أوراق اللعبة السياسية بين واشنطن وطهران

د. خالد محمد غازي   

رغم كثرة الدلائل التي تشير إلي استبعاد العمل العسكري الأمريكي ضد إيران، فإن القيام به يبقي مطروحا أمام الولايات المتحدة، ربما ليس بوصفه >خيالا< بذاته لحل الأزمة، بل كجزء من خيارات استراتيجية تتبعها الولايات المتحدة مع طهران سواء أكان الحل الدبلوماسي أم الاحتواء.

 

(1)

الأبعاد العسكرية الأمريكية في استراتيجية التعامل مع البرنامج النووي الإيراني ليست ذات قاعدة، فكثيرا ما تهدد أمريكا، لكن سرعان ما تتراجع وتقول إن لغة الدبلوماسية والحوار قائمة، ثم سرعان ما تلوح بأن العمل العسكري قائم، فتسارع إيران لتجارب صواريخ بعيدة المدي مما يقلق مضاجع الإسرائيليين، وبالتالي يتحرك اللوبي الصهيوني في الداخل الأمريكي ليتخذ موقفا ومقرا جديدا، ويعزف علي وتر العقوبات الدولية باعتبارها الحل الأمثل، لكن سرعان ما ينفك رباط الحزمة الدولية وتصدم أمريكا بالموقفين الصيني والروسي، فتعاود من جديد إلي لغة التهديد بأن خيار الحرب مازال مطروحا ولا يمكن إغفاله، فترد إيران بمزيد من التجارب الصاروخية والتهديد بأن الحرب لن تكون نزهة وأن أسعار النفط سترتفع وأن المصالح الأمريكية في الخليج كلها في مرمي النيران الإيرانية والتهديد بإغلاق مضيق >هرمز< مما يعني الشلل التام لحركة الملاحة سواء العسكرية أو التجارية• مما يفتح الباب أمام تساؤل مفاده: هل تخشي أمريكا بجبروتها مواجهة إيران عسكريا؟! خاصةً أن الوضع الميداني للقوات الأمريكية في العراق وأفغانستان والصعوبات التي تواجهها هذه القوات في الميدان، كلها تضع علامات استفهام كبري حول مقدرة أمريكا علي فتح جبهة جديدة في إيران، وحول هذا وذاك تتضارب المعلومات والتنبؤات لكن يتوقع كثير من المراقبين أن تقوم إسرائيل بعملية قصف سريعة للمنشآت النووية الإيرانية، باستخدام نوع خاص من القنابل التي لها قدرة تدميرية هائلة وذات تكنولوجيا عالية، ستقوم بتزويدها بها الولايات المتحدة الأمريكية، لكن يري مراقبون أن هذه الضربة لن تثني إيران عن التقدم ببرنامجها النووي، بل ستؤخره لبضع سنوات .

 

(2)

