تكنيك البقعة الزمنية في أحزان رجل لا يعرف البكاء

  د. مصطفي الضبع

من مجموعة من مسببات الحزن تنطلق نصوص “أحزان رجل لا يعرف البكاء” للقاص خالد غازي , فنصوص المجموعة تعول كثيرا علي رصد الأسباب لا النتائج، الأسباب التي تجعل من متلقيها مفكرا – لابد – في النتائج، إلي أي مدي يذهب الحدث إلي نهاية متخيلة ؟ وكيف لهذا الحدث أن يقدم دلالته بصورة واضحة المعالم لديها القدرة علي أن تشي بهمها. صحيح إن النصوص تقدم نتائج خفية علي الرغم من وضوحها التام ولكن وضوحها في حد ذاته هو ما يجعلها خفية إذ هي تتكشف في سمة شكلية تتسم بها النصوص جميعها، سمة التفتت، حيث يأخذ النص شكل المقطوعات المعنونة أو المرقمة، وفي كلا الحالتين فإن ثمة حدثا / أحداثا جرت في عمق هذا العالم فحوّلته إلي هذه الصورة المرئية التي لم تحدث من فراغ أو بصورة مجانية، وما كان يمكن أن يبدو متماسكا يأتي في هذا السياق مفتتا وعلينا – أولا – أن ندرك بصورة أو بأخري ما أدي إلي هذا التشظي الذي قد يتأسس علي تناقض متنوع بين تناقض خفي وآخر مصرح به، يبدو الأول في عنوان يطرح هذا منذ البداية فالأحزان في معناها المعروف تناقض نفي معرفة البكاء في دلالتها علي عدم الحزن، فإذا كان نفي معرفة البكاء يحمل دلالة الفرحة.. مثلا فإن التناقض يبدو واضحا في هذا الإطار مع الوضع في الإعتبار أن العنوان يمكنه أن يوحي بدلالة أبعد من ذلك يبدو فيها الحزن ملازما لعدم البكاء في دلالته علي الكتمان، ولكن تبقي دلالة التناقض كامنة هناك بين أحزان واقعة مضافة إلي رجل فتبدو خاصة به مما يوحي بمعرفته لهذه الأحزان وبين جهل بالبكاء يطرحه النفي ( لا يعرف ) مما يطرح دلالة الوقوع بين المتناقضين المعرفة وعدمها أو نقيضها.. وهذا النقيض يطرح من ناحية أخري التفكير في سببية عدم معرفة البكاء هل لأنه بكر لم يجرب البكاء، فيكون الأمر طبيعيا فطريا أم أن الأمر يخضع لإرادة داخلية في عدم المعرفة ؟، علي الرغم من أن المعني يحيلنا إلي الجانب الإرادي فعدم معرفة الشئ بصورة إرادية يعني معرفة شئ حتي يتم نفيه الدراية به اتجاها إلي نفيه، علي الرغم من ذلك يبقي الأمر مشتبكا بين السببين ؟ وهو اشتباك دال يطرح ايحاءاته الواضحة. تلك الإيحاءات التي لا تتوقف فاعليتها عند عنصر بعينه من عناصر السرد وإنما تعمل القوة الإيحائية نشطة علي مدار متابعة النصوص، حتي ما قبل السردية منها ونعني بها مجموعة النصوص المصدرة للقصص والتي تأتي مزيجا من أقوال منسوبة إلي مجموعة من السابقين في الزمن المختلفين في المكان والثقافة ( تاجور – لنكولن – طرفة بن العبد – أرستوفانيس – افلاطون ) وهي أقوال علي اختلافها ترتبط فيما بينها بكونها تمثل خلفية للسارد من ناحية ومن ناحية أخري تمثل إختيارا يكشف عن علاقة ما بين أصحابها السابقين والسارد اللاحق، فإذا كان للآخرين كلماتهم فللسارد الحاضر كلمته الكاشفة عن فكره ومدي تأثره أو عدم تأثره بهذه الأقوال التي تمثل محطات زمنية توقف عندها السارد، ويمكن للقوة التأويلية في فحصها لهذه الدوال أن تجعل منها تعليقات مسبقة مؤسسة لرسوخها في الأذهان ولأن القديم محكوم بوقوعه في مقابل ما هو في علم الغيب.
