إيلي الدرعي.. ترددت حكاية غرامه بها فطلقها عزيز عيد

 

قديمًا قالوا «قلب المرأة لؤلؤة تحتاج إلى صياد ماهر» كما أن أضعف لحظات الرجل عندما تقول له امرأة: كم أنت قوي، لأن كل رجل قوي تغلبه امرأة جميلة، فجمال المرأة شيطانها، وسعادة الرجل في كلمة تخرج من بين شفتي امرأة.

إذا كان عزيز عيد قد وضع كل خبرته كأستاذ وفنان كبير في خدمة الطفلة الموهوبة «فاطمة رشدي»، فجعل منها سارة برنار الشرق، فإن إيلي الدرعي وضع ملايينه تحت قدمي فاطمة التي لم تعد طفلة، بل أصبحت امرأة كاملة الأنوثة.. وإذا كان عزيز قد منحها الشهرة، فإنه لم يستطع أن يمنحها الثروة.. لكن الدرعي منحها الثروة والغنى.. ففي الوقت الذي كان عزيز يصنع مجدها الفني كان الدرعي يتحمل تكاليف هذا المجد.

ولأن حياة فاطمة لم تكن تصلح للتعايش بين عاشق الفن «الفقير» وعاشق الفنانة «الثري» فكان لابد من انسحاب أحدهما.. وبالفعل فضل عاشق الفن الانسحاب تاركًا المجال لصاحب الملايين عاشق الفنانة، ليرفع الستار عن بطل لكن من نوع جديد!

والحقيقة أنه عقب انسحاب فاطمة من فرقة رمسيس المسرحية وتكوين فرقتها الخاصة بها لم تكن الإمكانيات المادية المتاحة لديها تتحمل جو المنافسة الشرس الذي ساد بين الفرقة الجديدة وفرقة رمسيس، ولما لم يمتلك عزيز عيد المال باع صالون بيته بمائة جنيها لتستمر فرقة «فاطمة رشدي» وقدمت أول أعمالها رواية «الحب» أو«أدريان ليكوفرير» من تأليف سارة برنار وترجمة حبيب جاماتي.. وروايات أخرى.. ولكن كل محاولات إنقاذ الفرقة باءت بالفشل برغم النجاح الذي حققته إلا أنها أفلست في النهاية، وظلت فاطمة وعزيز يفكران في حل لمشكلتهما، فالفرقة يجب أن تبدأ موسمها الثاني وتستمر.. ولكن من أين المال؟ وتسوق المصادفة إلى طريق فاطمة أحد رجال البورصة «إيلي درعي» المعجب بها، والذي يتابع أعمالها.. ولما عرف المشكلة وضع لها الحل.. ولم يكن سوى رصيد بمبلغ عشرة آلاف جنيه مرة واحدة وبدأت الفرقة موسمها الجديد، فقد توافرت لعزيز عيد الأموال التي تجعله قادرًا على تحقيق حلمه كمخرج وتحقيق أحلام حبيبته وزوجته.. في نفس هذا العام ١٩٢٧ قدمت فاطمة رشدي أول عمل لها على الشاشة الفضية كممثلة وهو فيلم «فاجعة فوق الهرم».

وتؤكد أنها تعرّفت على «إيلي الدرعي» المليونير الجزائري الأصل وكان شديد الإعجاب بها وتطورت العلاقة بينهما إلى حب كبير، لدرجة أنه وضع أمواله كلها تحت تصرفها بصفته شريكًا لها هي وعزيز عيد.. ولكن الإشاعات التي رددها البعض اضطرت عزيز إلى تطليقها؛ ليبدأ سيناريو الدرعي الجديد يتجسد على خشبة مسرح حياتها.

وتقول: بدأت علاقتي بالدرعي تتحول من الإعجاب إلى الحب بعد أن انتشلنا من الخسائر الفادحة التي لحقت بالفرقة في رحلتها إلى بيروت وبغداد ودمشق، وكنت قد قررت حل الفرقة، لكن الدرعي تحمل كل النفقات والخسائر لأنه لا يريدني أن أعيش بعيدًا عن عالمي الذي أحبه ويخاف علىَّ من الضيق أو الانفعال.. ودعاني إلى رحلة لأوروبا لإراحة أعصابي على أن نعود لمواصلة العمل في الفرقة وحجز لنا جناحًا خاصًا على إحدى البواخر الفاخرة.

