القدس: مدينة من لحم ودم تتنفس كما الاحياء وتقاوم الغزاة أيضا

 

 

 

فيصل عبد الحسن

تناول الكاتب خالد محمد غازي مدينة القدس في كتابة الثري بالمعلومات لا كمدينه فلسطينية كباقي المدن التي يحتلها الاسرائيليون بل جعلها في هذا الكتاب مدينة من لحم ودم في قفص الأسر تستغيث بالعالم المتحضر أن يلتفت لجراحاتها، وعلي الرغم من أن الكتاب يقع في 363 صفحة من القطع الكبير الا أنني لم أشعر بلحظة ملل وأنا أتابع مصير هذه المدينة المقدسة، ومع هذه المتابعة أتعرف الجهد الموسوعي الذي بذله المؤلف ليجعل المدينة بين أيدينا، والكتاب يبدأ بفصل تحت عنوان قصة مدينة حيث يتناول فيه: المدينة والتاريخ، المقدسات الدينية في القدس، المقدسات اليهودية، الآثار المسيحية في القدس، المقدسات الاسلامية. وفي الجزء الأول من الكتاب نتعرف علي أن تاريخ نشوء المدينة يعود الي 5000 سنة مضت، حيث يذكر علماء الآثار والتاريخ أنها قد شيدتها عام 3000 ق.م احدي القبائل الكنعانية ـ العمورية التي نزحت من الجزيرة العربية، ومنذ نشأة المدينة تبدلت عليها الأجناس والحضارات واللغات، وتبدلت عليها كذلك الأسماء، فيذكر أن مدينة القدس كانت تحمل اسم أورشليم وهذا الاسم عموري، وهو الصيغة العربية لاسم اوروسالم الآرامي الذي ورد في بعض رسائل تل العمارنة في القرن 14 ق.م، حيث كلمة اوروسالم ، تتكون من مقطعين: الأول أورو بمعني موضع أو مدينة والمقطع الثاني سالم بمعني السلام وقد وجد اليهود صعوبة في نطق وكتابة اوروسالم باللغة العبرية فورد في أسفار العهد القديم باسم يروشاليم ولكنها وردت بدون ياء، وعرفت المدينة باسم ايليا في أوائل الفتح الاسلامي، وسميت كذلك في العهدة العمرية. قال الفرزدق: وبيتان بيت الله نحن ولاته وقصر بأعلي أليليا مشرف ومن أسمائها كما وردت في القرآن الكريم القرية والي ذلك تشير الآية الكريمة وإذ قلنا أدخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم ومنها اسم الأرض المباركة والي ذلك تشير الآية الكريمة ونجيناه ولوطا الي الأرض التي باركنا فيها للعالمين ولها أيضا اسم الساهرة كما جاء في الآية فاذا هم بالساهرة وقد ذكر اسمها القدس مؤلفون عرب عن مؤلفاتهم، فقد ذكرها أبو المعري في شعره (توفي 549هـ/ 1075م): يا شريكي النوب انهض طالبا حلبا نهوض مضني لحسم الداء ملتمس واخلع حذاك اذا حاذيتها ورعا كفعل موسي كليم الله في المقدس والعماد الأصفهاني في كتابة الفتح القسي في فتح القدسي 1200م / وأبو الفرج التميمي المعروف بابن الجوزي في كتابة فضائل القدس 1200م وغيرهما.

صخور وزلازل مدمرة

ويتحدث الكاتب خالد محمد غازي في فصل صخور وينابيع مقدسة أن في القدس صخورا جيرية، ويذكر الجيولوجيون أن صخورها تحللت من الزمن الثلث ما عدا تل جبل الزيتون وغيره من التلال المجاورة له، الا أن هذه التربة الصخرية لا تصلح لتكون زراعية بستانية لأن الأمطار عندما تهطل تغسلها وتدفعها نحو شقوق الصخر، ولكن في بعض المناطق نتج عن تفكك الصخور تربة رغوية غنية بالعناصر الكيميائية، ومنها يستخدم الحجر الطباشيري (بيكاربونات الصوديوم) في عمليات البناء والتشييد حيث يمتاز بعدم تشققه وميله الي الثبات علي لون البياض، كلما تعرض للعوامل الجوية، وقد تعرضت القدس لزلازل أرضية كثيرة، أكثر من خمسين مرة وكان أعنفها الزلزال الذي حدث عام 780 ق.م وقد وصفه يوسيفوس بأنه شق الجبل، فهبطت الطرق وسقطت الأبنية في حفر عميقة… وقضي زلزال عام 31 ق.م علي نحو 20000 نسمة في عهد الملك هيرودس الذي صلب في عهده سيدنا المسيح، وقتل في بداية حكمه سيدنا النبي يحيي بقطع رأسه تلبية لرغبة ابنة أخته، وفي عام 712م استمرت الهزات المدمرة أربعين يوما في كل بلاد الشام، ويذكر المؤرخون أن زلزالي سنة 1927 و1937 هدما الكثير من المنازل ومات الكثير من السكان، وقد ورد في أسفار العهد القديم (التوراة) ذكر لثلاثة ينابيع هي جيحون (عين روجل) ـ حاليا عين أم الدرج ـ ودراجون وما ورد من نصوص في العهد القديم ينطبق علي النبع الموجود في وادي قدرون قرب القدس القديمة ويغذي بركة سلوام، ويسمي حاليا باسم العذراء (أو عين الخطوات بسبب الهبوط اليه عن طريق سلم حجري ويغطيه قوس حجري لحمايته من الأتربة، اذ انه يوجد في فجوة تنخفض 75 قدما أسفل أكوام الأتربة المحيطة به، وفي الشتاء ترتفع مياهه ثلاث أو أربع مرات يوميا وفي الصيف مرة أو مرتين وفي الخريف مرة واحدة فقط، وسبب ذلك يعود الي أن للنبع مصدرين أحدهما دائم والآخر متغير، وهو يتغذي من المياه الجوفية، ويذكر أن مياهه حلوة ولكنها حاليا تميل الي الملوحة كأنما ترفض الاحتلال الاسرائيلي، ألم نقل ان القدس مدينة من لحم ودم وتتنفس كما الأحياء وتقاوم الغزاة أيضا؟

