تركيا تلعب اللعبة الخطرة

 

  د. خالد غازى   

دخلت الخلافات بين تركيا واسرائيل منعطفًا خطيرًا هذه الايام، وهو ما قد ينذر بعواقب وخيمة في الشرق الاوسط، خاصة بعد محاولات رجب طيب أردوغان رئيس الوزراء التركي، إقحام العديد من الدول العربية في هذه الخلافات؛ ليرد علي اسرائيل من منطق قوة، ويؤكد انه قادر علي فرض عزلة كبيرة علي إسرائيل في المنطقة بالمزيد من تحسين العلاقات مع الدول العربية، ودول حوض البحر المتوسط؛ الأمر الذي بدأ يقلق الحكومة الاسرائيلية، خاصة أن زيارة اردوغان لمصر جاءت في توقيت الغضبة الشعبية علي إسرائيل، ومحاولات اقتحام السفارة الاسرائيلية، والمطالبة بطرد السفير الاسرائيلي من القاهرة إبان الاعتداء الاسرائيلي علي الجنود المصريين علي الحدود، والذي اسفر عن مقتل ستة من الجنود والضباط.

 

(1)

ويعتقد محللون سياسيون أن الخلاف بين تركيا وإسرائيل، والذي تفاقم بعد طرد أنقرة لسفير اسرائيل لديها، عقب تسريب تحقيق الأمم المتحدة حول أسطول الحرية، سينعكس سلباً على البلدين؛ إذ إنه قد يزيد من عزلة إسرائيل، وقد يؤدي أيضًا إلى توتر العلاقة بين تركيا والولايات المتحدة الأمريكية، خاصة أن المجتمع الدولي يعتبر أنقرة حليفاً قوياً بالنسبة لإسرائيل في منطقة الشرق الاوسط.

وقد كشفت صحيفة “يديعوت احرنوت” ، عن خلافات – لم تخرج للعلن – بين وزير الدفاع الإسرائيلى “إيهود باراك” ورئيس الوزراء الإسرائيلى “بنيامين نتانياهو”؛ حيث وجه له انتقادات حادة لطريقة تعامله مع الملف التركى. وقالت الصحيفة العبرية إن باراك وجه هذه الانتقادات خلال لقاء مغلق؛ حيث عبر باراك عن خيبة أمله من التدهور الدراماتيكى فى العلاقة مع تركيا. ونقلت “يديعوت” عن باراك قوله إنه كان من الممكن إصلاح العلاقات مع تركيا، إلا نتانياهو رضخ لضغوطات وزير الخارجية “أفيجادور ليبرمان”.. وأضاف باراك “إنه لم يكن من الضرورى أن تصل الأمور إلى هذا المستوى من التدهور فى العلاقات، وكان يمكن إصلاح الأمور، لولا تدخل ليبرمان ونائب نتانياهو “بوجى يعلون، اللذين حالا دون ذلك”.. وأِشارت “يديعوت” إلى أن باراك كان قد عبر عن خيبة أمله من تدهور العلاقات مع تركيا، إلا أنه لم يلقِّ باللوم على نتانياهو مثلما فعل الآن.

وهذه الامور تؤكد مدي القلق الاسرائيلي من تدهور العلاقات مع تركيا، والدخول لطريق مسدود معها وفتح جبهة خلافات جديدة علي الحدود التركيا؛ الأمر الذي يجعل الحدود الاسرائيلية “كرة نار ملتهبة”، بداية من القاهرة، ثم غزة، فلبنان، ثم سوريا وتركيا؛ الأمر الذي أثار غضب الشارع الاسرائيلي وزاد من حدة الانتقادات لحكومة باراك.

وفي الوقت نفسه فتحت تركيا ذراعيها وأحضانها لكل الدول المناوئة لإسرائيل والرافضة لسياستها؛ لتشكيل جبهة قوية يعتبرها الجمبع جبهة ضغط شديدة علي اسرائيل وحليفتها الكبري امريكا.