أول رحلة

وكانت هذه هي أول مرة تسافر فيها فاطمة إلى أوروبا وقد أغدق الدرعي عليها الكثير من المال والمجوهرات وكل ما تتمناه.. وتسترجع فاطمة هذه الذكريات بالقول: كان الدرعي كريمًا لدرجة لا يمكن تصورها.. وقلت له طالما إنك مُصر على استمرار الفرقة بعد عودتنا، فإنني أتمنى رؤية مسارح أوروبا العظيمة وأن أتعرف على أحدث ما وصلت إليه من تطور حتى يمكنني الاستفادة منها في الأعمال التي سوف أقوم بتقديمها في فرقتي.. كما أحب أن أتعرف على الفنانين الكبار والمجتمع الأوروبي.. وضحك الدرعي وقال: “ألم يكفك ما ضاع من أموال في الفترة الماضية ولم تحققي النجاح الذي تحلمين به!!”

وكان ردي قاطعًا: “تنجح المرأة بالإصرار على ما تريد وليس بالمال وحده” فربت على يدي في حب كبير قائلًا:

– «يا فاطمة» أنا مستعد لإنفاق آخر مليم في ثروتي من أجل إسعادك، وليس لي شاغل آخر غير ذلك.

فترد فاطمة: السعادة لا تأتي بالمال، وإنما هي بنت الكفاح والتعب ومن يظن أنه يبلغ السعادة بالمال كمن يحاول أن يأكل النقود بدلًا من الخبز، إن السعادة تحب أن ترى الباحثين عنها يكابدون ويضحون من أجل الوصول إليها.

فكان قوله «أنت فيلسوفة كبيرة يا بطة» «وهكذا كان الدرعي يحب أن يناديها عندما يكون سعيدًا».

– هذه ليست فلسفة بل هي الواقع بعينه والدليل على ذلك أنك مليونير ولا تستطيع أن تجد سعادتك إلا معي.

– حسن.. أنا تحت أمرك في كل ما تطلبينه.

– أنت كريم يا إيلي لأن الكريم في نظري هو من يفكر في إسعاد الآخرين قبل أن يفكر في حقوقه.

وطافت «بطة وإيلي الدرعي» الكثير المدن والعواصم الأوروبية عاشت خلالها أيامًا تلمس بيديها كل ما كانت تحلم به وأكثر.. سهرت في مسرح «الليدو» الشهير بباريس، وارتدت فساتين «نابولي» الشهيرة ووضعت على كتفها الفراء الذي اشتراه إيلي لها من روما، كما تطوق عنقها ويديها بمجموعة من المجوهرات النفيسة التي أهداها إياها في جنيف.

وتقول: في أوروبا كان «إيلي» يغار علىّ من كل الرجال حتى إنه كان يطوِّقني بذراعه أثناء سيرنا في الشارع وكأنه يخاف أن أهرب منه أو يخطفني أحد.. لقد تأكدت من حب الدرعي لي ونحن في باريس، فبعد إحدى السهرات أصابتني وعكة خفيفة، وعلى الفور استدعى الطبيب وكان في غاية القلق والجزع ولم يكف عن ترديد جملة «حسدوك الأجانب.. الله ينكد عليهم» والواقع أنه في باريس رأت «بطة» كل شيء كانت تحلم به وربما لم تكن تحلم بذلك يومًا.. دخلت المعارض والمتاحف والمسارح والكازينوهات وعلب الليل، وتعرفت بعدد كبير من الفنانين مثل مستنحيت – سيسيل سوريل – شارل بوابيه – جوزيف بيكر.. كما حضرت ليالي «ماركيز» الحمراء الماجنة.. وتذكر فاطمة تعليق «ماركيز» عندما رأى وجنتيها تتوردان خجلًا وحياءً بقوله بأنها تذكره بزوجة الملك «لويس الرابع عشر» التي كانت تستدعي الطبيب يوميًا للتغلب على الخجل الذي تشعر به من الحكايات الصريحة الجريئة التي كانت تروي في البلاط الفرنسي.

