د. خالد غازي
تغيير المناخ السياسي الذى جاءت به ثورة الخامس والعشرين من يناير فى مصر، يقتضى مواجهة القضايا بالحكمة والحوار المنصف والهادئ، وإيجاد حلول توافقية يتوافر فيها تحقيق الحرية والأمن والعدل.
(1)
الأجواء السياسية في مصر ملبدة ضبابية، وتكتظ بالكثير من الشكوك والاتهامات المتبادلة بين أطراف العملية السياسية فى الشارع؛ لأن كل طرف يسعي للنيل من الآخر وتهميشه؛ للاستحواذ على الساحة، بغض النظر عن النتيجة المرتقب حدوثها. فقضية التمويلات فى مصر لم تقتصر على عدد من منظمات المجتمع المدنى – سواء المرخصة أو غير المرخصة – فحسب، بل امتد الأمر ليشمل ثوار التحرير؛ فالمداهمة الأمنية لمقار منظمات المجتمع المدنى، واحتجاز العاملين، ومصادرة وثائق هذه المنظمات، وإغلاق مقراتها، لا يزال يثير الجدل فى الأوساط السياسية؛ باعتبارها تكريساً لممارسات النظام السابق ، وتعاملاته مع مختلف القضايا بشكل أمنى، يفتقد إلى الرؤية السياسية الواضحة والشفافية في معالجة الأزمات ؛ فكان منهجا لديه طوال حكمه بأن يقوم بإلقاء كرات اللهب على الساحة السياسية ثم يختفى؛ ليعود بحل يخدم مصالحه ويعزز وجوده في السلطة ! فهل يكررها المجلس الأعلى للقوات المسلحة، خاصة وسط الانقسام حول وجوده وممارساته فى إدارة شئون البلاد؟
(2)
إن ملف المنظمات الحقوقية، التي تعمل بترخيص أو بغير ترخيص، وتتلقي تمويلا من الخارج، على طاولة النقاش والتحرى منذ ستة أشهر مضت وليس جديدًا، لكن الجديد هو الحديث المتواصل عن أن هناك أموالًا سياسية تدخل مصر لتعزيز تيارات سياسية بعينها، وكذا عدد من المنظمات الأهلية، وحتي الثوار أخذوا قسطًا لا بأس به من البحث عن التمويل، وإلقاء التهم بين التيارات المختلفة – سواء الإسلامية، أو الليبرالية، أو الحركات الاحتجاجية والثورية، التى ولدت من رحم الثورة – وخلقت عمليات التفتيش والمداهمة – التى قامت بها قوات من الجيش والشرطة – نوعًا من الترويع، وكرست لرسائل خاطئة تتضمن إهدارًا لحقوق تلك المنظمات ؛ فاقتحام تلك المقار – التى تجاوز عددها السبعة عشر مقرًا، وهناك من الآراء ما يرجح أن يكون عددها بها ستة أو سبعة مقار فقط – يفتح الباب أمام الكثير من الأسئلة الشائكة التى تتعلق بالحريات، خاصة بعد قيام ثورة يناير، والتي تأسست على مبدأ الحرية، خاصة أن صاحب القرار هو د. فايزة أبو النجا وزيرة التعاون الدولي، والتى أعلنت مسئوليتها عن فتح ملف تلقي بعض منظمات المجتمع المدني لتمويل خارجي، بالمخالفة للقانون. وقالت: إن الولايات المتحدة الأمريكية قامت بتمويل بعض المنظمات؛ بنحو تجاوز المليار جنيه مصري – أى ما يعادل المائتى مليون دولار أمريكى – وهو مبلغ وصفته بـ”الكبير جدا”، وطالبت كذلك كل دول العالم – بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية – بحظر تمويل الجمعيات ذات الأنشطة السياسية، أو أنشطة تتعلق بعمل الأحزاب السياسية. لكن هذه العملية؛ هل تمت وفق القانون فعلاً؟ ومن صاحب القرار فيها؟ فالتمويلات التي تتلقاها هذه المنظمات من الخارج؛ يقول أصحابها إنها قانونية، وينفون أن يكون هناك حد أقصى لتمويل منظمات المجتمع المصرية.
وكان وزير العدل المستشار عادل عبد الحميد، قد أكد أن عملية التفتيش التى تمت لمقار المنظمات قانونى، وبناء على تكليف مسْبق من رئيس مجلس الوزراء، الذى طلب تشكيل لجنة لتقصى الحقائق لبيان قضية التمويلات ومعرفة مصدرها – سواء المحلى أو الدولى – والتي تتلقاها تلك المنظمات.. مشيرًا إلى أن “اللجنة أوصت بضرورة إحالة الموضوع إلى النيابة العامة أو انتداب قضاة تحقيق من وزارة العدل لمتابعة الأمر”.
