د. خالد غازي
انفلت عقد المحاولات الدءوبة التى بذلتها تركيا للانضمام للاتحاد الأوروبي، بعد ثورات الربيع العربى، إذ لم يعد التمسك بأوروبا بعد عثرتها الاقتصادية مجديًا؛ لذا كان من الفطنة أن يغير رئيس الوزراء التركى رجب طيب أردوغان، ملعب سياساته إلى الشرق الأوسط.
(1)
كان الحرص التركى خلال السنوات الماضية على الانضمام للاتحاد الأوروبى، هدفاً كبيرا؛ سخرت له الحكومة التركية كافة الوسائل و الإمكانات ، إلا أن العوامل الاقتصادية والسياسية كانت بمثابة العائق الحقيقي أمام تلك الطموح التركي، لا سيما وأن الأوروبيين يعارضون فكرة عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي؛ فكانت تخرج اجتماعاتهم – كافة – خالية الوفاض، دون الوصول إلى قرار نهائى نتيجة الانقسام لرؤاهم ومصالحهم ؛ لأنهم مازالوا قائمين على سياسات التمييز والفصل العنصرى طبقاً للديانة؛ فيرفضون انضمام تركيا المسلمة لدول ذات قيم مسيحية غربية؛ مما دعا البعض منهم للذهاب للقول بأن مآلها للاتحاد يعتبر نهايته. إذن؛ فالعلاقة تمر بين الاتحاد الاوروبي وتركيا بتحول مفصلي غير متوقع، يخلف تطلعات أنقرة للانضمام إلى اتحاد القارة البيضاء، التى بذلت من أجله جهوداً حثيثة لإحراز تقدم على هذا الطريق.
وجاء أعقاب انطلاق قاطرة التحرر فى المنطقة العربية، وتطورات سياسية واقتصادية ليقلب الأمور رأساً على عقب؛ ففي وقت تمر فيه القارة الأوروبية بأزمة اقتصادية عاصفة، بات وضع تركيا فى الحسبان أمرًا ملحاًَ؛ لتجاوز الأزمة أو على الأقل تخفيف وطأتها، بينما ترفض حكومة أنقرة مساعدة الاتحاد مالياًً، مقابل الانضمام إليه؛ حيث ترى أن الاتجاه نحو الشرق، وما يشهده من تغيرات استراتيجية وحيوية، أفضل بكثير من إنقاذ تكتل دأبت على محاولات الانضمام إليه دون جدوى، بل لم ينتهِ الأمر فحسب، بل سرعان ما قوبل طلب تركيا وقتها بالتشكيك الذي وصل حد الازدراء من جانب بعض أعضاء الاتحاد الأوروبى، لأن تركيا تضم أغلبية مسلمة؛ مما أطال أمد المفاوضات دون تحديد أي مسار واضح يضمن انتساب تركيا إلي الاتحاد؛ وأخذت الأصوات تعلو في تركيا ويفكرون باتخاذ خطوة لم تكن واردة بأي شكل منذ بضع سنوات، أي التراجع نهائياً عن فكرة الانتساب إلي الاتحاد الأوروبي.
(2)
لاشك أن ضعف العلاقة بين تركيا وأوروبا، جعل تركيا تتطلع للعب دور فى منطقة الشرق الأوسط على حساب أوروبا؛ فدولة تركيا كعضو في حلف شمال الاطلسي الـ”ناتو” – تتجاوز حدودها بسوريا والعراق وإيران – تبلورت بطريقة يسيرة وسريعة لممثل مهم للغرب، فللمرة الأولى – كما كشفت الأحداث – تكون أوروبا في مسيس الحاجة لتركيا، على نقيض العلاقة التى كانت؛ أى أن العكس كان أصح؛ فقد ثبتت قوة حكومة أنقرة علي مستوي السياسة الخارجية في منطقة الشرق الأوسط خلال الأسابيع الماضية، عندما سارعت بفرض عقوبات صارمة علي النظام السورى للرئيس بشار الأسد، وأجرت التحضيرات اللازمة لتنفيذ تدخل عسكري محتمل كذلك، فضلاً عن أن جماهير الثوار العرب فى المنطقة كافة، ترى في رئيس الوزراء التركي مسلما معتدلا، يتولى رئاسة وزراء دولة متقدمة، تضم في بنيتها السكانية ثمانية وسبعين مليون نسمة، كما يعتبره الثائرون رمزاً قوياً لإمكانية الجمع بين الديمقراطية والإسلام، لاسيما مع بروز نجم التيار الإسلامى بعد تقلص نفوذ أوروبا لدى ثوار الربيع العربي.
وبرزت تركيا قوة صاعدةً في الحملة الإقليمية التي تعارض طريقة تعامل إسرائيل مع الفلسطينيين، وتحديداً منذ أن جمدت علاقاتها مع تل أبيب، بعد قتل تسعة من مواطنيها في الهجوم الذي شنته قوة كوماندوز إسرائيلية على السفينة “مرمرة” في عرض البحر المتوسط ضمن “أسطول الحرية” الذي كان متجهاً إلى قطاع غزة في مهمة إنسانية يوم الواحد والثلاثين من مايو 2010، فضلاً عن أن العلاقات مع الاتحاد الأوروبي أصابتها أمراض عضال يَصْعُب شفاؤها، وقد زاد الوضع سوءاً بعد بروز احتمال أن تستولي قبرص علي رئاسة الاتحاد في السنة المقبلة.