تكنيك البقعة الزمنية
تعمد النصوص إلي تكنيك أثير لديها ؛ تفتيت النص في صورة بقع تمثل كل منها لحظة سردية تمثل بدورها جملة سردية يمكنها أن تكون دالا في إفرادها وفي تركيبها، فإذا كانت القصة الواحدة في سياق المجموعة ترصد زاوية أو عنصرا من عناصر اللحظة المعيشة، وعندما تتضام النصوص في مجموعها تقدم بدورها صورة مكتملة لهذه اللحظة فإن الدور نفسه تقوم به مجموعة الفواصل السردية في سياق القصة الواحدة.
في قصة > ربما يأتي < يقوم النص علي هذه التقنية، تقنية التفتيت الكاشف حيث النص يتجزأ إلي خمسة مقاطع يستقل كل منها بعنوان خاص،وتأتي العناوين في مجملها صانعة دلالة النص في مجمله [ البداية – التداخل – صباح لا يجئ – فاصلة نقطة أخيرة ]، وتتكفل العناوين بإنتاج التوتر السردي الناشئ من التوازن وكسره ثم الإتجاه إلي صنع توازن جديد فالبداية التي تبدو وممهدة للحظة التوتر تقدم حال الأم وابنها وهي تدفعه إلي أن يعيش حياته بأن يتزوج ولكنه يقابلها بالرفض وفي الفاصلة الثانية يتجه الحوار وجهه أخري مغايرة بموت الإبن وبقاء الأم في محاولتها التحاور مع ذلك المغيب والذي يغيببغيابه العقل ثم ينتهي أمرها بالموت والإنتقال إلي مملكة ذلك الغائب. قد يبدو الحدث عاديا في سياق النص الذي يرصد لحظة التحول. ولكننا عندما نتجه إلي إدراك العلاقة المنفصمة بين الأم والبن والتي يتأسس انفصامها علي حادث الموت نجد أنفسنا أمام كسر لتوقع ينشأ من خلال اعتمادنا علي أن الأم في إلحاحها علي الابن ليمارس حياته، فإنها ونحن معها ندرك إلحاحها النابع من خوفها أن تموت قبل أن تفرح بهذا الابن ولكن نسفا يأتي بسيطا جارحا حيث يموت الابن ودخول حدث الموت ليس مبررا أو مسببا، فإننا في مثل هذه الحالة نسأل عن السبب متناسين أن الأسباب جميعها قد لا تكون سببا مباشرا لأحداث الموت ولكنها أسباب في النهاية.
النص لا يتجه إلي التعامل مع حدث الموت بوصفه حدثا له أسبابه وإنما هو يجعل منه حدثا عاديا ليست القضية في حدوثه وإنما القضية في نتائجه، كان من الممكن أن يظهر النص هذه الأسباب التي يستمر فيها القهر والظروف الإجتماعية وغيرها مما يمكن الإتكاء عليه في مثل هذه الحالات ولكنه لا يهتم بذلك وعدم إهتمامه لصالح النص نفسه إذ يخرجه من منطقة العادي والمألوف إلي منطقة يمكنه من خلالها إحداث التوتر اللازم لإقامة نص سردي دال.. إن النقطة الأخيرة التي يصل إليها النص في مغايرتها للبداية تقيم نوعا من الدائرية فالبداية لها نهاية،ولأن الحركة مستمرة باستمرار الحياة وامتداد الزمن فالبداية والنهاية تكرران وتكرارهما معناه تكرار ما بينهما وإن اختلفت الصورة أو بعض تفاصيلها علي الأقل، ولحظة الإكتشاف التي يمارسها ذلك الشخص الذي يتقدم ليوقظ الأم لحظة تعد كسرا للمألوف لقد مر الكثيرون علي الأم وهي في نومها هذا.. > نامت ساعة.. ساعتين – لا أحد يدري.. تقدم أحد المارة ليوقظها وينقذها من أمطار الشتاء، لكنه اكتشف أنها ماتت < ص 51
المار الذي يعتزم الإنقاذ لم يقم به لأنه لم يدرك الحقيقة منذ البداية، ويمكننا أن نتأول ذلك المار بأنه الموت نفسه الذي كسر المألوف محاولا أإقاذها بالموت ذلك الذي يعد بالفعل انقاذا لها من حالة الجنون التي أصابتها لفقد الابن، ولا يخدعنا كونه من المارة فالموت ليس بعيدا أو منفصلا عن الإنسان إنه كامن هناك مقـارن للحـياة، لا ينفصل عنها مطلقا.
