الفساد عنوان حكم ما قبل الثورات

د. خالد غازي   

” لا يستقيم الظل والعود أعوج” هذه المقولة تختزل التجربة السياسية فى المنطقة العربية التى لا تزال تعانى أغلبها من الفساد المنظم الذى يعترى مؤساساتها ، رغم هبوب رياح الثورات الذى زرعت ربيعها فى تربة يرتع فيها الفساد والافساد .. فهل الفساد الذى عاش بمؤسسات الدولة قبيل الثورات يشكل عائقا لكفالة حقوق الشعوب ويجد من يحميه بالقوة ومنطق السلطة ؟

 

(1)

“التطهير” ولا شئ سواه ؛ من الضرورى على الساسة العرب أن يلتمسوه فى سياساتهم القادمة، فبناء الدول الجديدة لابد له من تربة خصبة تستوعب حجم الاصلاح الذى نال منه الفساد، لاسيما أن قيام الثورات كان ركيزتها القضاء علي الفساد ؛ حتي المؤسسات الدولية تعاني منه لاسيما فى مؤشر الشفافية، فحكومة القرار السياسى كما يري الاقتصاديون هي الحل،  فالفساد تسبب في خسائر بلغت أكثر من تريليون دولار في العالم ونحو 40 مليار دولار في الدول العربية .. لكن كما هو معلوم فإن أغلب دول المنطقة العربية ، تفشى في كل مفاصلها حتي صارت تضرب كل فرص الاستثمار والتنمية وتحقيق الأزدهار للشعوب. ففى مصر على سبيل الذكر لا الحصر رغم  مر عام على ثورة يناير، نتلفت جميعاً لنرى النتيجة أن الطبقات التى عانت الظلم الاقتصادي والاجتماعي لم تجنى أى حصاد منها حتى الآن ؛ وليس من المتوقع رؤية هذا الحصاد فى المنظور القريب، فمازلنا محاصرين بأنواع شتى من الفساد، التى تصدرها رواسب قديمة كان فيها الظلم  وضياع الحقوق واهدار الكرامة السبب الحقيقى والمباشر لخروج المواطنين للشوارع والميادين ، مازلت أغلب مؤسسات الدولة وهيئاتها تحكم بقيم الفساد والواسطة والمحسوبية والرشوة، ومازال النظام يتعامل بنفس الألية القديمة التى رسخها نظام الرئيس السابق حسنى مبارك، التى يتصدرها  غياب الرؤية الآنية والمستقبلية وعدم اعطاء الحقوق ومعاناة ذوى الدخول المحدودة ،ولم يتم تطهير مؤسسات الدولة وهيئاتها من الفاسدين والباحثين عن النقود الممزوجة بعرق الفقراء، مصر الآن تحتاج لانشاء لجنة لمراقبة ومكافحة الفساد ، يقوم على اداراتها شخصيات مؤمنة بالنزاهة وروح التغيير  وتساهم فى تحقيق العدالة الاجتماعية ، ويكون لديها صلاحيات واسعة ، ولها فروع فى جميع محافظاتها وتقوم على أسس حديثة للمراقبة والمكاشفة .

فالفساد الذى كان يحاصر مصر -كما ذكرت التقارير الدولية التى تم اعدادها عقب تنحى مباركم – في عدة هيئات ومصالح حكومية بنسبة كبيرة، ظهر ترتيب مصر متأخرا على مؤشر الفساد والذي تصدره منظمة الشفافية الدولية، ففي 26 سبتمبر 2009 جاء ترتيب مصر مائة وخمسة عشر على مستوى مائة وثمانين دولة في العالم متراجعا عن عام 2007 والذي كان مائة وخمسة وعام 2006 والذي كان سبعين، كما تورط عدة وزراء ومسئولين في عمليات فساد كبيرة ، كما حذر تقرير لوزارة التجارة الأمريكية الشركات ورجال الأعمال الراغبين في الاستثمار في مصر من انتشار الفساد  الطارد لمناخ الاستثمار .

