د. خالد غازي
رحل الكاتب أنيس منصور.. لكن بقيت مقولته التي لن ترحل “السياسية هي فن السفالة الأنيقة”، وعندما كتب يوماً عن سبب كراهيته للسياسة قال إنها فن استغفال الناس، والرجل السياسي بهلوان متوازن بين الذي يقوله والذي لا يعلمه..والسياسة لعبة الدم والنار، كما أنها نشاط في داخل سيرك.
(1)
بات مقتل العقيد الليبى معمر القذافى على أيدى ثوار ليبيا، حديث العالم، وتصدر صدارة الصحافة الإسرائيلية ووسائل الإعلام المختلفة.. لكنه جاء فى شكل متناقض؛ حيث إنه لم تقدم أي تعقيبات بشكل رسمى على مقتل ” القذافي ” ، إلا أن مصادر سياسية رسمية كبيرة بالحكومة الإسرائيلية قالت بأن رحيل القذافى لا يدعو للأسف لها فهي لا تأسف علي مقتله؛ لأنه فى رأيها شخص قام بدعم الإرهاب وتمويله ضد دولتهم ومواطنيهم فى الخارج، ودعت المصادر حلف “الناتو” إلى ضمان عدم حدوث فوضى فى ليبيا والسيطرة على مخازن الأسلحة التى كانت تابعة للقذافى. المدهش حقا أن التناقض كان واضحا جدا في مواقف وسائل الإعلام الإسرائيلية ؛ فقد انحازت في الأيام الأخيرة إلى نظام الزعيم الليبي معمر القذافي؛ حيث تناغمت تغطيتها للثورة الشعبية في ليبيا مع مواقف القذافي وتصريحاته ورؤيته الإستراتيجية.. واتسمت الأيام الأولى من تغطية الإعلام الإسرائيلي للثورة الشعبية في ليبيا – إلى حد ما – بالاتزان والمهنية، حيث اعتبرت ما يحدث في ليبيا ثورة شبيهة بتلك التي حصلت في تونس ومصر، لكن مصطلحات الثورة سرعان ما اختفت، وتحولت براعم الثورة إلى حرب أهلية وأصبح الثوار “متمردين”، وبات ربيع الديمقراطية الذي يصبو إليه الليبيون يتلخص في مخاوف من سيطرة تنظيم القاعدة على مدينة بنغازي، كما أصبحت وسائل الإعلام الإسرائيلي تساوي بين الجلاد والضحية، وغابت من التغطية حقائق المجازر وسفك الدماء وإبادة الشعب، خصوصا بعد أن استعادت كتائب القذافي بعض المواقع التي حررها الثوار.
وعلى جانب آخر، احتفلت معظم الصحف الإسرائيلية بمقتل القذافي؛ حيث عنونت صحيفة “كلكاليست” الحدث بـ “سقوط الطاغية”، وموقع “كان ناعيم” بـ “نهاية الديكتاتور”، أما صحيفة “يديعوت أحرونوت”، فكتبت عنوانها “نهاية القذافى: عاش كالملك ومات كالكلب”.. وسردت جميع الصحف ووسائل الإعلام سيرته على مدار اثنين وأربعين عاما من حكم ليبيا من قمع للحريات واضطهاد معارضيه. وفى محاولة لتعزيز حالة الكراهية الإسرائيلية تجاه القذافى، نقلت صحيفة “يديعوت” عن صحيفة “الديلي ميل” البريطانية أن القذافى حاول عام 1973 إغراق السفينة البريطانية “الملكة إليزابيث 2″، وعلى متنها آلاف اليهود البريطانيين الذين كانوا فى طريقهم لإسرائيل للاحتفال باليوبيل الفضى – 25 عاما – لقيام إسرائيل، ولكن الرئيس المصري “أنور السادات” منعه من تلك الخطوة قبل ستة أشهر من بدء حرب أكتوبر.وقالت في تقريرها نقلا عن صحيفة “الديلي ميل” البريطانية أن غواصة مصرية تحت قيادة ليبية – كجزء من التعاون الدفاعى بين دول شمال إفريقيا – كانت ستغرق السفينة البريطانية بواسطة طوربيد، لكن السادات عندما علم بنية القذافى بتلك الخطوة أصدر أوامر للغواصة بالعودة فورا لميناء الإسكندرية، وبعدها دخلت مصر مع ليبيا فى مصدامات وصف السادات خلالها القذافى بالمجنون.
(2)
ويعتقد أنطوان شلحت الباحث في الشأن الإسرائيلي، أن موقف وسائل الإعلام الإسرائيلية إزاء الثورة الشعبية في ليبيا، والذي ينم عن قدر مفضوح من التناغم مع نظام العقيد القذافي، يعبر عن مصالح المؤسسة السياسية والأمنية بـ(إسرائيل)، لافتاً إلى أنه سبق لعدد من قادة هذه المؤسسة أن أعربوا عن خشيتهم أن تؤدي الأوضاع إلى “نشوء فراغ سلطوي” ربما تدخل إليه قوى عديدة، ومن إعلان تنظيم القاعدة تأييده للثورة.