الابن ههنا يعد بمثابة الأمل القادم، وعندما يموت الأمل لا يبقي للعقل قيمة تمكنه من إقامة الحياة، ههنا ينطلق التأويل إلي نفسها مبتعدا عن كونها أما عادية أو أما بالصورة التي تدركها لمن هن يحملن هذه الصفة وإنما لكونها عنصرا رامزا لأصالة، لجذور إنسانية لم يعد لها وجود، تموت هذه الجذور في مكان معلن ليس مغلقا يحجب الإدراك، وإنما هو واضح ظاهر هناك فوق الرصيف عند حافة الأمان والخطر في آن والحياة مستمرة عبر حركة هؤلاء الذين يمرون دون إدراك لهذه الجذور التي تقتلع، لقد ارتفع صوت المرأة بأغنية حزينة، ولكنهم لم يفعلوا شيئا إلا التمتمة وعندما سكت صوتها لم ينتبه أحد. مما يوحي بتضامن غير معلن علي موتها أو إهمالها.. حتي يتم الإكتشاف، ذلك الذي لا يتوقف عند اكتشافنا الموت وإنما يمتد إلي اكتشاف آخر من شأنه أن يعيدنا إلي عنوان القصة > ربما يأتي < في محاولة لإسناد فعل الإتيان إلي فاعله، بالنسبة للأم هو الابن وبالنسبة لنا هو الموت الذي يطرحه النص في النهاية بصورة قدرية معبرة.
ولا تقف تقنية التبقيع هذه عند نصوص تنفصل أجزاؤها، وتتصل منتجة دلاتها في الحالتين وإنما تأخذ هذه التقنية صورا أخري تعتمدها النصوص ومنها :
1- الإستفادة من تقنية المشهد السينمائي في رسم سيناريو مكتمل الأركان، بغية وضع المتلقي في مواجهة تامة ومباشرة إلي حد ما مع تفاصيل السيناريو، يبدو ذلك واضحا في > حين يغير الماضي ألوانه < وهو عنوان لا يشير إلي ماض زمني، بقدر ما يشير إلي تقنية تتغير حسب طبيعة الموضوع الذي تعالجه فالنص يعد أن يطرح قضية الصراع الأزلي والأبدي بين الرجل والمرأة يعمد إلي إنتاج هذا السيناريو الذي يتولي اإتاج الدلالة، والسيناريو بطبعه لا يختلف في قوته الإخبارية عن الصورة التي طرحها النص سابقا وإنما هو يعيد إنتاج النص بصورة تتجاوز ما مضي، وعلي الرغم من أن السيناريو بنية لغوية غير أنه يعمل علي تعطيل لغة الكلام لصالح لغة الصورة التي لا تحتاج إلي تعليق، والنص عندما يؤكد علي السيناريو واصفا إياه بالفيلم التسجيلي ؛ تأتي الصفة محيلة إلي واقع مستقر فالفيلم التسجيلي ما هو إلا تسجيل لواقع محدد ومؤسس قبلا ويأتي الفيلم مقتنصا لهذا الواقع في محاولة لتأطيره وبث قوي دلالية فيه، أي أنها تنقله من واقع قد لا يكون دالا إلي نص فني دال مثير للأسئلة، يحرك الخيال للإمساك بعناصر الصورة المرسومة بدقة تصنع بدورها مفارقة واضحة تتكشف من خلال ذلك الفيلم التسجيلي الذي يهتم بلحظة تبدو تاريخية من خلال السيناريو في الوقت الذي تكون فيه علي النقيض من ذلك والفيلم السينمائي قيمة ما يقدمه تكمن في قدرته علي جذب الإنتباه والإبهار والحركة حركة الكاميرا وقدرتها علي الإنجاز للحركة الصعبة للأشخاص، في حين تكمن قيمة الفيلم التسجيلي في قدرته علي أن يكون عميقا واعيا في ذاته بقيمة ما يلتقطه فهو يحدد قبلا ما يوجه إليه عدسته في الوقت الذي يتجه فيه الفيلم السينمائي إلي الحركة المغايرة غير المألوفة، هنا تكمن قيمة الحدث الذي يصوره الفيلم التسجيلي إنه حدث منتقي قبل أن توجه الكاميرا إليه.
