عبدالستار ناصر
منذ انتهاء الحرب الباردة بين أمريكا والمعسكر الاشتراكي، وأيضًا بعد أن تفكك هيكل الجمهوريات السوفيتية وصارت مثل شظايا على أرض غبراء، تزايد في الوقت نفسه عدد المؤلفات عن الجاسوسية والتجسس، وكشف العالم كله أوراقه السّرية القديمة باعتبارها غير صالحة أمام هيمنة القطب الواحد• وقد ظهرت أسماء في علم الجاسوسية، إلى جانب أسماء كبيرة من الباحثين، بعضهم كتب المذكرات عن حقبة الحرب الباردة ومنهم من مضى إلى الموت مسمومًا في بيته أو مقتولاً في حادث “مؤسف” كما يقال عادة عن الاغتيالات المبرمجة، لكن حصيلة من نجا وتمكن من كتابة الأسرار لم يكن قليلاً أيضًا• مئات من الكتب، ملايين الصفحات، تحكي عن الحياة السّرية لأجهزة التجسس الأمريكية والسوفيتية – سابقًا – والموساد وغيرها من حلقات التخريب والتنصّت وشراء الشخصيات من رؤساء ووزراء وقادة عسكريين، بل، وصل الأمر إلى شراء أدباء وشعراء وأساتذة كبار في اللغة والاقتصاد وعلم الاجتماع• أعمال كثيرة تمت ترجمتها إلى العربية، وأضعاف أضعافها لم تصل إلينا حتى الآن، نتذكر بعض ما نعرفه من تلك الأعمال وبخاصة “بن جوريون يستعيد الماضي” و ” جواسيس جدعون” الذي سيق لي الحديث عنه، ومن المهم أن نتذكر أيضًا >قصة الجاسوسية في العالم< التي ظهرت تحت عنوان >الأخطبوط< والتي ترجمها وديع سعيد لمؤلفها >كوكريدج< إلى جانب >جواسيس العالم< للكاتب روجر بور نيجل بلونديل، ثم الكتاب الخطير عن >الأصولية اليهودية، العقيدة والقوة< لمؤلفه ديفيد لانداو والذي ترجمه مجدي عبدالكريم والذي صدر عن مكتبة مدبولي في القاهرة عام 1994• هذه الكتب ومثيلات لها، كانت تحكى عن رحم الجاسوسية الذي أنجب الكثير من باعة المبادئ وتجار الرقيق الأبيض وسماسرة الحشيش والمال المغسول وكذلك – وربما أولاً – تجار السلاح الذين لا انتساب لهم إلى وطن أو هوية أوقومية أو زمرات دم أو عقيدة• ويستفيد كاتبنا العربي اليوم من تلك المصادر التي جاءت على شكل وثائق واعترافات وروايات وأفلام ويحاول أن يؤلف >معلوماته< مع حجم المعرفة التي سكبتها تلك الكتب المهمة عن عالم الجاسوسية، ومن هنا قرأنا كتابات جمال حمدان وعمر هارون الخليفة ومحسن الخضيري وأيمن العلوي ومجدي نصيف والعقيد أبو الطيب وصلاح أحمد زكي” وعشرات غيرهم• والآن، أمامنا كتاب جديد بعنوان >الجاسوس< مع هامش تحته يقول >طريق الخداع • سّري للغاية< لمؤلفه الشاب خالد محمد غازي وهو أديب مصري يكتب القصة القصيرة وله ما يزيد على خمسة عشر كتابًا نتذكر منها “الطوفان” الذي يبحث في خفايا >العولمة< وكتاب عن سيرة حياة “مي زيادة” وأكثر من مجموعة قصصية كلها صدرت عن وكالة الصحافة العربية في القاهرة• يمشي بنا >جاسوس< المؤلف عبر منحنيات وتعرجات سبق لمؤلفين عرب وأجانب المرور منها والتحّرش بأبطالها، ولا يخفي هو نفسه مدى استفادته من محاضر محاكمات المتهمين بالتجسس في مصر مستقاة من الوثائق التي نشرتها صحف الأهرام وأخبار اليوم ومجلة روز اليوسف، كذلك رجوعه – عند تأليف كتابه – إلى الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية التي كشف النقاب عنها الفيلسوف والمفكر الفرنسي “روجيه غارودي” ناهيك عن ثورة المعلومات وثروتها التي تصل عبر الإنترنت، وكذلك قراءة >أسرار اتصالات القادة العرب مع إسرائيل< التي فضحها جمال الدين حسين عام 1991 وكتاب >شقراوات الجواسيس< الذي كتبه محمد حسين شعبان ويحكي فيه عن بساتين المتعة وأنهار الخمور ولهيب النساء الذي يعيش فيه كبار الجواسيس حول العالم والذي يعطي فكرة >مغشوشة< عن حقائق ليس من حق فيها• هذا الكتاب يدفعك إلى جملة أسئلة عن حقيقة العقل العربي وأسباب كسله أمام جموح إسرائيل في كسب معركة الإعلام، ولماذا نام المارد العربي أكثر مما يجب في >قمقم” المعلومات ولم يكسر الزجاج من حوله حتى يشارك في حروب الحضارة والبقاء؟ أسئلة تجرح القلب حقًا وتحرق بقايا الثوب الأبيض النقّي الذي اعتدنا على التباهي بنظافته تاركين العالم يلهو بمصائرنا ويسرق أرضنا وثرواتنا وقد يتحكم – لاحقًا – حتى بنوع ملبسنا وقد يختار بنفسه نوع أطفالنا وشكل بيوتنا• الجاسوس، كتاب بين التأليف بنسبة ما هو >إعداد< عن مجموعة كبيرة من كتابات أسبق، يصل عدد المصادر إلى أكثر من أربعين كتابًا ومجلة وجريدة ليس أولها “جيروزاليم بوست” الصهيونية ولم يكن آخرها كتاب “الفاتيكان واليهود” أو اسمه البديل “الصهيونية في الستينات” لمؤلفه محمود نعناعه والصادر عن الدار القومية للطباعة والنشر في القاهرة عام 1994• لكن ذلك الرجوع إلى مؤلفات الخبراء واعترافات العملاء لم يأخذ من الكتاب إلاّ حصة لا تقاس بكمية الفوائد التي حصل عليها، والتي جعلت من “جاسوس” المؤلف جاسوسًا بحق! وقع خالد محمد غازي في خطأ صغير عندما جاء على ذكر رواية جورج أورويل المسمّاة >1984< وأطلق عليها عنوان >الأخ الأكبر< ويبدو أن كثرة تحركات الجواسيس وبعثرة الأوراق المشفّرة هنا وهناك قد أربكته أيضًا في صفحات أخرى من >طريق الخداع< وهو كما نعلم أطول طرقات الكرة الأرضية رعبًا وخطورة، فماذا يفعل الأبرياء في عالم مزحوم بالوثائق السّرية وشحنات المارجوانا وبيع الأجساد لأمراء البترول، وكيف يمكن اكتشاف الحقيقة بين طيّات الرصاص وتهريب السموم واغتيال الثوار وسفك دم المعارضين؟ كل هذا وغيره هو من عمل الجاسوسية، حتى أن رئيس جهاز الموساد السابق “شبتاي شافيت” يقول إن كل من يخدم إسرائيل حتى دون أن يدري بذلك هو عميل لها ومؤمن بها “غريزيًا” دون علمه، ومن هذا المفهوم المضحك، علينا أن نقول فورًا >ما هو حجم عمالة غوربا تشوف مادامت إصلاحات البيروسترويكا قد صارت بالنتيجة لمصلحة الولايات المتحدة الأمريكية<؟ هل كان غوربا تشوف – مثلاً – عميلاً أو جاسوسًا لأمريكا!! على أية حال، تبقى ثورة الاتصالات أول الطرق التي >بها< سينتهي دور الجاسوس كما عرفناه في القرن العشرين، ربما ينتقل العالم إلى اختيارات مبتكرة، وربما يأكل القوي الضعيف دون حاجة إلى جسد بشري “يتجسّس” على بلد العدو، هذا يعني أن مهنة الجاسوس مهددة بالانقراض “واللّه أعلم”• لقد كان في إسرائيل وحدها أكثر من “35 ألف جاسوس” داخل وخارج حدودها، فما هو عدد العملاء في دولة مثل روسيا أو أمريكا وهما على محك حرب غير معلنة بعد؟ يبدو أن الحياة الهانئة السعيدة المطمئنة صارت بعيدة المنال لا سيما إذا تذكرنا أن القتل هو أسهل أعمال أجهزة التجسس وليس أصعبها كما يظن البسطاء من الناس! كتاب >الجاسوس< مجموعة من علامات استفهام وجولة ميدانية في محيط عميق لا قرار له، ويؤكد بعض علماء الآثار أن الفراعنة كانوا أول من أسس نظام البصبصة والتجسس في مصر القديمة، وأن الحمام الزاجل كان أول رسول لنقل رسائل الجواسيس، وكان العميل الذي يُعتمد عليه هو الشخص الكافر بجميع المعتقدات، بما في ذلك ديانته واحترامه لذوية وأبناء جلدته• أنه عمل ممتع حقًا، يقع في 246 صفحة من التشويق والفائدة، ينقلك من النكسة الكبرى لسبعة جيوش عربية، وإلى دهاليز النساء اللواتي يعملن في خدمة المخابرات، ويشرح بالتفصيل حكاية الموت المسفوح على قارعة الدنيا من شمالها إلى أدق أسرارها، ومن جنوبها إلى جنونها بأسلوب قصصي اعتمد فيه المؤلف على لعبة المونتاج وكولاج التصوير الفوتوغرافي حتى يمنعك من الملل بين السطور، وأيضًا، حتى تتذكر – وأنت تقرأ – أن الجاسوس يمكنه أن يكون قربك أو قاب قوسين منك•