من جانب آخر تعاني القوات الأمريكية مصاعب نسبية في العمليات البرية، وبالمقابل تفوقاً جوياً كاسحاً علي إيران بالإضافة إلي تمتعها بالقواعد العسكرية في كامل المنطقة المحيطة بالجغرافيا الإيرانية، وهو ما يمكنها- نظرياً- من شن ضربات جوية مكثفة علي المنشآت النووية الإيرانية• وبالمقابل من ذلك طورت إيران حزمة من الأوراق الردعية التي تجعل الإدارة الأمريكية تفكر مرتين قبل اتخاذ هذه الخطوة، لأن إيران تستطيع- علي الأرجح- إغلاق المضيق الأهم في تجارة النفط الدولية (مضيق هرمز)، سواء بالألغام أو بصواريخ أرض- بحر المتمركزة قبالة المضيق علي الأراضي الإيرانية أو بالصواريخ البحرية أو حتي عبر عمليات استشهادية بالزوارق السريعة خفيفة الحركة، لإصابة سفن تجارية أو حربية تكفي لإغلاق المضيق وانسداده.. كما تملك إيران أوراقا للضغط مهمة في العراق وأفغانستان ويمكنها استهداف القوات الأمريكية الموجودة هناك، فضلا عن تحالفها المعلوم مع حزب الله اللبناني، الذي تستطيع عبره إشعال المواجهة مع إسرائيل.. ويترتب علي ذلك زيادة تعقيد سيناريو الحل العسكري، ليس لأن طهران ستحتل واشنطن، أو أنها ستخرج منتصرة عسكرياً علي أمريكا في المواجهة، بل لأنها ستلحق خسائر كبيرة بالقوات المهاجمة وتحالفاتها وتضر بالاقتصاد الدولي في حال إغلاق مضيق هرمز، لأن سعر برميل النفط سيقفز برشاقة إلي مستوي 200 دولار للبرميل؛ يقول منطق إدارة الأزمة إن إيران لن تبادر إلي استعمال أوراقها الردعية، لأن التهديد بالردع أسوأ من الردع ذاته، ولو كانت إيران البادئة بالهجوم فستفقد أوراقها ميزتها الردعية وستفتح الباب علي مصراعيه أمام ضربات أمريكية ثانية، لذلك ستلوح إيران طوال الوقت بأوراقها لتمنع واشنطن من شن ضربات عسكرية ضدها، وهنا تظهر كوابح عديدة داخلية وإقليمية ودولية أمام إدارة أوباما• علي الصعيد الداخلي الأمريكي، منها تعثر مشروع الرعاية الصحية الذي التزم به أوباما في حملته الانتخابية، ومنها عدم قدرته علي الحسم في مفاوضاته مع كبريات المصارف الأمريكية لدفع تعويضات للخروج من الأزمة الاقتصادية، ومنها تراجع شعبيته وخسارة مقعد السيناتور كينيدي.. وبالتالي خسارة الأغلبية التي تمكنه من تمرير القوانين في المجالس التشريعية الأمريكية دون تفاهمات مع الحزب الجمهوري.

 

(3)

وتتعثر إدارة أوباما أيضاً علي الصعيد الإقليمي في أفغانستان، وتحاول الآن إشراك دول مختلفة في العملية السياسية، لتلقي عليها أعباء وكلفة الاحتلال البشرية والاقتصادية والسياسية، كما تواجه قواته صعوبات في العراق لأن حلفاء إيران هناك أقوي من حلفاء واشنطن بأشواط، خاصة من الأحزاب السياسية الشيعية في العراق، وهو ما سيؤدي إلي اضطراب الوضع أكثر فأكثر، ويجعل الولايات المتحدة الأمريكية بالمحصلة خاسرة سياسياً في العراق من جراء تعثر مشروع العملية السياسية الذي ترعاه، ولأن إدارة أوباما لا تستطيع شن حرب ثالثة علي إيران وهي غارقة في أفغانستان والعراق، يقوم التقدير الإيراني للموقف علي فرضية مفادها أنه كلما تعثرت واشنطن في العراق وأفغانستان قلت قدرتها علي توجيه ضربة ثالثة.

 

(4)

