهم الفرعونية قد تركوا بصماتهم وتأثيراتهم في العديد من الدول الواقعة على نهر النيل، وغيرها من الدول الأفريقية جنوب الصحراء.. ويؤكد هذا الافتراض، ترجيح بعض علماء الآثار أن بعض الآثار التي عُثر عليها في زيمبابوي ترجع إلى تأثيرات فرعونية .كما يشغل حوض النيل في بعض الدول كجمهورية الكونغو الديمقراطية 0.7%، وبوروندي 0.4% أي ما يساوي نصف مساحتها الإجمالية، ورواندا 0.7% أي ما يساوي 75% من مساحتها الإجمالية، وتنزانيا 2.7%، وكينيا 1.5%، والكونغو 0.7%، وأوغندا 7.4%، وإثيوبيا 11.7%، وإريتريا 0.8%، والسودان 63.6%، ومصر 10%.
وتؤكد دراسات واحصائيات مائية أن معظم الدول المتشاطئة في الحوض – ما عدا السودان ومصر- تملك حاجتها من المياه وزيادة لكثرة البحيرات العذبة والأنهار ولكثرة هطول الأمطار فيها، بينما يعتمد السودان بنسبة 77% ومصر بنسبة 97% على مياه النيل.
(4)
ومن الملاحظ في اتفاقية روما الموقعة في 15 أبريل/نيسان 1891 بين كل من بريطانيا وإيطاليا التي كانت تحتل إريتريا، واتفاقية أديس أبابا الموقعة يوم 15 مايو/أيار 1902 بين بريطانيا وإثيوبيا، واتفاقية لندن الموقعة يوم 13 ديسمبر/كانون الأول 1906 بين كل من بريطانيا وفرنسا وإيطاليا، واتفاقية روما عام 1925، كانت كلها تنص على عدم المساس بحقوق مصر التاريخية في مياه نهر النيل ؛ وعدم إقامة مشاريع بتلك الدول من شأنها إحداث خلل في مياه النيل أو التقليل من كمية المياه التي تجري في الأراضي المصرية.
ولم يكن السبب الحب الخاص الذي كانت تكنه تلك الدول لمصر، وإنما كان كبح جماح أطماع الدول الاستعمارية مقابل بعضها البعض حتى لا تندثر مصر وتذهب ضحية تحت وطأة غطرستها الاستعمارية، لا سيما بأن النيل كان وما زال عماد وجودها.وقد جاءت اتفاقية عام 1929 بين مصر وبريطانيا -التي كانت تنوب عن السودان وأوغندا وتنزانيا- داعمة لجميع الاتفاقيات السابقة، فقد نصت على أن لا تقام بغير اتفاق مسبق مع الحكومة المصرية أية أعمال ري أو كهرومائية أو أية إجراءات أخرى على النيل وفروعه أو على البحيرات التي ينبع منها، سواء في السودان أو في البلاد الواقعة تحت الإدارة البريطانية والتي من شأنها إنقاص مقدار المياه التي تصل مصر أو تعديل تاريخ وصوله أو تخفيض منسوبه على أي وجه يلحق ضررا بالمصالح المصرية، كما تنص على حق مصر الطبيعي والتاريخي في مياه النيل.
وقد حددت لأول مرة اتفاقية نوفمبر/تشرين الثاني 1959 بين مصر والسودان كمية المياه بـ55.5 مليار متر مكعب سنويا لمصر و18.5 مليارا للسودان.الا أن هناك أصابع خفية أخذت تتوغل في الدول الافريقية ، وكان من أهدافها تأليب دول الحوض على مصر لأسباب عديدة منها إضعافها وإخراجها من الطوق العربي، كما تعمل الآن على تغذية الحرب الأهلية القائمة في دارفور ؛ وتغذي أفكار انفصال الجنوب السوداني عن الدولة السودانية ، وقد أخذت بعض الدول بالانقلاب على الاتفاقيات والمطالبة بالمحاصة المتساوية في مياه النيل، ومطالبة مصر والسودان بدفع أثمان المياه القادمة من بحيرة فيكتوريا حيث ينبع نهر النيل، ، وهذا طبعا مخالف لكل القوانين والأعراف الدولية من أيام حمورابي قبل أربعة آلاف عام حتى اليوم ؛ وبدلا من الجلوس علي طاولة المفاوضات لتنمية المشاريع المشتركة وانجاحها ؛ أخذت تحاك الفتن والدسائس .
لقد حذرت تقارير دولية عديدة عبر الأعوام الماضية من حروب المياه في المستقبل، ونهر النيل مرشح لنزاعات محتملة، ما لم تتم معالجة المشاكل عبر توفير مزيد من المياه (المستنقعات والسدود العشبية تؤدي لتبخر وتسرب كميات هائلة من المياه)، ومن خلال المشاريع المشتركة والتعاون في مجالات الطاقة والأمن الغذائي.
في حقب سابقة من القرن الماضي شكلت أفريقيا عمقا حقيقيا للعالم العربي، وكان التعاون يأخذ أشكالا عدة، إلى درجة أن معظم الدول الأفريقية قاطعت إسرائيل تضامنا مع العرب. لكن العالم العربي نالت منه خلافاته ؛ وأهمل الاهتمام بأفريقيا ، مما جعل الكثير من دول القارة تعيد ترتيب أولوياتها ؛ وفقا لمصالحها ؛ فأعاد الكثير منها علاقاته بإسرائيل التي نشطت لاختراق القارة السمراء بالسياسة والمال والسلاح والمشاريع المشتركة وانشاء السدود علي النيل.
(5)
الأزمة خطيرة ؛ وتتجه إلى مزيد من التعقيد والتصعيد ؛. فدول المنبع تتكتل منذ فترة مطالبة بتعديل الاتفاقيات السابقة المنظمة لتقسيم المياه بين دول حوض النيل، على أساس أن هذه الاتفاقيات وقعت في عهود الاستعمار، وهذه الدول لم تكن تملك قرارها ؛ وبالتالي فإنها غير ملزمة بهذه الاتفاقيات ، وأن الظروف تغيرت وزادت الحاجة للمياه ، وبالتالي فإن هناك ضرورة لتقسيم مياه النيل بالتساوي؛ علي جانب مقابل تؤيد مصر و السودان الالتزام بالحقوق التاريخية؛ ويقترحان إنشاء مفوضية لدول حوض النيل العشر (دول المنبع السبع ودولتا المصب إضافة إلى إريتريا العضو المراقب في منظمة دول حوض النيل).
خالد محمد غازي