مصر وإسرائيل أمام مفترق طرق

 

د. خالد غازى   

رياح التغيير التي هبت علي الشرق الاوسط، ونجحت في إزاحة العديد من الرؤساء الذين ظلوا طوال عقود طويلة قابعين علي صدور شعوبهم، ستكون سببا في تغيير خارطة الشرق الاوسط بشكل عام، والوطن العربي بشكل خاص، خاصة أن الثورات العربية بدأت تمتد من دولة الي اخري، حتي وصلت إلي إسرائيل نفسها لأول مرة في تاريخها، ورفع الشعب الاسرائيلي لافتات كتبوا عليها: “ارحل” لنتنياهو؛ الامر الذي بات يقلق الرؤساء والملوك في العالم كله؛ لأنهم يعلمون ان انتفاضة الشعوب غضبة لا يمكن تجاهلها.

 

(1)

كانت البداية مع “ثورة الياسمين” التونسية، والتي اندلعت يوم الثامن عشر من ديسمبر العام الماضي، تضامناً مع الشاب محمد البوعزيزي الذي قام بإضرام النار في جسده ؛ تعبيرًا عن غضبه واحتجاجه على بطالته ومصادرة العربة التي يبيع عليها، وهو ما أدى إلى اندلاع شرارة المظاهرات ، وخروج آلاف التونسيين الرافضين عدم وجود عدالة اجتماعية، وتفاقم الفساد داخل النظام الحاكم. ونتج عن تلك المظاهرات التي شملت مدنًا عديدة في تونس عن سقوط العديد من القتلى والجرحى من المتظاهرين نتيجة تصادمهم مع قوات الأمن، وأجبرت الرئيس زين العابدين بن علي، على إقالة عدد من الوزراء بينهم وزير الداخلية، وتقديم وعود لمعالجة المشاكل التي نادى بحلها المحتجون الثائرون ، كما أعلن عزمه على عدم الترشح لانتخابات الرئاسة عام 2014، واستمرت الاحتجاجات الي ان هرب زين العابدين الي السعودية وتحررت تونس من ظلم السنين.

وبعدها بأيام، انطلقت نيران الغضب في مصر في الخامس والعشرين من يناير، وهي انتفاضة شعبية ؛ احتجاجًا على الأوضاع المعيشية والسياسية والاقتصادية السيئة، وكذلك على ما اعتبر فساداً في ظل حكم الرئيس السابق حسني مبارك، ونجحت الثورة في إسقاط مبارك ونظامه في الحادي عشر من فبراير الماضي.

ثم امتدت الثورات العربية الي ليبيا فانطلقت ثورة السابع عشر من فبراير، وهي ثورة شعبية أيضا اندلعت شرارتها على شكل تظاهرات شعبية شملت معظم المدن الليبية، وقد تأثرت هذه الثورة بموجة الاحتجاجات العارمة التي اندلعت في الوطن العربي ، خاصة الثورة التونسية وثورة يناير.. وقاد الثورة الليبية الشبان الذين طالبوا بإصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية. وكانت في البداية عبارة عن احتجاجات سلمية، لكن مع تطور الأحداث وقيام الكتائب التابعة لمعمر القذافي باستخدام الأسلحة النارية الثقيلة والقصف الجوي لقمع المتظاهرين العزّل، تحولت إلى ثورة مسلحة تسعى للإطاحة بنظام حكم القذافي الذي قرر القتال حتى اللحظة الأخيرة، الي ان سقطت طرابلس في يد الثوار، وتمت الاطاحة بأقدم حاكم علي وجه الأرض.

أما ثورة الشباب في اليمن فعرفت باسم ثورة التغيير السلمية: هي  موجة من الاحتجاجات الشعبية السلمية انطلقت يوم الجمعة 11 فبراير، والذي أطلق عليه اسم “جمعة الغضب” (وهو يوم سقوط نظام حسني مبارك في مصر) متأثرة بموجة الاحتجاجات العارمة التي اندلعت في الوطن العربي ؛  ومازالت الثورة مستمرة مطالبة بتخلي الرئيس علي عبدالله صالح عن السلطة .