الدولة اليهودية القديمة

ان الدولة اليهودية التي يتشدق بها الاسرائيليون الآن والتي حكمت أجزاء من فلسطين لم تستمر أكثر من سبعين سنة وبعدها عاش اليهود أقلية في معظم المدن الفلسطينية ومنها القدس، كذلك فان اليهود الحاليين ليسوا من أحفاد أولئك، فهؤلاء قدموا من بقاع الأرض المختلفة ومن قوميات مختلفة، ونظرية الدماء النقية لقومية من القوميات غير ممكنة علي الاطلاق، وقد تناول المؤلف تأريخ مدينة القدس عبر اشكاليتي قصر مدة الدولة اليهودية في فلسطين في العهد القديم، وشرعية انتماء يهود اليوم الي يهود الأمس البعيد، حيث يتناول هجرة العبرانيين في القرن 17 قبل الميلاد من فلسطين الي مصر بسبب المجاعة التي حلت في فلسطين (رحلة سيدنا يعقوب والأسباط بناء علي دعوة ابنه يوسف ـ عليه السلام ـ الذي صار وزيرا في البلاط المصري) فاستقروا في أرض جاسان بـ(محافظة الشرقية) من مصر، وكانوا في مجموعهم سبعين فردا فقط، وتم خروجهم من مصر عبر البحر الأحمر بعد خمسة قرون بقيادة موسي النبي عليه السلام، وقيل ان سيدنا موسي تربي في بلاد الملكة المصرية (حتشبسوت) نحو 1527 ق.م، وطبقا لحفريات غلاستنغ عضو جامعة ليفربول ـ في مقابر مدينة أريحا، ويؤكد كل المؤرخين أن الخروج من مصر يمثل البداية الحقيقية لتاريخ اليهود في الأرض المقدسة، ويذكر الكاتب يوجين هود أنه لما تراخت قبضة مصر علي فلسطين (كانت فلسطين تابعة لحكم الفراعنة في مصر في ذلك الوقت) سمح ذلك للعبرانيين أن ينفذوا اليها تدريجيا نحو 1400 ق.م حتي تم التهام أكبر مساحة منها في عهد داود نحو(1000ق.م) وكان يابان الملك الكنعاني (وقائده سيسرا) قد سيطر عليهم من عام 1221 ـ 1201 ق.م ثم أخضعهم المدانيون (العرب) سبع سنوات ثم ساد نفوذ الفلسطينيين عليهم بعد هزيمة قائدهم المشهور شمشون (نحو 1100ق.م). والجدير بالذكر أن الفلسطينيين كانوا أكثر تقدما فيما يمتلكونه من أسلحة الحرب المعروفة آنذاك، فقد كانوا يستعملون عربات حربية ثقيلة تجرها الثيران (كما تشير التوراة… والنصوص المصرية القديمة).

وينتقل الباحث خالد محمد غازي الي أكثر النقاط أهمية في كتابة حين يؤكد أنه خلال ذلك التاريخ البعيد استطاع الفلسطينيون أن يؤكدوا وجودهم ضد الدولة اليهودية لأنها لم تكن قد عرفت الوحدة السياسية والادارية، وحاول الاسرائيليون أن يتوحدوا في عهد ملكهم شاؤل بن قيس ولكن الفلسطينيين استطاعوا أن يقضوا عليه فتولي الحكم بعده أبنه داود النبي (عليه الصلاة والسلام) الذي عاش طوال حياته في حروب مستمرة ضد أبناء الملك الآخرين من اليهود، واقتبس الاسرائيليون من الحضارة الكنعانية الكثير من العادات الحضارية والأدوات المتطورة فترك الاسرائيليون معيشة الخيام، (كانوا بدوا شديدي الخشونة) وسكنوا البيوت مثل الكنعانيين، وتعلموا منهم التجارة وبعض الصناعات اليدوية، وخلعوا ثياب الجلد الخشنة ولبسوا بدلا منها ثيابا منسوجة من الصوف كثياب الكنعانيين.