(3)
إذن الأمر ذو نية مبيتة قصدها كشف التمويلات، لكن طريقة الممارسة حول تقصى الحقيقة هو المشكلة التى تواجهها الدولة الجديدة فى مصر، والتي تتسم بعشوائية التنفيذ. فمجرد إصدار الأمر دون ضوابط، وتنفيذ يثير الجدل، فهذه الطريقة من الضرورى تغييرها، لكنها صورة حية لممارسات النظام السابق الذى كان يقرر ويصدر الأوامر وينفذ دون الرجوع لأحد. فكان رد الفعل علي تلك المداهمات، هو حالة من القلق الدولى والعربى والمحلى؛ وإبداء العديد من الجهات الرسمية قلقها؛ وتم إطلاق الاتهامات ضد المجلس الأعلى للقوات المسلحة حول تحالفه المكتوم وأرباب التيار الاسلامى، خاصة حزبى “الحرية والعدالة” الذراع السياسية لجماعة الإخوان المسلمين، وحزب “النور” التابع للجماعة السلفية؛ لضرب المجتمع المدني، وهي الأحزاب التى قامت بدور لا بأس به فى ثورة التحرير؛ منذ اندلاعها، وما سبقها من حكم مبارك، وكذلك ما لحقها من أحداث؛ كقضايا محاكمة المدنييين أمام المحاكم العسكرية، وكشف العذرية الذى تعرضت لها بعض الثائرات فى ميدان التحرير، وكذلك كشف بعض الممارسات للأجهزة الأمنية فى التعامل مع التظاهرات السلمية، فقد يكون ذلك أسلوباً جديداً للتشهير بها؛ لأن طريقة المجلس العسكرى أو رئاسة الوزراء التى تم اتباعها غير قانونية لمراقبة عمل تلك المنظمات؛ من خلال استدعاء ممثليها ومراقبة حساباتها فى البنوك، خاصة أن باقى المنظمات الحقوقية العاملة فى مصر لا تزال تمارس عملها وتقوم بنشاطاتها التى بدت جلية فى سائر مراحل انتخابات مجلس الشعب.
(4)
ونجد هناك عددا من الحقائق المهمة؛ والتي يجب أن توضع في الحسبان ؛ أولاها عصر المعلومات والعولمة ، والتي توجب على الدول التعامل مع منظمات المجتمع المدنى على اعتبارها جزءًا لا يتجزأ من بناء الدول وسير العمليات السياسية فى الدول كافة، إضافة إلي أنها تربة صالحة للمشاركة فى زرع نبات ديمقراطى جديد فى دول الربيع العربى، والحكومات الجديدة، وأنها كذلك صارت في حماية المجتمع الدولي علي المستويين الشعبي والرسمي. والحقيقة الثانية أن مداهمة تلك الجمعيات والمنظمات، سيخلق مناخا سلبيا ضد الدولة؛ لأنها تقوم على انتهاك الحريات والحقوق، وسيُضعف الدولة فى العالم. فتلك الجميعات لها امتدادات دولية، خاصة أنها وثيقة الصلة بميثاق الأمم المتحدة، فضلاً عن أنها تحظى بتضامن دولي وأممي .
والحقيقة الثالثة أنه من الضرورى أن تعترف الدول بدور هذه المنظمات قبيل الثورات؛ سواء فى مصر أو خارجها، ومساندتها للقضايا الدولية منذ إنشاء المنظمة العربية لحقوق الإنسان، فى الدفاع عن الحقوق المهدرة. والحقيقة الرابعة أن تلك المنظمات تتنوع أنشطتها في مجالات الدفاع عن حرية الرأي والتعبير، وعن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، إضافة إلى تدريب وتأهيل الكوادر لممارسة أدوار فاعلة فى الحياة السياسية. والحقيقة الخامسة أن أعضاءها وأطقم العمل فيها، تعرضوا للكثير من الغبن ؛ من أجل المحافظة على الحقوق والدفاع عن الحريات ؛ وأنهم أحد العوامل القوية التي شكلت الوعي الذي قاد إلي ثورة الخامس والعشرين من يناير، حتى فى الكثير من الدول العربية والنامية وكذلك المتقدمة. وأيضا من الحقائق المهمة، أن تلك المقار التى تم اقتحامها ذات حجم ودور مهم وتاريخ صنعته على مدار عقود، وليس من المعقول أن نأخذها بذنب بعض الوشايات؛ أو لمجرد وجود البعض يتقاضى تمويلات مشبوهة. ومن الضروري الاستجابة لدعوة المجلس القومي لحقوق الإنسان باستئناف الحوار بين الحكومة والمنظمات لإمكانية وضع ضواط ونقاط محددة، وتكوين بيئة تشريعية مناسبة، تتلائم ومناخ الثورة، بما يكفل الحقوق ويحترم سيادة القانون، لبيان من هم المسئولين والجهات التى تخضع للتربح من الأعمال الحقوقية والخدمية.