ويري البعض أن زيارة أردوغان لمصر تعتبر لعبة عالية المخاطر، خاصة أن خطاب أردوغان في القاهرة، خدّم على نحو رائع سعي تركيا لتصبح لاعبا إقليميا كبيرا في شئون منطقة الشرق الأوسط.

ناهيك عن التصفيق والتهليل الذي قوبل به خطاب أردوغان في القاهرة يعكس الموقف القوي لأنقرة ضد إسرائيل بعد عقود طويلة من التحالف الوثيق معها وتبنيها وبكل وضوح موقفا نقديا إزاءها بعد مقتل تسعة ناشطين أتراك على يد القوات الإسرائيلية الخاصة كانوا على متن سفينة المساعدات المتوجهة إلى غزة. ولا أحد ينكر سعي تركيا للقيام بدور إقليمي قوي ؛ جاء في ظل شعورها بخيبة أمل وربما بصدمة بسبب تعطيل فرنسا وألمانيا لطموحاتها التي طالما راودتها بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.

وتركيا بصفتها “دولة سنية قوية” على خلاف “إيران الشيعية” تكن مشاعر التعاطف مع قضايا المنطقة كما يبدو، وتحظى بإعجاب كبير بسبب مواقف المواجهة مع إسرائيل على خلاف معظم الدول العربية.

ويأمل أردوغان – الذي شملت جولته أيضا تونس وليبيا – أن يساهم في تعزيز الانتقال الديمقراطي الذي تشهده تلك البلدان وتقوية الفرص التجارية والاستثمارية لبلاده فيها، خاصة أن حجم التعاملات التجارية لتركيا مع منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بلغ نحو ثلاثين مليار دولار أي أنه شكل 27 في المئة من صادراتها.

ورغم الحماس الذي يحيط بالموقف التركي، فإنها قد تواجه سقفا محدودا بشأن المدى الذي يمكن أن تصل إليه؛ فمثلا رغم أنها كانت نشطة فيما يخص الأزمة السورية، فإنها لم تنضم إلى الدول الغربية في دعواتها للرئيس السوري بشار الأسد بالتنحي.وأيضا نجد أن قرار أردوغان بعدم زيارة قطاع غزة يوحي بأنه يلتزم بسياسة ضبط النفس في وجه غضب الولايات المتحدة وإسرائيل والسلطة الفلسطينية. ولايزال يحافظ علي “شعرة معاوية” في العلاقات بينه وبين الولايات المتحدة.

 

(2)

ويرى الجميع أن التوتر الكبير بين تركيا واسرائيل إثر الهجوم الدامي في العام الماضي على أسطول للمساعدات الانسانية كان متوجهًا الى غزة، سمم العلاقات بين عضو أساسي في الحلف الاطلسي والولايات المتحدة، وهو ما يزيد من عزلة إسرائيل؛ رغم ان تركيا تعتبر منذ إنشاء دولة إسرائيل قبل حوالى ستين سنة الحليف الأوثق لإسرائيل في العالم الإسلامي. كما أنها كانت أول بلد غالبية سكانه من المسلمين تعترف بدولة إسرائيل في العام 1949، ولم تربط بين الجانبين علاقات وثيقة على الصعيدين الدبلوماسي والتجاري فحسب، بل وايضًا على الصعيد العسكري.