 

(2)

ولعل من أبرز الأسباب التي أدت إلي انتشار الفساد في الدول العربية ؛ خاصة ؛ هي أسباب اجتماعية تتعلق بطبيعة المنظومة القيمية وهي تتآزر وتتكاتف مع ظروف سياسية مشجعة ولا يخفي علي أحد الخلل الكبير الذي يكتنف الأنظمة السياسية العربية والحريات شبه المعدومة، وهو ما أشارت إليه تقارير دولية عن الفساد والشفافية في الدول العربية قاطبة إلي أنها بالفعل وصلت للأذقان فالكود الأخلاقي الذي يمنع الفساد خاصة الاقتصادي تخطي منحني الانحطاط ولم يقتصر علي الحكومات أو الدول والهيئات المانحة بل تفشي بين الأفراد ؛ فأشكال الفساد تعددت وأصبحت كالروتين القاتل بدءاً بالغش والرشوة وتزوير العلامات التجارية العالمية علي الأغذية والصناعات التجميلية والأدوية ؛ مروراً باستخدام أحدث أساليب العصر في احتيال إلكتروني منظم لايترك أثراً او إدانة ؛ وهو ما يطرح السؤال حول مدي قدرة القوانين والتشريعات العربية الحالية علي مواجهة الاحتيال الاقتصادي الذي يضرب قطاعات الاستثمار والإنتاج وكيفية خلق بيئة صالحة بعيداً عن التدليس وغش المزورين وكيفية تفادي الآثار السلبية لهذه الموجة للحفاظ علي الثروات الوطنية من الضياع .

 

(3)

ويقسم أسباب الفساد تحت ست مجموعات ؛ وهي الأسباب التي تتعلق بسيادة القانون والردع العقابي، و المتعلقة بالإدارة العامة، وكذلك التي تتعلق بالمالية العامة، وأيضاً التى تتعلق بالإطار القانوني، كذلك الإطار المؤسسي، والعلاقات الهيكلية بين سلطات الدولة، وبالثقافة المجتمعية، و يؤكد بعض الخبراء أن الإحصائيات الخاصة بالفساد في العالم العربي والتي تؤثر في الاقتصاد والاستثمار والتجارة والصناعة هي إحصائيات دولية ؛ وليست صادرة عن منظمة العمل العربية ولكنها عبارة عن تقرير للبنك الدولي يؤكد أن حجم الفساد المالي الذي يؤثر في الاقتصاد في العالم يصل إلي تريليون دولار سنوياً منها حوالي 30% إلي 40% بالوطن العربي فقط ؛ وهو ما يعني أن حجم أموال الفساد التي تنخر الاقتصاد العربي – استناداً إلي هذا التقرير – تتراوح من 300 إلي 400 مليار دولار سنوياً ؛ وهذا المبلغ الضخم بغض النظر عن الآثار السلبية الذي يسببها للاستثمارات وما ينعكس علي الصحة العامة ؛ إلا أنه يكفي لتوفير أكثر من  عشرين مليون فرصة عمل في العام الواحد وهو ما يعني أيضا أن تخصيص هذا المبلغ لمدة عام واحد فقط كفيل بالقضاء نهائياً علي ظاهرة البطالة ؛ ومما يزيد الأمر صعوبة أن نسبة العجز في توفير هذه الفرص تصل إلي 50% أي أن هناك عجزاً سنوياً يبلغ مليوناً و 700 ألف فرصة عمل في عدد الوظائف المطلوب توفيرها وأن الفساد سبب رئيسي لهذا العجز.