مع كل العوائق والكوابح الصعبة، وبافتراض عزم الإدارة الأمريكية علي شن ضربات عسكرية علي المنشآت النووية الإيرانية، سيتوجب علي القوات المهاجمة تحييد أوراق إيران الردعية أولاً قبل البدء في الهجوم، من أجل منع إيران من الرد.. وفي مقدمتها منصات إطلاق الصواريخ الإيرانية المتمركزة في الخليج، وكذلك ضرب القواعد الإيرانية علي طول الحدود الإيرانية- العراقية والحدود الإيرانية- الأفغانية والتعامل مع قدرات حزب الله الصاروخية في لبنان، وهي مهام ليست سهلة، وستخرج علي الأرجح من نطاق “العملية الجراحية” السريعة والنظيفة إلي “حرب مفتوحة” بامتداد ساحات المنطقة، وبالتالي تزداد الحسابات تعقيداً، كل هذا يفسر تردد الإدارة الأمريكية في توجيه ضربة عسكرية إلي إيران، ليس لأنها تخشي الهزيمة العسكرية ولكن لأنها تتحسب لما يطلق عليه التأثيرات المتتالية للضربة أو تأثير الدومينو • يمكن ملاحظة ما كتبه المحلل السياسي ريتشارد هاس في هذا السياق كعلامة قائدة للطريق الجديد الذي تؤيده مراكز تأثير نافذة في واشنطن، حيث كتب هاس عن تغيير النظام في إيران مؤخرا في النيوزويك بعنوان “كفي يعني كفي”، بالإضافة إلي ما كان قد كتبه في الفاينانشيال تايمز بعنوان “تغيير النظام في إيران بشكل مختلف”، وأهمية ريتشارد هاس يمكن إرجاعها إلي عدة أسباب أولها أنه كان من أبرز الداعمين لشن الحرب علي العراق لقلب النظام في بغداد عام 2003 ، وثانيها أنه رئيس مركز الأبحاث الأمريكي الأكثر نفوذاً في عملية صنع القرار الأمريكي ، أي مجلس العلاقات الخارجية• ويظهر ثالث الأسباب في أن مجلس العلاقات الخارجية تبني حتي الآن موقفاً متوازناً من إيران في ندواته وأوراقه البحثية، ويعد التحول إلي المطالبة بتغيير النظام في إيران تطوراً كاشفاً لتحول الأجواء المحيطة بإيران في الولايات المتحدة الأمريكية، والتي بدأت في أعقاب فوز الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد في يونيو 9002، واستمرت بالتصاعد إلي مقالات ريتشارد هاس الواضحة والكاشفة لعمق هذه التحولات، ويمكن رؤية الإعدامات الي أقدمت عليها طهران بحق متظاهرين اثنين نزلا إلي الشارع للمشاركة في تظاهرات عاشوراء الأخيرة واتهمتهما طهران بعضوية جماعة متطرفة مؤيدة للملكية، علي أنها رسالة إلي المعارضة الإيرانية وإلي الغرب بأن إيران تقرأ الموقف بتعقيداته وتركيباته الأمريكية، وتعي بأن هناك إعادة تفكير أمريكية حول الطريقة الواجب اتباعها حيال تصفية البرنامج النووي الإيراني، وأن هناك تحولاً قيد التشكل باتجاه سيناريو تغيير النظام، ربما بدلاً من سيناريو الضربة العسكرية المباشرة.

 

(5)

إيران في طريق إجباري منذ انتخاب الرئيس محمود أحمدي نجاد في صيف العام الماضي، إذ لا تستطيع الدوائر العليا في الدولة وفي قلبها مرشد الثورة علي خامنئي، عزل أحمدي نجاد كما يطالب كروبي وموسوي، وإلا عد ذلك انتصاراً لهما، ولا تستطيع في الوقت نفسه إلا الاستمرار في قمع التظاهرات بأي وسيلة ممكنة لمنع الغرب من الدخول علي الخط وتحويل “الحركة الخضراء” المعارضة إلي رأس حربة لتغيير كامل النظام الإيراني، وليس رئيس الجمهورية فقط، ولأن القوي السياسية المختلفة التي احتجت علي انتخابات الرئاسة العاشرة قد تحولت، لتصبح معارضة للنظام، ولم تعد ممثلة لجناح داخل النظام كما كانت الحال عليها قبل يونيو 2009  ومع التسليم بمشاكل حركة المعارضة وقدراتها الموضوعية وموازين القوي مع النظام، فقد أتاحت طريقة تصرف النظام حيال التظاهرات المجال أمام إيران لتثبيت نظامها السياسي وتحسين صورتها في الخارج إلي تهديد محتمل لكامل نظامها السياسي• ويعني ذلك أن إيران التي برعت تاريخياً في تحويل التهديدات المحتملة إلي فرص ممكنة، والأمثلة كثيرة أبرزها احتلال العراق وأفعانستان وتحول الورطة الأمريكية فيهما إلي وسيلة إيرانية ممتازة للمقايضة مع واشنطن، قد سارت في خط معاكس لهذه البراعة منذ انتخاب الرئيس محمود أحمدي نجاد.. هكذا تبدو إيران الآن في وضع دفاعي غير مسبوق من الناحية السياسية .