السلام في الأرض المقدسة

  د.خالد محمد غازي   

من المؤكد أن الصراع السياسي الداخلي الاسرائيلي والانشقاق الفلسطيني يعوق أي تسوية سياسية علي أرض الواقع ؛ فالمصالحة بين الجانبين ما زالت تراوح  مكانها ، وهو ما يفسر بعدم نجاح القادة الفلسطينيين علي عكس ما حدث مع الرئيس السادات والملك حسين في الحصول علي ثقة إسرائيل، وفي الوقت ذاته ضعف التحالف الحكومي في إسرائيل بشكل يحول بينه  المواقف المتشددة  التي تلتزمها الأحزاب الصغيرة .

 

(1)

الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر، في كتابه  “نستطيع إحلال السلام في الأرض المقدسة” – والذي صدر عن سيمون اند شوستر ( نيويورك ) – يطرح تصورا لإمكانية إحلال السلام في الشرق الأوسط، متناولاً تاريخ الشرق الأوسط والعوائق التي تقف في طريق السلام، وكيفية التوصل إلي اتفاق لإنهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي .

ومن أهم ما كتب عن هذا الكتاب ما كتبته  صحيفة ” نيويورك تايمز ” من خلال تقديم  عرض للكتاب بقلم جيرشوم جورنبرج  مؤلف كتاب “الإمبراطورية العرضية ” ( إسرائيل وميلاد المستوطنات، 1967-1977″) ، ويقول جورنبرج في بداية تعليقه علي الكتاب : أثارت الحرب علي غزة تساؤلاً حول الأسلوب الذي سيتبناه الرئيس الأمريكي باراك أوباما تجاه الشرق الأوسط، وهل سيتعامل أوباما مع الصراع الدموي الأخير بين الفلسطينيين والإسرائيليين كأحد أعراض مرض مزمن لا علاج له ؟، أم سيعتبره أزمة حادة تبرهن علي ضرورة طرح مبادرة دبلوماسية أمريكية “دراماتيكية”؟

و يبدو كتاب كارتر “نستطيع تحقيق السلام في الأرض المقدسة” أشبه بمقال متنكر في صورة كتاب. فالفكرة الرئيسة  والتي كان من الممكن طرحها في مقال من 900 كلمة، هي أنه يتعين علي أوباما أن يتبع النموذج الخاص بكارتر نفسه، وهو تحدي الحسابات السياسية، وإلقاء نفسه في عملية صنع السلام بين العرب وإسرائيل.

 

(2)

يقول جيمي كارتر: إن الهدف هو التوصل إلي حل قائم علي أساس الدولتين مع ترسيم حدود بين إسرائيل والدولة الفلسطينية المستقبلية علي أساس خطوط ما قبل حرب يونيو 1967، إلي جانب تبادل طفيف في الأراضي، ومن الضروري علي الرئيس الأمريكي باراك أوباما أن يبدأ العمل في طريق السلام ويضع أفكاره المتعلقة بالسلام علي الطاولة ويقنع كلا الطرفين بقبولها، أنه ينبغي علي الإدارة الأمريكية أن تفرق بين دعم إسرائيل ودعم السياسات الإسرائيلية .

وفي إطار استعراضه لإمكانيات السلام في المنطقة ينتقل بنا “كارتر” إلي تناول ما يراه تحديات فإحلال الأمن أولوية علي السلام؛  الأمر الذي يري المخرج منه في قوة قادرة من الفلسطينيين وحماية الإسرائيليين من العنف وهو ما لا شك ـ حسبما يري ـ سيكون له تأثيره في إقناع الرأي العام الإسرائيلي بالقيام بما هو مطلوب من أجل الحلول  الوسط للسلام.

وعلي الصعيد الفلسطيني يدعو كارتر الفلسطينيين إلي تعليق الآمال علي المجتمع الدولي ، وأن هناك التزامات فعلية قائمة  من قبل الأمم المتحدة  واللجنة الرباعية والجامعة العربية وسلسلة المفاوضات التي أشرفت عليها الولايات المتحدة، وأنه من المحتم كذلك أن تلعب الولايات المتحدة دور الزعامة في مثل هذا الجهد  لضمان تنفيذ أية التزامات ؛ فأساس التوافق الدولي هو أن  المجتمعين  الإسرائيلي والفلسطيني سيعيشان جنبا  إلي جنب  في سلام .

 

(3)

تتبدي الرؤية المثالية من قبل  ” كارتر ” حيث إن التزامات الجهات الدولية المختلفة قائمة منذ سنوات دون أن تشهد مسيرة السلام دفعة إلي الأمام ؛ وفي  الوقت ذاته فإن الدور الذي يعوله علي بلاده ما زال متعثرا ولم ينجح  في دفع إسرائيل إلي القبول بحسن نية الأسس التي يتحدث عنها .