ثم احتجاجات الجزائر والبحرين واعتصامات الاردن ومظاهرات الكويت والعراق والمغرب ولبنان والسودان وجيبوتي، وصولا الي الانتفاضة السورية او ثورة الأحرار السورية، وهي انتفاضة شعبية أيضا انطلقت في الخامس عشر من مارس الماضي، ضد القمع والفساد وكبت الحريات وتلبية لصفحة: الثورة السورية ضد بشار الأسد.. على موقع التواصل الاجتماعي “الفيس بوك”، في تحد غير مسبوق لحكم الرئيس بشار الاسد ، وقاد هذه الثورة الشبان السوريون الذين طالبوا بإجراء إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية.. ورفعوا شعار: “حرية.. حرية”، لكن قوات الأمن والمخابرات السورية واجهتهم بالرصاص الحي فتحول الشعار إلى “إسقاط النظام” ومازالت الدماء تنزف في سوريا.

 

(2)

هذه الثورات والاحتجاجات ما نجح منها، وما هو في طريقه للنجاح، او ما أجهض، يؤكد ان خارطة الوطن العربي بعد هذه الثورات والبحث عن الحريات، ستتغير؛ وهو الامر الذي لم تستطع اسرائيل فهمه، ومازالت تسير بغطرستها ظنا منها ان ما حدث في صالحها، ولكنها تناست ان الشعوب العربية الحرة ترفض المهانة، ولن تسكت علي الانتهاكات الاسرائيلية.. وابرز دليل علي ذلك ما حدث عقب اطلاق اسرائيل النار علي الجنود المصريين علي الحدود؛ حيث فوجئ الساسة الاسرائيليون بموقف مغاير تماما من المصريين علي كل المستويات سواء الحكومية او الشعبية؛ بداية من قرار شرف سحب السفير المصري لدي اسرائيل، ثم التراجع بعد الاتصالات التي تمت علي اعلي  مستوي من الجوانب كافة، والتي انتهت بالتراجع عن سحب السفير، وتقديم اسرائيل للاعتذارات، لكن الغضب الشعبي ظل مستمرا، واستمرت الاعتصامات امام السفارة الاسرائيلية، وتطور الوضع الي أن وقعت الاحداث الدامية امام السفارة، والتي انتهت باختراق مخزن السفارة والقاء الاوراق من نوافذ السفارة، والمواجهات التي تمت بين المتظاهرين ورجال الأمن، وتحطيم الجدار العازل الذي كان موجودًا امام السفارة، وهروب السفير الاسرائيلي والدبلوماسيين من القاهرة الي اسرائيل، خوفا من الغضب الشعبي. وتوترت العلاقات الدبلوماسية المصرية – الاسرائيلية، الي ان خرج نتنياهو بمؤتمر صحفي كان الهدف منه ان يظهر للعالم كله ان اسرائيل دولة مسالمة، وان السفير الاسرائيلي سيعود الي مصر في اقرب وقت، وانه لابد من تحسين العلاقات مع مصر لانها شريك مهم في عملية السلام؛ الامر الذي يؤكد ان المناورات الاسرائيلية لا تنتهي، وان الهدنة مع مصر مهمة هذه الايام، خاصة في ظل الخلافات الكبيرة بينهم وبين تركيا.

من اجل هذا، ظهرت اسرائيل مهادنة، تحاول التقرب من المصريين بعد ان بدأت تخسر العديد من الحلفاء مثل تركيا، وكذلك محاولات الفلسطينيين اعلان الدولة الفلسطينية في الامم المتحدة ؛ لذلك تحسست اسرائيل وقادتها القرارات قبل اتخاذها حتي لا تخسر الكثير.