وأشار شلحت إلى أنه كانت “هناك تلميحات إسرائيلية شبه رسمية إلى أن أمريكا والدول الأوروبية لا يمكنهما أن تجازفا بسقوط ليبيا في أيد خطرة، بسبب موقع ليبيا القريب من أوروبا وثروتها النفطية واحتمال وجود سلاح كيماوي بحيازتها”.. مرجحاً أن (إسرائيل) تسعى لتوفير فرصة لإعادة تصميم السياسة الأمريكية بما يتسق مع أهداف السياسة الإسرائيلية الإقليمية، وبناء قوة الردع الأمريكية بالمنطقة، وتمرير رسائل ردع إزاء الوضع في المستقبل قد تتعرض فيه أنظمة مثل الأردن والبحرين والسعودية أيضا إلى الاهتزاز. وتساءل الصحفي بوعز بوسمط في صحيفة “إسرائيل اليوم”: هل سيكون مصير معمر القذافي كمصير صدام حسين؟ ورد بالنفي القاطع.. مراهنا على بقاء النظام ومتوقعا تقسيم ليبيا ما بين القذافي ومن وصفهم بالمتمردين.
وانتدبت صحيفة “يديعوت أحرونوت” قبل أيام – وفي خطوة وصفتها بالتاريخية – مراسلها العسكري رون بن يشاي إلى ليبيا؛ ليوثق ما يحدث من قلب العاصمة طرابلس، ناقلا من هناك المواقف والانطباعات الجماهيرية المساندة للعقيد القذافي، كاشفةً أن مراسلها سافر إلى طرابلس عن طريق لندن حتى بدون تأشيرة دخول، مستغلا قرار سيف الإسلام القذافي فتح الباب أمام كل صحفي يريد تغطية ما يجري برؤى تتماشى مع النظام.
(3)
المثير للاستغراب أيضا أن وزير التطوير الإقليمي في الحكومة “الإسرائيلية” أيوب قرا قال بأن القذافي عرض الإفراج عن شاليط ليبقى بالحكم، وقال أن العقيد معمر القذافي عرض بواسطة ابنه سيف الإسلام على “إسرائيل” صفقة لوقف الهجمات العسكرية لقوات حلف شمال الأطلسي الناتو الهادفة إلى إسقاطه مقابل إطلاق سراح الجندي “الإسرائيلي” الأسير لدى حركة “حماس” “جلعاد شاليط”، وتوقيع اتفاق سلام في المستقبل بين “إسرائيل” وليبيا.
وروى “قرا” قصة هذا العرض؛ حيث قال: “هناك أصدقاء مشتركون لي ولسيف الإسلام نجل معمر القذافي، في النمسا، فقد كان أمضى في فيينا عدة سنوات خلال الدراسة، ومن أبناء صفه يوجد لي أصدقاء، تدخلوا لأجل القذافي عندنا، والرجل المركزي في الوساطة هو ديفيد لازار، مواطن نمساوي يهودي، توجه إلينا بذلك العرض”.. مضيفاً: “سيف القذافي وجه له دعوة رسمية لزيارة ليبيا من أجل التباحث في الاقتراح، وأنا شخصيًا كنت أريد أن ألبي الدعوة، ولكن السلطات الإسرائيلية المختصة رفضت إعطائي تأشيرة خروج لأسباب أمنية، فتوجهت إلى صديقي النمساوي لازار ليسافر مكاني”، وقد سافر لازار إلى ليبيا عن طريق تونس، قبل عشرة أيام، واجتمع مع سيف الإسلام القذافي وتحدث معه بالتفصيل في العرض المذكور، وأبدى القذافي الابن استعداده لزيارة “إسرائيل” شخصيًا برفقة الأسير شاليط والظهور أمام الكنيست (البرلمان الإسرائيلي)، مثلما ظهر في حينه الرئيس المصري أنور السادات. وأضاف قرا: “العرض الليبي أخذ بجدية في إسرائيل، وطلبوا من القذافي أن يكتبه خطيًا، ولكن في هذه الأثناء انهار الوضع في ليبيا فقررت السلطات الإسرائيلية وقف الاتصالات”.
(4)
والسؤال : لماذا لم ينشر الاعلام الاسرائيلي حقيقة القذافي ؟ الاجابة بسيطة للغاية أن هناك مصالح – أيا كان نوعها وشكلها – تحجب هذه الحقائق .. وبرحيل القذافي أصبحت الحقائق لا قيمة لها سياسيا ؛ فلا مانع من فضحها .. ايمانا من ساسة اسرائيل بمقولة الزعيم السوفيتي السابق ميخائيل غورباتشوف “السياسة فن الممكن ” ؛ من أجل تبرير التنازلات والمساومات والكذب أيضا .. وبعد أن انتهت التنازلات والاكاذيب إلى عدم بقاء شيء نتنازل عنه تحول هذا المفهوم إلى ” السياسة فن الكذب”