ومن ذلك مثلا أن إشارته إلي سيادة مفهوم حل الدولتين خلال السنوات الأخيرة أمر يواجه خطر التهديد الآن .. ويستشهد في ذلك بتصريحات لكبير المفاوضين الفلسطينيين “أحمد قريع” ينتقد  فيها رفض إسرائيل  مقترحات الفلسطينيين بشأن الحدود “المستقبلية للدولة الفلسطينية” وإشارته إلي مجموعة من القضايا تغطيها قرارات الأمم المتحدة ومعاهدة جنيف واللجنة الرباعية لخريطة الطريق والمشروع العربي للسلام .

ويبدو من سياق تناوله  والاستشهادات التي يقدمها مدركا لصعوبة  الحل الذي يتحدث عنه ولعله ينطلق في ذلك من أنه حال الإقرار باستحالة الحل ؛ فإن ذلك قد يقود المنطقة إلي الدمار وفيما يشير إلي ذلك استمرار الاستيطان ؛ ويبرز التساؤل  الذي يقدمه أحد عناصر النخبة الفلسطينية من المساندين بقوة لحل الدولتين وهو أين يمكن للدولة الفلسطنية أن تقوم في ظل انتشار المستوطنات علي ما هي عليه في الضفة الغربية؟  وحسب  هذا  التساؤل فإن الإسرائيليين يقعون في القلب منا بالفعل وناقلاً عن الناشطة الفلسطينية حنان عشراوي  في لقاء أجراه  معها  فريق مركز كارتر قولها:  إن الإسرائيليين يدفعون بالأمور نحو  حل الدولة الواحدة حيث تفتقد فيه التجمعات الفلسطينية سواء التواصل السكاني أو الجغرافي .

 

(4)

ويري كارتر أنه من خلال خيار  الدولة الواحدة فإن الفلسطينيين يمكن أن يمثلوا الأغلبية من المواطنين والناخبين  علي نحو يقود إما إلي نهاية  الدولة اليهودية أو الحرمان من التصويت للمواطنين الفلسطينيين الذين  سيعتبرون في هذه الحالة مواطنين من الدرجة الثانية .. مشيراً إلي أنه إذا كان القانون يقتضي معاملة متساوية للفلسطينيين فإن استعراض الوضع بشأن سياسات الاستيطان يكشف الحد  الذي وصلت إليه سياسة الاستيلاء علي الأراضي والتحكم فيها والتي تعد  ملكية خاصة بالفلسطينيين ومدي التباين في المعاملة بين المستوطنين الإسرائيليين والسكان الفلسطينيين الأصليين .

ان هذا هو السيناريو الذي يخشاه معظم الإسرائيليين ، وأن المستقبل يتوقف علي إجابة الناخب الإسرائيلي بشأن ما يريده وفي تأكيد علي رؤيته  تلك يشير إلي تصريح لإيهود باراك لـ  صحيفة  “الجيروزاليم بوست” الإسرائيلية  يقول فيه: إن أي محاولة للمحافظة علي المناطق الفلسطينية في إطار الدولة اليهودية يقود بالضرورة إلي إما دولة غير ديمقراطية أو دولة غير يهودية حيث إنه إذا ما تم السماح للفلسطينيين بالتصويت فإن ذلك سيعني أننا دولة ثنائية القومية وإذا لم يشتركوا في التصويت فذلك سيعني أننا دولة عنصرية علي نحو ما جري  في بلفاست  أو البوسنة .

ويؤكد علي ذلك إدراك القيادة السياسية في إسرائيل لهذا الأمر ؛ فتصريح إيهود أولمرت لصحيفة “يديعوت أحرونوت” من أن إسرائيل تقترب  وخلال سنوات محدودة إلي النقطة التي سيتزايد معها توجه الفلسطينيين نحو التأكيد علي أنه لا يوجد مكان لحل الدولتين ، وأن كل ما نريده  هو حق التصويت وفي اليوم الذي يحصلون فيه علي مثل هذا الحق فإننا سنخسر كل شيء  وهو ما أكد عليه كذلك بقوله  لـ “هآرتس”: إذا ما انهار حل الدولتين فإن إسرائيل تواجه  صراع علي شاكلة جنوب أفريقيا من أجل حصول الفلسطينيين علي حق التصويت وقد حذر من وقوف المنظمات اليهودية لعدم رغبتها في مساندة ما قد تراه  دولة لا تقوم علي الديمقراطية والمساواة  لكل  مواطنيها .