المقدسات الدينية في القدس

ويتناول الكاتب مدينة القدس وعلاقتها باليونانيين ووضعها في العصر الروماني وبعد الفتح الاسلامي وفترة الحروب الصليبية، وتحريرها من احتلالهم بقيادة صلاح الدين الأيوبي عام 1187م، ويحدثنا عن المدينة المقدسة في زمن المماليك وحكم الأتراك العثمانيين، والاحتلال الانكليزي، والاستيطان الصهيوني، واحتلال المدينة احتلالا كاملا عام 1967، وفي فصل خاص يتناول خالد محمد غازي المقدسات اليهودية في المدينة: يؤكد المؤرخون أنه ليس لليهود في القدس أثر يهودي مقدس بارز الا حائط المبكي، وبضع كنائس حديثة العهد ـ أقيمت مؤخرا ـ وبعض القبور علي سبيل المثال: قبر زكريا، قبر أبشا لوم، قبر يعقوب، والاعتقاد السائد أن حائط المبكي هو بقية من سور أورشليم القديم وهو الحائط الخارجي للهيكل الذي رممه هيرودس (11ق.م)، ودمره تيطس عام (7م)، ويقدسه اليهود، ويزورونه بشكل دائم، وحائط المبكي حائط كبير مبني من حجارة ضخمة يبلغ طولها 16 قدما، أما الحائط نفسه فطوله 156 قدما، وارتفاعه 56 قدما، وهذا الحائط يقدسه المسلمون أيضا بل ان تقديس المسلمين له يفوق تقديس اليهود له، اذ أنهم يعتقدون أنه المكان الذي ربط عنده جبريل عليه السلام براق النبي ليلة الاسراء والمعراج ، ومن هنا جاء اسم الجدار الاسلامي جدار البراق ولا يزال حتي اليوم جزءا من الحرم القدسي. ويتناول الكاتب الآثار المسيحية ولا سبيل لنا لتعدادها لكثرتها وتنوعها وقد أخذت من الكاتب صفحات كثيرة وكلها آثار مهمة ومقدسة، وبعد ذلك تناول المقدسات الاسلامية في القدس ولا يمكننا في هذا العرض الوجيز تعدادها لكثرتها وكلها آثار مهمة ومقدسة. ثم تناول الكاتب في فصل حضارة المستوطنات وارهاب التهويد ما تفعله اسرائيل حاليا لتقويض الهوية العربية الاسلامية في القدس.

وفي الفصل المعنون شهادات وآراء يضمن الكتاب دراسات د. محمد سيد طنطاوي (شيخ الأزهر) بعنوان القدس اسلامية لحما ودما ودراسة لقداسة البابا شنودة الثالث بابا الاسكندرية وبطريرك الكرازة المرقصية عما جاء في الكتاب المقدس عن القدس، ودراسة للدكتور عبد الوهاب المسيري خبير الدراسات اليهودية ـ ودراسة للدكتور محمد عمارة، الكاتب والمفكر الاسلامي المعروف، ودراسة للدكتور برنارد سابيلا من جامعة بيت لحم ـ القدس تحت عنوان المسيحية والقدس ، ودراسة لمحمد سيد أحمد، ودراسة لكل من: د. أحمد صدقي الدجاني، وفهمي هويدي، ود. صالح حسن المسلوت ود. أحمد يوسف القرمي ود. ادوارد سعيد من جامعة كولومبيا الأمريكية، والشيخ عكرمة صبري مفتي القدس ود. مفيد شهاب أستاذ القانون الدولي في جامعة القاهرة، د. عبد الله الأشعل خبير القانون الدولي في جامعة القاهرة والسفير الفلسطيني في القاهرة سعيد كمال، وتضمنت المراجع صورا طوبغرافية لمدينة القدس قديما وحديثا.

وفي الختام نقول: لقد قدم الكاتب المصري الصديق خالد محمد غازي في كتابه سيرة مدينة القدس كتابا مهما للمكتبة العربية، فهو وثائق علمية كتبت بصيغ أدبية لا تنسي، كذلك فانه أقام الدليل الذي لا يدحض علي أن الادعاءات الاسرائيلية بعائديتها اليهم، واصرارهم علي أن تكون عاصمة لدولتهم لا أساس لها لا في التاريخ ولا الحاضر، ولا تقوم علي أية شرعية قانونية… ومن يقرأ هذا الكتاب لن ينسي القدس أبدا.

—–

كاتب من العراق يقيم في المغرب

سيرة مدينة القدس، خالد محمد غازي

ط2، منشورات وكالة الصحافة العربية، مصر: 2004، 363 ص