 

( 4)

لاشك في أن الرشوة عنوان الفساد فى كل بلاد العالم ؛ وان تنوعت بين رشوة سياسة قدمها المستعمرين وفى الأوقات الراهنة سياسة الحكام المستبدين الطامعين فى الاستمرارية، ومنذ سيطرة الدولة العثمانية على منطقة الشرق الاوسط خلال القرن التاسع عشر، حيث كانت السلطان يوسع سلطاته باعطاء أكبر الامتيازات للحفاظ على هيبة السلطنة، وفى أيام الاستعمار الغربى كانوا يلجأون أيضا إلى العطايا من أجل كسب البعض ليكونوا مفاتيح لهم، اليوم اختلف ليلبس ثوب الرشوة المباشرة، فالمقاصد لم تتغير، لكن الذى تغير هو الانظمة والقائمين عليها واتباعها ؛ لكن الفساد الممنهج والمنظم ما زال باق، ومن الخطأ الظن أن الرشاوى تقتصر على مجال معين فقط، بل إنها امتدت لكل المجالات، فالاستعمار أو العالم الجديد اليوم يدرك أن طريق السيطرة السياسية لا يكون إلا بالسيطرة الاقتصادية والفكرية ومن أجل هذا اتسع مجال الرشاوى وشمل أناسا كثيرين وبنسب مختلفة. ورغم ذلك فان أخطر أثر للفساد هو الاقتصادي منه الذى تمثل فى هجرة الكنوز العربية، لاتساع قاعدته فشملت الرشوة والغش والاختلاس والبيروقراطية والروتين والابتزاز والعمولات ؛ وكلها صور من أصل واحد ؛ تؤدي في النهاية إلي هروب الاستثمارات سواء كانت عربية أو حتي الأجنبية ؛ فأي بيئة فاسدة لا تسهم في أي نجاح اقتصادي علي الإطلاق وكلها سلبيات تحتاج إلي علاج جذري .. وهناك نماذج ناجحة في العالم العربي تخلصت من كل صور الفساد وخلقت بيئة صالحة للاستثمار بكل ما تحمل الكلمة من معان وقضت علي الروتين فعلي سبيل المثال في دولة الإمارات العربية المتحدة وفي سلطنة عمان تنتهي إجراءات ترخيص أي مشروع استثماري في يوم واحد أو يومين وهو ما أدي إلي تحولها إلي قبلة لجذب الاستثمارات من أنحاء العالم.

 

(5)

ونخلص من هذا أن الفساد الاقتصادي في الدول العربية أصبح ظاهرة لكن له العديد من الأسباب والأبعاد ؛ منها الاجتماعي والنفسي والاقتصادي ؛ فعلي المستوي الاجتماعي تراجع في الآونة الأخيرة دور المرأة أو الأم في التنشئة الاجتماعية وتراجعت معه عملية الرقابة والتربية وأثر هذا بالسلب في شخصية الأبناء أو الأجيال بصورة عامة ؛ فخرجوا ضعاف النفوس مزدوجي المعايير متدني القيم في ظل حاجة متزايدة للأموال ؛ بعيدا عن القيم في الوقت الذي تعاني فيه أغلب الدول العربية من أزمة اقتصادية حقيقية نتيجة للخلل في الهيكل الاقتصادي وما يترتب عليه من إحلال لقيم غير مشروعية لمواجهة هذه الأزمة … وهكذا أصبح الفساد الاقتصادي يعرف بمسميات جديدة منها الشطارة والفهلوة وغيرهما واعتبر الموظف العمولة غير الشرعية مجرد تحسين للدخل ؛ بل اكتسب الفساد موجة من المشروعية في الجهاز الإداري بحصول بعض القيادات علي ما لا يستحقون ؛ فأصبح الموظفون الصغار يقتدون بالكبار في السلوك غير السليم ؛ وخلق نوعاً من الفساد الشامل وهذا لن ينتهي إلا إذا كسرت الحكومات سيطرتها علي احتكار الأجهزة التي تقدم الخدمات ؛ من خلال المشاركة من القطاع العام والخاص..

الفساد موجود في كل دول العالم ؛ لكن الفرق هو كيفية التعامل مع المفسدين لكيلا تتفشي الظاهرة في المجتمع ويصبح طاردا لكل أنواع التقدم للأمام ؛ لأن الفساد يزداد في ظل ظرفين هما احتكار السلطة والمشروعات والخدمات وانعدام الرقابة الصارمة التي تحاسب كل منحرف حتي لو كان من الكبار.