يبدو القاص “خالد محمد غازي” في مجموعته “أحزان رجل لا يعرف البكاء” لاجئًا إلى ملمح حيوي يشكل خصيصة أدبية كتابية في تجربته، تتلخص فيما أسميه بـ”المشهدية”. وأعني بالمشهدية جعل اللحظة السردية تقع في دائرة تقترب من المرئي، أي جمالية المشاهدة. وكأن القصص في المجموعة، بتقنياتها الكتابية، هي سيناريوهات تنتظر لحظة الإخراج والتصوير. أجازف بهذا التصور بعد أن تبين لي أن قراءة المجموعة هي قراءة مرئية، ذكرتني بقصص مجيد طوبيا، وخاصة “الرمد الصديدي” وروايته القصيرة “دوائر عدم الإمكان”. لا أحب المقارنة وخلق عناصر التشابه بين أعمال الكتاب، لأنها تؤدي في غالب الأحوال إلى تلفيق ممكنات للتشابه تنبني عليها تلك المقارنة.
وجدت في “أحزان رجل لا يعرف البكاء” تقنية أدبية حداثية مجددة تسترعي الانتباه، هي أن السرد القصصي يلجأ إلى تصويغ تشكله من خلال العين التي هي عين القارئ. فالكتابة لا تخاطب في القارئ استدعاء تأملات أو مخاطبة مواقف أو التجارب والتنافر مع رؤية مجتمعية، ولا تخاطب فيه مفارقته مع عالم المحكي، أو انبهاره بهذا العالم، بل إنها تقدم له سردًا حكائيًا مرئيًا، باقتضاب ما تستلزمه مقومات نقل الحدث المكتوب إلى الحدث المشاهد. ولقد وجدت في هذه التقنية القصصية ما جعلني أتأملها، بوصفها سيناريوهات لأفلام لم تكتب بتقنية السيناريو المعروفة، لكنها توسلت بها في عرض الأحداث وتقديم المحكيات، عبر المشهدية والتقطيع المشهدي، الذي هو خصيصة لصيقة بالكتابة للسينما.
المعروف أن نص أي سيناريو لا يحقق أية متعة للقراءة، بل هو مجرد وسيلة لإنجاز الأحداث والمشاهد عبر المرئي. ولذلك، فقصص مجموعة “أحزان رجل لا يعرف البكاء”، كما قرأتها، تقدم موضوعها للرؤية لا للقراءة، فهي تتخلى عن تقنيات السرد القصصي لتقدم الحكاية معروضة داخل الفضاء، يراها القارئ وهو يقرأها، فتستبد بسلطة العين، قبل أن تستبد بثقافة القراءة. وهي موهبة، أو هي تقنية أدبية قصصية مارسها “خالد محمد غازي” بذكاء، ليورطنا في شرك سؤال كبير: ما الحد بين المكتوب والمشاهد؟ وما هي وظائف السرد والوصف، التخييلية، والجمالية، التي يمكن أن تضع حدًا بين المقروء والمشاهد؟ سؤال يتسع ليشمل حدود التجنيس، أو تجنيس الكتابة. وهو أيضًا سؤال يضعنا أمام تأمل ابتكار طريقة جديدة ومتجددة لتقنيات الكتابة القصصية.
فمعروف أن أرنست همنغواي كان قد ابتكر الأسلوب البرقي في كتابته القصيرة، وهو أسلوب حفل بالاقتصاد اللغوي وتمرير المعنى عبر الإشارة اللغوية. وهو ما حفل به الناقد الأمريكي كارلوس بايكر في كتابه الشهير الذي تناول فيه لغة البرق التي تمرر المعنى في قصص همنغواي. ومعروف أيضًا أن ابتكار همنغواي لهذه التقنية كان له أثر كبير على القصاصين في العالم.
وأما أنطوان تشيكوف، فكان قد ابتكر سحر الموضوعات ببناء مفارقات للحبكة القصصية، كما اتجه الفرنسي جي دي موباسان نحو بناء القصة على المفارقة الاجتماعية. وسيأتي بعد ذلك المعلم يحيى حقي ليجمع بين الواقع والعبث والغرائبية، ولا ننسى يوسف إدريس وأمين يوسف غراب ومحمود البدري، فلهم مقام في اكتشاف تقنيات قصصية جديدة تشبعت بخلق الأشكال قبل أن تحفل بالموضوعات. فعودةً إلى “أحزان رجل لا يعرف البكاء”، لاتهم الموضوعات الاجتماعية كثيرًا في هيمنتها على المجموعة، بل المهم في نظري هو بناء الأشكال. إنها طريقة جديدة، فطرية، بسيطة، مبتكرة، لبناء شكل قصصي جديد يقوم على ترهين التفاصيل المسرودة لصالح العين والرؤية، قبل ترهينها لما يمكن أن يتعارف عليه كقرائي، يخص مسألة مرور العين القارئة على الصفحات للدخول في عالم تخييلي حكائي. في حالة هذه المجموعة، فإن العين هي التي ترى ما تسرده الأحداث وما تصفه من شخصيات وموضوعات للمكان والزمان.
أستطيع أن أستدل على هذا المدخل، لقراءة قصص “أحزان رجل لا يعرف البكاء”، بكثير من الاستشهادات من قصص المجموعة. لكني أتخلى عن ذلك، مؤقتًا، ولصالح دراسة تفصيلية يمكن أن تقوم على هذا المدخل القرائي، الذي يعني بمرئي الكتابة، أو بكتابة المرئي، والتقنيات الكتابية التي يتوسل بها، عبر بناء القصة ، عبر خلق التفاصيل في مجموعة “أحزان رجل لا يعرف البكاء” كشف جديد عن تقنية أدبية جديدة قصصية، تجد متكأها في اختراق جنس القصة القصيرة. من حيث هو كالرواية ليس جنسًا خالصًا، ولكنه فن الخبر، كما يعرفه الإنجليز، وفن الاقتصاد اللغوي، كما يعرفه الأمريكان، وفن الحدوثة، كما يراه المصريون. لكنه فن مستعصٍ، يحفل باللحظة في تاريخيتها، ومن حيث هي لحظة لاكتشاف العالم من جديد.
ومجموعة “أحزان رجل لا يعرف البكاء” تقدم لنا العالم من جديد، كما تفطن الصديق الناقد فريد الزاهي إلى أن هذه المجموعة تكتب بالعين.
د. محمد عز الدين التازي
ناقد وروائي مغربي