ويشير كارتر إلي أنه  في داخل إسرائيل ذاتها  يوجد صراع جوهري بين قوتين سياسيتين رئيسيتين: أولئك الذين يتمنون الحفاظ علي نقاء  اليهودية وآخرين  الذين  يتمنون زيادة  سكان الدولة اليهودية  عبر الأرض المقدسة ؛ إذ إن  الأرثوذكس الذين تعد مساندتهم السياسية حيوية لتشكيل التحالف الحكومي في الكنيست يسيطرون علي نظام المحاكم مع سلطات علي نظام الزواج والطلاق وهم يفرضون قيوداً مشددة علي من يستطيع أن يصبح يهوديا فيما أنه توجد تيارات يهودية ترحب بتحول وتشجيع  المستوطنين  في الأرض المقدسة بشكل يرحل الفترة التي سيصبح فيها غير اليهود الذين  يعيشون بين نهر الأردن والبحر المتوسط أكثرية عددية.

ويشير كارتر إلي أن بعض المتطرفين سيفضلون حرمان العرب الإسرائيليين من المساواة في حق التصويت أو استبعادهم علي نحو لا يجعلهم يشكلون أغلبية، لذلك فإن تزايد السكان العرب عبر تكاثر المواليد أصبح يتم موازاته خلال تدفق الهجرة اليهودية وبتضاؤل أرقام المهاجرين من الولايات المتحدة وأوروبا عبر زيادة أولئك القادمين من الاتحاد  السوفييتي الذين يفدون إلي إسرائيل محتفظين بلغتهم الأصلية وعاداتهم ويتجهون للتصويت باعتبارهم كتلة منفصلة .

ورغم هذا الطرح من قبل كارتر ؛ والذي يتناول قضية بالغة الإشكالية ، فإنه يقدم في سياق عرضه ما يشير إلي سير إسرائيل علي طريق تقويض أي كيان فلسطيني محتمل  بمساعدة أمريكية حيث إن أنشطة الاستيطان التي تمت خلال العقود الأخيرة سواء في القدس الشرقية أو الضفة الغربية تمت بموافقة القادة السياسيين الأمريكيين وتستهدف إقامة  حقيقية دائمة علي الأرض قوضت من الآمال بإقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة ذات سيادة وتتمتع  بالتواصل الجغرافي بين الضفة الغربية وغزة تكون عاصمتها القدس الشرقية .

ويذكر كارتر أن هناك هدفين أساسيين لإسرائيل أولهما عسكري والآخر سياسي ؛ ويتمثلان في الحيلولة  دون أي تهديد للمواطنين الإسرائيليين  أو الدولة وكذا تأمين القدرة الإسرائيلية علي الدفاع من ناحية ومن  ناحية ثانية تأمين  القبول الدولي والإقليمي كعضو في المجتمع الدولي ؛ ويذكر أن إسرائيل لديها جيش قوي وحديث ومدرب جيدا  ومتفوق مقارنة بكل جيرانها خاصة منذ خروج مصر من الصراع منذ نحو 30 عاما  مضت  كمنافس  حقيقي لها ورغم ذلك فإن صغر مساحتها جعلها عرضة للتهديد والهجمات من قبل جيرانها وإن كانت هذه الرؤية غير دقيقة تماما .

 

(5)

علي الصعيد الفلسطيني يشير ” كارتر ” إلي صعوبة الوضع ؛ ففي مقابل تلك العقبات التي تواجه القضية الفلسطينية مع السياسات الإسرائيلية فإن الشقاق الفلسطيني  يهدد مستقبل الفلسطينيين أنفسهم ؛ وهو ما انعكس في أنه رغم انتخابات  1996 و2006 من أجل تشكيل سلطة  فلسطينية موحدة لتقوم بإدارة الأوضاع في الأراضي المحتلة إلا أنه يوجد علي أرض الواقع “حماس” في غزة ورئيس منتخب مع حكومة مؤقتة لم يقرها البرلمان في الضفة الغربية وتمارس مهاما في ظل حصار سياسي وعسكري إسرائيلي ؛ وقد أخفقت  الجهود  التي مارستها  السعودية ودول أخري من أجل تشكيل حكومة وحدة وطنية بين الفصيلين الفلسطينيين ؛ لعدم تلبية حماس الشروط المفروضة عليها دوليا وخاصة شروط الرباعية .

أما الخطوة الأخري الأكثر عملية علي طريق السلام التي يقترحهاكارتر  فتتمثل في تشكيل حكومة انتقالية غير حزبية مقبولة من كل من فتح وحماس يمكن أن تشرف علي إجراء الانتخابات وأن تقبل حماس الشروط الأساسية للجنة الرباعية قبل أن يتمكن  مرشحوها من المشاركة في الحكومة .