رغم ان القادة الاسرائيليين اكدوا ان المجلس العسكري المصري يعمل ببطء شديد مع هذه الاحداث خوفا من غضب الثوار، رغ ومن المؤكد ان اسرائيل مازالت تخشي مصر ما بعد الثورة؛ بدليل ما تناقلته وسائل الإعلام الإسرائيلية عن  الثورة المصرية “بأمل وخوف”، بعد سقوط  مبارك. حتي عنونت صحيفة “يديعوت احرونوت”: “مصر الجديدة”، واعتبرت في تعليقها أن وزير الدفاع المشير محمد حسين طنطاوي، هو “مبارك الجديد”، مشيرة إلى  أن “الإدارة الأمريكية مثل الحكومة الإسرائيلية؛ تركز كافة اهتمامها باتجاهه لأن الجيش المصري بالنسبة للدولتين هو ضامن الاستقرار والاستمرارية والسلام”.

وأضافت الصحيفة أن “الحكومة الإسرائيلية تتكيف بسرعة مع مرحلة ما بعد مبارك. انتقلنا من الذعر من الاستقالة ونبوءات نهاية العالم إلى محاولة لتقبل الأمر الواقع”، وأكدت أنها “كانت تواجه صعوبة في فهم ما الذي يحدث في ميدان التحرير إلا أنها فهمت الآن”. كما أشارت إلى تحليل لقيادة الجيش المصري يكشف فيه عن صراع يدور بين وزير الدفاع الذي “يأمل في نقل السلطة للمدنيين، وبين العسكريين الذين يريدون استمرار الجيش في السلطة”.

أما صحيفة “معاريف” اليمينية الوسطية، فتحدثت عن “انتصار الثورة”. وفي افتتاحية بعنوان “ميدان التحرير القادم”، تصر الصحيفة على حالة عدم اليقين في المنطقة، وتدعي أن “لا احد يمكنه أن يقول إن تأثير الدومينو الذي بدأ في تونس وانتشر في مصر وصل إلى نهايته أو أنه سينتقل إلى الجزائر والأردن وسوريا”. وتساءلت الصحيفة عما “سيحققه كل هذا”؟ مؤكدة أن “لا احد يعرف في الحقيقة لا المعلقين ولا المسئولين في الاستخبارات، لا في الشرق ولا في الغرب ولا حتى المصريين أنفسهم. إنها مغامرة جديدة كليا بالنسبة إليهم”.

وفي المقابل، أشارت صحيفة “إسرائيل هايوم” اليمينية المجانية المقربة من رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو، إلي حالة “الأمل والخوف” في إسرائيل بسبب الثورة الشعبية المصرية. وأكدت أن “المفتاح هو معاهدة السلام الموقعة بين البلدين”. وأشار احد معلقيها إلي أنه يتوجب “كبح جماح جماعة الإخوان المسلمين التي تسعى لفرض أحكام الإسلام في مصر لقيادة الكفاح ضد العالم غير المسلم والتي تعتبر معاهدة السلام مع إسرائيل غير شرعية”.

أما صحيفة “هاآرتس” المعارضة اليسارية، فقد أشارت إلى أن رئيس الوزراء الإسرائيلي رحب بتأكيدات قيادة القوات المسلحة المصرية باحترامها معاهدة السلام مع إسرائيل. وكتب احد معلقيها مقالا بعنوان “مبروك مصر” بالعربية، كما عنونت الصحيفة مقالها الافتتاحي بـ”حقبة جديدة لمصر”، معتبرة أن “هذه الدولة ليست في صراع مع إسرائيل ولا ينبغي وصفها بالعدو”. وحذرت الصحيفة انه “ينبغي على رئيس الوزراء نتنياهو أن يتحلى بضبط النفس، وأن تحذيراته حول تحول مصر إلى إيران جديدة، ومناقشة زيادة الميزانية للدفاع التي تخلق توترات تضع إسرائيل في معسكر النظام المخلوع.