إلى ذلك تغيرت نظرة الشباب التركى فى لأوروبا؛ أولئك الذين كانوا يحلمون ويدعمون خطوات حكومتهم للانضمام إلى الاتحاد الاوروبى، أصبحوا الآن غير مكترسين بذلك، حتى إن رجال الأعمال أعلنوا تأييدهم للفكرة، باعتبار أن التجارة التركية تنتقل رويداً نحو الشرق؛ فضلاً عن موسم الربيع العربي في الشرق الأوسط، الذي سينعش نسبة التعاون الاستثمارى والاقتصادى مع تركيا بشكل يزيد عن السوق الأوروبية. حتى إن نتائج استطلاعات الرأي في الشارع التركي، أشارت إلى تقلص نسبة المطالبة بانضمام تركيا للاتحاد الأوروبي. فوفقاً للاستطلاع الذي أجراه صندوق “مارشال” الألماني، أيد ثمانية وثلاثين بالمائة من الأتراك – في العام 2010 – انضمام بلادهم إلى الاتحاد، بينمالم تقل نسبة التأييد في العام 2004 عن ثلاثة وسبعين بالمائة، وأوضح حقيقة تلك النسب ما علق به الوزير التركي لشئون الاتحاد الأوروبي “إيجمين باجيس” على مسألة الانضمام؛ حيث يرى أن بلاده لم تعد تتطلع للانضمام إلى الاتحاد؛ فعلى العكس من ذلك يحتاج الاتحاد إلى انضمام تركيا في الوقت الراهن، لاسيما أن القوى العاملة في تركيا قليلة؛ قياساً بالسوق المحلية الكبيرة، وقوة وضعية تركيا في المنطقة.
(3)
فى مطلع العام 2002 عندما تولى رجب طيب أردوغان رئيس الوزراء التركى مقاليد السلطة، جعل انتساب تركيا إلي الاتحاد الأوروبي هو هدفه الأساسي، ونظرًا إلي أن حزب العدالة والتنمية – الذي ينتمي إليه – كان مصمماً علي توجيه تركيا نحو الغرب، فقد عالج الحزب مسائل شائكة عدة؛ مثل: تحسين حقوق الأقليات، وتخفيف الضوابط علي حرية التعبير؛ بهدف إلزام تركيا بالمعايير الغربية قدر الإمكان، لكن البوصلة الآن دارت واتجهت نحو الدول العربية، خاصة أن واحدًا من التلويح بتلك الشعارات كان محاولة إردوغان إظهار مدى ديمقراطية نظامه؛ ليؤهله ذلك للتقارب مع الغرب بشكل عام؛ وليكون أول زعماء الدول الإسلامية توطيداً لعلاقة حكومته بأوروبا، غير أنه قوبل بالرفض الأوروبى الذى هدد أمانيه فى الوصول إلى مآربه التى سعها إليها كثيراً، وتعمد استعراض عضلاته في منطقة الشرق الأوسط، وتحولت بلاده إلى بوق يعكس سخط المنطقة على الكيان الإسرائيلى؛ بسبب سياستها مع الفلسطينيين، وبدا ذلك واضحاً عندما جمّدت حكومته علاقاتها معها.
(4)
الآراء التركية المؤيدة لإنشاء علاقات قوية مع الاتحاد الأوروبي فى الوقت الحالى لضمان استمرار عضوية تركيا في حلف شمال الأطلسي، الذي يحاول – بشتي الطرق – حل الأزمات الموجودة في البلاد العربية، والتى تشترك فى حدودها مع تركيا؛ إذ إن الشرق الأوسط الجديد أهم لها بكثير، خاصة أن علاقاتها بالدول التي قامت بها الثورات، وأطاحت بأنظمتها الاستبدادية، التى وقفت طويلاً أمام المد التركى إليها، باتت قوية ومرحبة، إضافة إلى أن تركيا أخذت مكانها فى بؤرة الدول العالمية، بعد قرارها الذي أحرج الدول الكبرى تجاه سوريا بالتدخل لوقف قمع المحتجين. ويبدو خلال المعطيات المتوفرة، أن الاتحاد الأوروبي لن يتجه نحو توسيع هوة الخلاف مع تركيا، خاصة لأنها تملك الكثير من أوراق الضغط التي تستطيع أن تستخدمها فيما بعد في حال رفضها؛ أبرزها: موقعها الاستراتيجي، ودورها الإقليمي، وهويتها الإسلامية؛ لذا فلابد أن ترسو سفينة الاتحاد الأوروبى في النهاية علي شاطئ البسفور، خاصة أن التكهنات تشير إلي أن الاتحاد بصدد منح تركيا منصبًا فخريًا، لكن دون اعتبارها شريكا كاملا، وهو الاتجاه الذي ترفضه حكومة أنقرة؛ باعتباره يمثل حلقة من التودد الأوروبى من جديد بعد تعنته أمام مطالب أردوغان بالانضمام سابقًا؛ لذا تبدلت الأوراق والأدوار، وأصبح الجميع يلعب بسياسة “شد الحبل”؛ لحين استقرار الأوضاع العالمية.