وضحكت فاطمة رشدي قائلة: “إذن فسأجيء إلى قصرك دائمًا بصحبة الطبيب”. ومن باريس إلى «دوفيل» وتؤكد فاطمة أنها كانت أول فنانة مصرية تدخلها.

وكان الدرعي ينفق ببذخ شديد في سعيه الدائم لإرضائها وإسعادها لدرجة أنه دفع ألف جنيها – وهو مبلغ ضخم جدًا وقتها – حتى تتمكن من دخول أحد نوادي القمار بعد أن رفض صاحبه دخولها بسبب صغر سنها، وخسر الدرعي ليلتها عشرين ألفًا على مائدة القمار.

وتؤكد فاطمة: أن الدرعي استطاع بنقوده أن يجعلها تعيش كملكة أثناء وجودهما في أوروبا، حتى إن الشباب الأثرياء هناك كانوا يحيطون بها وكل واحد منهم يأمل في أن تقبل دعوته على الغداء أو السهر أو رحلة إلى الضواحي.

في باريس كانت «سارة برنار الشرق» تبحث عن الفن في كل شيء.. تهتم بالمسرح وتصميمه ونظامه وما هو الفرق بين مسرح الدراما والاستعراض من ناحية الحجم والشكل.. وفي عاصمة النور التقت بالشاعر «بيرم التونسي» فوجدتها فرصة للاتفاق معه على كتابة مسرحية بالعامية المصرية.. وبعد العودة إلى القاهرة وضع الدرعي كل أمواله تحت تصرف الفرقة وصاحبتها قائلًا:

– اطلبي ما تشائين فأنا أعلم أن الفرقة هي البحر الذي لا يكف عن طلب المزيد.

فأجابت فاطمة رشدي: فلتعتبر هذا المال قرضًا أرده إليك عندما تتحسن الظروف.. وضحك الدرعي قائلًا:

– المنح خير من الإقراض عندي، لأن العاقبة واحدة في الحالتين وهي أنك لن تستطيعين السداد، لذلك لا أحب أن يسبب لك المال مشكلة أو قلقًا.

وبدأت فاطمة في تقديم المسرحيات مثل: «إبراهيم باشا»، و«الكابورال سيمون»، و«حواء»، و«مدام سان جين» ورغم الخسارة الكبيرة التي يتحملها إيلي ظل متمسكًا بها.. وتقول عن ذلك: «إنني لم أكن أعبث أو أعيش كأنثى، كان المسرح هو زوجي وحبيبي وولدي وكنت عندما أتعرض للخسارة ألجأ لبيع مجوهراتي وعندما كان «إيلي» يكتشف ذلك كان يغضب مني ثم يعوضني عن الخسارة والمجوهرات».

وذات يوم عرض عليها الدرعي أن يعتنق الإسلام ويتزوجها، فرفضت خوفًا من انتقام اليهود منها؛ فقال لها الدرعي: أنا خايف عليكي من تقلبات الزمن ونفسي أعمل لك حاجة تنفعك في المستقبل سوف ابني لك عمارة كبيرة.

فردت فاطمة: لا.. النقود التي ستدفعها في العمارة اصرفها على الفرقة أحسن.

– كفاية الخسارة التي مضت.

– الفرقة أولًا لو كنت تحبني بصحيح.

– خلاص الفرقة.. الفرقة.. كما تريدين.

وقد ذكرت فاطمة في أكثر من مناسبة ومقابلة صحفية أن الرجل الثاني في حياتها يعد عزيز عيد كان مليونيرًا أجنبيًا عاشت معه حياة الملوك وأنه تزوجها ورفضت أن تذكر اسمه.. لقد كان الدرعي على حد قول فاطمة عجوزًا ثريًا، يحاول شراء رضائي بكل الوسائل وكان يعلم أنه لو تركني فلن يجد من ترضى به أما أنا فإن في انتظاري مليونيرات مثله أو أكثر ثروة وأصغر منه سنًا وكان الأمر بالنسبة له مسألة صراع من أجل الوجود، وعاد إيلي إلى تمويل الفرقة فقدمنا «البعث» لتولستوي و«العاصفة» لشكسبير ولم تحققا النجاح الكافي وبدأت الخسائر في التضاعف، وبدأت أشفق على الدرعي من عبء هذه الخسائر فقلت له:

– اسمع يا إيلي سأعوضك هذه الخسارة من خلال القيام برحلة إلى تونس والجزائر ومراكش وهذه البلاد لم تزرها الفرق المصرية من قبل.