ويلقى موقف رئيس الوزراء التركي المتشدد تجاه اسرائيل منذ مقتل تسعة اتراك إثر الهجوم على أسطول “الحرية”، الذي كان متوجهًا الى غزة في مايو 2010 في عملية رمزية لكسر الحصار الاسرائيلي عليه، تأييد الناخبين الاتراك، ويعتبر بعض المراقبين ان موقف تركيا قد يكلفها الكثير بإغضابها الحليف الأمريكي . ولكن أردوغان كسب التأييد في الانتخابات وفاز بها وهو ما كان يصبو اليه أردوغان، في حين  أن الاوروبيين يعتبرون ان العلاقات التركية – الإسرائيلية هي علاقات ثنائية، فيما هي في الحقيقة علاقات ثلاثية. اننا نعلم مدى النفوذ الذي يمارسه الإسرائيليون على السياسة الامريكية. واذا استمرت الامور على هذا النحو، فإن العلاقات التركية – الامريكية ستتأثر بلاشك. ويتوقع ان تهاجم تركيا من قبل الكونجرس الأمريكي مع مشروع قانون، يعتبر المجازر التي ذهب ضحيتها الأرمن إبان الحرب العالمية الأولى بمثابة إبادة. وقد سبق لأردوغان أن انتقد السياسة الاسرائيلية في الماضي. ولم تمحي من الاذهان الطريقة اللافتة التي غادر بها غاضبًا في العام 2009 منتدى “دافوس” اثر تبادل كلام لاذع مع  بيريز، قال خلاله: “أرى أنه من المحزن جدًا أن يصفق أشخاص لموت الكثيرين، واعتقد انهم مخطئون بالتصفيق لأعمال قتلت أناسًا” في إشارة إلى غزة. لكن حتى الآن لم يكن لمواقف رئيس الوزراء سوى تأثير محدود على المؤسسة العسكرية النافذة التي تشهد علاقاتها مع الحكومة المنبثقة من التيار الاسلامي توترًا.

علي اية حال فإن إسرائيل ستكون الخاسر الحقيقي في هذه المواجهة، لانها لا يمكن ان تخسر احد اصدقائها النادرين في العالم الاسلامي، فيما يشهد العالم العربي حالة من الغليان.

 

(3)

ولا احد ينكر ان تركيا التي يقودها حزب “العدالة والتنمية” تتطور مطامحها إلى قيادة العالم الإسلامي؛ حيث اكد محللون إسرائيليون ان أنقرة سعت لاصلاح علاقتها بالقوى الإسلامية المتطرفة في المنطقة؛ فهي تؤيد إيران، والإخوان المسلمين في مصر، وحركة المقاومة الإسلامية (حماس) في غزة، وحزب الله في لبنان. وفي نطاق السياسة التركية الخارجية الجديدة، فإن العلاقات الجيدة بإسرائيل عبء والانقضاض عليها أصبح أداة تأمل تركيا بها أن تتغلب على ارتياب العرب الشيعة التاريخي بالأتراك السنيين؛ وهذا هو السبب الذي يدعو رئيس الحكومة التركية إلى أن يحرص على مهاجمة إسرائيل أو اليهود على الدوام.

 

(4)

إن الاستجابة للمطالب لن تفضي إلى إصلاح العلاقات السياسية بشكل أساسي ؛ لأن تركيا غير معنية بعلاقات قريبة بإسرائيل، والاعتذار الإسرائيلي سيمكن الأتراك من الاستمرار على إهانة الدولة اليهودية، فعدم استعداد إسرائيل للدخول في مجابهة مع أردوغان يرى ضعفا ويستدعي إهانات أخرى. فلا مصلحة لإسرائيل، ما ظل حزب “العدالة والتنمية” تولى زمام الحكم، في تجديد التعاون الأمني والاستخباري، ولا تحل الثقة بالحكومة التركية ولا يحل كشف أسرار لها لأن أنقرة قد تنقل معلومات إلى طهران، ولهذه الأسباب أيضا لا يحل أن تخطئ إسرائيل فهم التنافس الذي نشأ بين إيران وتركيا – وهما عدوان تاريخيان- في الوقت الذي تواجه فيه إدارة بشار الأسد الموالية لإيران في سوريا قوى بعضها إسلامية تتمتع بتأييد تركيا.

علي أية حال الخلاف سيستمر طويلا؛ ولن يحل بين يوم وليلة ؛ لأن كل واحد منهم يسعي بأن يظهر للاخر انه الاقوي وصاحب النفوذ وكل دوله منهما تسعي لمصلحتها اولا.