2 – تداخل النصوص :
وهي تقنية تعمل فيها النصوص علي أن تكون مغايرة لما سبقها محتفظة لنفسها بحقها في مشروعية الإختلاف، ذلك الإختلاف الكامن في إدخال النصوص المغايرة نصوص الآخرين إلي سياق النص تحديدا إلي متنه، فقد جرت العادة. أن تتصدر النصوص المقتبسة النص مفسحة لنفسها مكانا بين العنوان والمتن وعلي الرغم من أن قصة > الرهان علي جواد ميت < تعتمد هذه التقنية فتدخل إلي صدرها نصين لجورج أوريل وتيتو فإنها تعمد إلي تقنية أخري مغايرة عندما تدخل إلي المتون نصوصا ثلاثة :
# جزء من وثيقة فرعونية صـ98 يشير في مضمونه إلي انهيار للجهز الإداري في زمن قديم ويأتي النص ههنا تعليقا علي حدث ويمثل نسيجا منه لا ينفصل وإنما يأخذ وضعية العنصر البارز الذي يحتاجه النص # نص من كتاب الموتي يصور بريئا ينفي عن نفسه ما من شأنه أن يكون عارا علي مرتكبه.
# نص يتماس مع الواقع بدرجة كبيرة يتفق مع النص السابق في كونهما مرويين بضمير المتكلم ولكن إذا كان نص كتاب الموتي ينفي فيه الراوي التهم المشينة عن نفسه، فإن النص الذي يأتي علي لسان السجين محمود مراد المتهم في حادثة مقتل أمين عثمان يأتي نصا إعترافيا لا يتملص فيه صاحبه من شئ بقدر ما هو يقر بأشياء خاصة، ويدخل النصان في علاقة جدلية فهما علي الرغم التناقض الظاهر فإنهما متفقان في كونهما يشيران إلي إنسان من نوع خاص قد يكون من النادر أن يوجد في كل زمان ومكان، والمقاربة بين هذه النصوص والمعني الذي يطرحه عنوان النص ونعني المعنيالكامن في الجواد الميت والمراهنة عليه يكون من شأنه أن يجعل هذه النصوص خارجة من السياق مرة، داخلة فيه أخري فهي إذ تخرج عن السياق تجعل من هؤلاء المروي عنهم أشخاصا يراهنون أوهم راهنوا بالفعل علي جواد ميت، وبئست المراهنة، وهي إذ تدخل في السياق تعمل علي رأب الصدوع الزمنية فتجعل الحاضر الممثل في شخص الراوي المتكلم في النص متصلا بالماضي الذي يمثله هؤلاء الأشخاص المروي عنهم، والنص إذ يدخل هذه النصوص بوصفها علامات تاريخية وإجتماعية إلي سياقه فإنه يفتح آفاق الدلالة التي قد تنغلق علي نفسها عندما تنحصر في زمن حاضر يطرحه النص محاولا من خلاله الإشارة إلي مساحة زمنية محدودة، ولكن هذه العلامات من شأنها أن تنتج ما يمكن الإصطلاح عليه بظاهرة الإلتفات في البلاغة العربية القديمة من حيث كونها ظاهرة تكسر جدران المألوف وتحاول خلخلة المعتاد بغيةجعل المتلقي متنبها دائما إلي تفاصيل قد تكون من الدقة للدرجة التي لا ينتبه إليها في حالة عادية وعندما يكون المتلقي قد طرح أسئلته علي النص ولم يعد هناك من أسئلة جديدة يباغته النص بهذه الإشارات التي تدخل المتلقي في دائرة جديدة من الأسئلة أقربها عن سببية دخول هذه العلامات إلي فضاء النص وأبعدها عمقا عن العلاقة التي لابد قائمة بين النص وهذه العلامات وإلي أي مدي هي قادرة في سياقها أن تنتج دلالتها الخاصة، ويكون لها إيحاؤها الخاص في هذا السياق الجديد بعد أن أدت وظيفة في سياق زمني آخر، هوبالطبع سابق لسياق النص الراهن.
علي هذه الوتيرة تحاول نصوص المجموعة أن تصنع لنفسها أفقا خاصا تطمح من خلاله أن تنتج دلالتها وأن ترسم عالما خاصا يصنع حدودا لتميزها، ويكون قادرا عند نقطة تحددها النصوص أن تتحاور مع قارئها وعصرها، بل وعصور مضت تقفز إليها في محاولة لجعلها دالة في سياق مغاير.