فكانت إجابته:

– هذه الرحلة مغامرة كبيرة، لأن معظم أهالي هذه البلاد لا يجيدون اللغة العربية، خاصة الأغنياء الذين يرتادون المسارح ولا يمكن الاعتماد على العامة، لأنهم فقراء ولا يستطيعون دفع ثمن التذكرة.

– على أي حال سنحاول.. نحاول وسأخفض قيمة التذكرة.

– ولكن هذه البلاد تغلي بالثورة ضد الاستعمار والسفر يمثل خطورة في هذا الوقت.

– حسنًا نستغل هذه الثورة وتقدم الروايات الوطنية التي تخدم القضايا الوطنية وحركات التحرر وتلهب حماس الثوار وهذا واجب يجب أن يقوم به الفنان.

– في هذه الحالة سوف تتعرضين لمضايقات السلطات الفرنسية.

– هذا لا يهمني فهذا واجب يجب أن يقوم به كل فنان كما قلت لك.

شعرت فاطمة بالضيق من تردد «إيلي» وكانت تتوقع أن يرحب بذلك خاصة أنه من أصل جزائري، وتذكرت عزيز عيد الذي لو كان يملك كل هذه الأموال لسافر إلى هناك وأقام مسرحًا دائما لمساندة حركات الثوار.. وصاحت غاضبة في وجه الدرعي.

– أنا قررت السفر ولا مجال للمناقشة..

وتعترف فاطمة أنها فوجئت بهذا الرجل الذي يحبها بجنون يدير لها ظهره لينصرف قائلًا:

– لو حدث وسافرت فعلا فإنها سوف تكون النهاية بيننا.. ولن تحصلي مني على مليم واحد بعدها.

وسافرت إلى شمال أفريقيا في تحد واضح «للدرعي» وانتقامًا لكرامتها حسب تعبيرها، لأنها أحست أنه يهددها «بالفلوس» ولم يذكر شيئًا عن حبه لها وربما لو قال لها – بحق حبي لك لا تسافري لرضخت له وعدلت عن فكرة السفر.. لكن تهديده بمنع المال عنها جعلها تشعر وكأنها «سلعة» تُباع وتُشترى.. وهذا ما رفضته تمامًا.. وعن سبب استمرار علاقتها بالدرعي تؤكد أن ذلك بسبب انبهارها بما شاهدته في أوروبا من إمكانيات مسرحية عالية لم يكن من السهل تحقيقها في مصر دون ملايين الدرعي الكثيرة، كما أن المنافسة الساخنة مع فرقة «رمسيس» كانت تجعلها دائما تلجأ إليه للإنفاق على الفرقة بالشكل الذي يجعلها قادرة على الاستمرار في هذه المعركة.. وفي سبيل هذا كانت تحافظ على استمرار العلاقة، فهو بنك متنقل، مستعد للإفلاس من أجل سعادتها، ولهذا فقد رضيت أن تقضي وقتها معه للحفاظ على الفرقة من أجل إرساء دعائم المسرح العربي التي كانت عزيز عيد وهي يحلمان به وبانسحاب إيلي الدرعي وملايينه من مسرح حياتها بدأ مجرى الأحداث يأخذ خطًا جديدًا ويفتح المجال لظهور أبطال من نوع آخر لكنهم يلعبون نفس الدور “عشاق فاطمة رشدي”!! ولكن حياة «العز» التي عاشتها فاطمة لم تتكرر حتى إنها عانت من الفقر والحرمان بعد أن ابتعدت عنها الأضواء وأصبحت في حاجة إلى تلقي «الحسنة» من أهل الخير حتى المجلس الوطني للفنون والآداب قرر منحها إعانة شهرية قيمتها ١٥٠٠ جنيها مدى حياتها حتى لا تضطر للتسول في الشوارع بحثًا عن قوت يومها.. لقد رحل العاشق الدرعي بملايينه لتبقى «سارة برنار الشرق» تتحسر بعدها على الملايين التي أنفقتها.. والعمر الذي مضى!