 

(3)

تلك القراءات؛ تؤكد ان الاعلام الاسرائيلي كان ناضجا في التعامل مع الثورة المصرية، بعكس قادتهم الذين ظنوا ان الاوضاع لن تتغير، وحاولوا جس نبض المصريين؛ فاكتشفوا ان غضبة الفراعنة لا تضاهيها غضبة. ونعود الي الاحداث الدامية التي حدثت امام السفارة واقتحامها وحرق العلم الاسرائيلي، فلا احد يستطيع ان ينكر ان ما حدث – رغم عدم اتفاقنا معهم – تنفيس للشباب، الرافضين لما حدث من اسرائيل والتأكيد لهم ان دم المصري غالي ولابد من الثأر للشهداء وان هذا الرفض لا يفرق بين مسئول وشخص عادي؛ بدليل ان محافظ الشرقية د. عزازي علي عزازي، خرج في مظاهرات هناك مطالبا بالثأر لدم الشهداء، ومحافظ الفيوم المهندس احمد علي احمد خرج في المظاهرات، وحضر واقعة حرق العلم في ميدان السواقي بالفيوم، الامر الذي يؤكد ان الكل يرفض ويدين ما تفعله إسرائيل، ومن اجل هذا رفع الشباب اللافتات التي تقول: (بنرددها جيل ورا جيل.. تسقط تسقط إسرائيل)، و(الشعب يريد طرد السفير)، ورددوا هتافات من بينها: “روحوا وقولوا لليهود.. مصر فيها خير جنود”.. “قولوا معانا لأعظم جيش.. يا إما كرامة يا إما مفيش”.

 

(4)

وعلي جانب الخر، نجد ان جميع القوي السياسية رفضت الانتهاكات الاسرائيلية ضد الجنود المصريين، ورفضوا ايضا احداث السفارة؛ فنجد انها شنت هجوماً عنيفا علي اسرائيل بعد هجومها الغاشم علي الجنود المصريين، وطالب قيادات القوي السياسية بضرورة اتخاذ مواقف مشددة ضد اسرائيل. فقال حزب الوفد في بيان له إن سيناء لم تعد علي الهامش. وان اخطاء الماضي ستنحسر وسيعاد تصحيحها وهو ما تحاول اسرائيل منعه بصنع الفخاخ والعثرات.. وقال د. السيد البدوي رئيس الحزب، انه يجب أن تدرك أن أوراق كامب ديفيد لم تكتب في السماء، وأن بقاء سفارتهم في القاهرة مهدد بقوة المصريين وإرادهم. وبقواتها المسلحة التي تستمع اليوم لنبض الشارع الذي لم يعد كبته أو إعادة توجيهه وأن الشعب المصري لن يفرط في كرامة أي من أبنائه وأن دماء الشهداء الذين سقطوا برصاص الإسرائيليين لن تموت، ولن يهدأ لنا بال حتي نقتص منهم”.

فيما طالب حزب التجمع بطرد السفير الإسرائيلي في القاهرة، وسحب السفير المصري في تل أبيب. والتحرر من القيد الذي فرضته اتفاقية كامب ديفيد علي عدد الجنود المصريين الذين يرابطون علي الحدود. حيث ان هذا القيد يشجع اسرائيل علي ان تنتهك السيادة المصرية.

وقال بيان لجماعة الإخوان المسلمين: إن هذه الجريمة ينبغي أن تفرض علينا تغيير سياساتنا تجاه قضايا جوهرية. بدءا من عدم السكوت علي أي عدوان. وطرد السفير من القاهرة، وسحب نظيره من تل أبيب، وفرض السيادة الوطنية الكاملة علي أرض سيناء بإعادة النظر في اتفاقية كامب ديفيد.

علي اية حال.. أحداث السفارة رسالة تحذيرية الي اسرائيل كي تعرف ان مصر بعد الثورة مختلفة تماما عن مصر قبل الثورة.