تتوزع الإسهامات الفكرية والثقافية للدكتور خالد محمد غازي على مناحي عديدة، بالإضافة لكتبه وأبحاثه في مجال الصحافة والاعلام ومنها “الصحافة الالكترونية العربية..الالتزام والانفلات في الخطاب” و”ما بعد العولمة .. صناعة الاعلام وتحول السلطة” و”التوظيف الاعلامي السياسي لشخصية الجاسوس”و” مي زيادة سيرة حياتها وأوراق لم تنشر”..
وقد فاز كتابه عن “مي زيادة.. سيرة حياتها وأدبها وأوراق لم تنشر”..” بجائزة الدولة التشجيعية في الدراسات الأدبية، كذلك أصدر مجموعتين قصصيتين ورواية “المنتهى الأخير”، وأخيرا استهدف الناشئة بكتاب عنوانه “نساء نوبل” ويقدم تراجم أدبية للفائزات بجائزة نوبل في الآداب، وقد سبق لخالد غازي أن أصدر عنهن كتابه الممتع ” التفاحة الذهبية”، لكنه هنا لا يكرر نفسه، بل يخاطب فئة أخرى من الصبية والشباب، وقد اعتاد من يتوجهون بالكتابة لهذه الفئة أن يقدموا قصصا أو كتبا تاريخية، وقليلون من اهتموا بتبسيط العلوم، لكن الجديد في كتاب ” نساء نوبل” هو نوعية المادة المقدمة للناشئة، مقدما بذلك على مغامرة كبيرة.
النساء للناشئة.. لماذا؟
في تقديمه للكتاب يشير المؤلف إلى أن النساء حققن نجاحات كبيرة في كافة ميادين العلم والثقافة، لكنهن يواجهن عنتا وتحيزا ذكوريين، وقد تجلى ذلك في جائزة نوبل بفروعها المختلفة، فعدد الفائزات بها لا يقارن بعدد الرجال، فوفقا للمقدمة كان عدد من فزن بالجائزة ثمانية وأربعين امرأة فقط، في مقابل ثمانمائة وخمسة وعشرين رجلا، وكنوع من الرفض لهذا التحيز، وفي محاولة لرفع الظلم عن المبدعات المضطهدات يأتي هذا الكتاب عن النساء الفائزات بالجائزة الأدبية الأرفع. شارحا مقدار معاناتهن وطرق تغلبهن على الصعاب، وموضحا كيفية تحويلهن للنكبات التي مررن بها إلى وقود للمضي قدما في طريق الإنجاز وإثبات الذات.
لكن لماذا استهدف الكاتب الناشئة بكتابه؟
الإجابة ببساطة ، لأنه يدرك أن أهم أهداف أدب الأطفال وقصصهم وحكاياتهم يتمثل فيما يتعلم الأطفال من قصصهم وحكاياتهم، وهم يرافقون أبطال الحكايات، وشخوص القصص، وما يتشربون من قيم، وأنماط سلوك وأساليب عمل تضاف إلى خبرات حياتهم التي ما تزال غضة، فتساعدهم على مواجهة ما في الحياة من مشاق وآلام ، لذلك عمد الكاتب في فصول كتابه، وقد ترجم في كل فصل لواحدة من الفائزات، على استخلاص المشترك الإنساني بينهن فضلا عن كونهن جميعا من النساء ومن الأديبات، فكلهن جميعا مررن بتجارب قاسية ونجحن في مقاومة آلامهن وتحقيق آمالهن، فهو يرى أن الألم وحده هو المفجر لطاقات الإبداع لدى نساء نوبل، فلم ليس مجرد أحاسيس عابرة وذكريات أليمة، وإنما كان بمثابة ثقافة وفكر وخيال واختزال لمآسي البشر ومحفز للبحث عن النور في ظلمة الأيام والمسؤول الأول عن ولادة الإبداع. فها هي “سلمى لاجيرلوف”، والتي يلقبونها بـ “ملكة الأدب السويدي” تقول: “حينما أكتب أعيش في وحدة كبيرة وعليَّ أن أختار ببن عيشي لوحدي ووحدتي ومن ثم انطلاق القلم أو أن أكون بين الآخرين فلا أسطر شيئاً”.
حيواتهن في قصص
قدم الكاتب سير الكاتبات في قالب أدبي يمكن اعتباره مقال قصصي ، فقد اهتم بسرد مواقف تكشف عن كنه الشخصيات، وكتبها بلغة بسيطة فصيحة تناسب المرحلة العمرية التي يخاطبها، فمثلا افتتح مقالته القصصية عن ” سلمى لاجيرلوف” أولى الفائزات بنوبل الآداب بسطور عذبة معبرة ، نقرأ: ” في السماء حلقت وكان مقامها بين الطيور والسحاب، بالرغم مما هي فيه من حالة صحية متردية إلا أنها تحدت المستحيل”، ويدلف من تلك المقدمة ساردا بنفس المستوى اللغوي قصة كفاح ونجاح سلمى لاجيرلوف، وهي المريضة الفقيرة اليتيمة التي ملأت الدنيا إبداعا ونجاحا أتاح لها الفوز بجائزة نوبل ثم بوأها مكانها بين أعضاء الأكاديمية السويدية المانحة للجائزة، وقد تحدثت لاجيرلوف في كلمتها أمام الأكاديمية المانحة عن تلك المعاناة التي لازمتها مبكرا حيث أصيبت في طفولتها بمرض شلل الأطفال الذي أتلف ساقيها، وتضاعفت المعانة برحيل الأب مدينا. وهي التجربة التي كانت بمثابة البوتقة التي صهرت موهبتها فأخرج إبداعها الفذ وجعلها حتى اللحظة الاسم الأهم في الأدب السويدي.
أما الإيطالية جراتسيا ديليدا ، فمعاناتها ترجع لحرمانها من إكمال تعليمها، فتقاليد مجتمعها في جزيرة سردينيا الإيطالية لم تكن تسمح بتعليم الفتيات، وقد قاومت حرمانها من التعليم بالقراءة ثم كتابة الشعر والقصة القصيرة قبل أن تتجه لكتابة الرواية، وعانى أبطال رواياتها من تسلط القساوسة، وضغط التقاليد السائدة في المجتمع ، والمفارقة في حالة جراتسيا أنها اتجهت للكتابة هربا من رغد العيش، ورفضا للقيم الأخلاقية التي كانت سائدة في طبقتها الإجتماعية، وقد تجلت معاناتها في روايتها ” الأم” وهي ليست رواية أحداث بل رواية تعبير عن أزمة نفسية، فجراتسيا ديليدا ، وكما جاء بالكتاب في مقدمة الحديث عنها ” دائما ما ترى الطيور في السماء تحلق دون قيود، لذا أرادت أن تكون مثلها طائرة وهائمة في سماء الفكر والثقافة”، لذا فإن شخصيات رواياتها غالبا ما تتمرد على التقاليد البالية، وتحاول الهروب من واقعها الاجتماعي.
وتخطين الصعاب
“حلم الطفولة هو ما يصنع منا أشخاصا قساة القلوب، أو يجعل منا ملائكة نقية تعيش على الأرض كي تعمرها وتنشر فيها الخير”، هذا ما آمنت به ” سيجريد آندسيتلا” ثالث الفائزات بنوبل الآداب، وهي تنتمي للدانمرك والنرويج معا بحكم جنسية والديها، فالأب عالم آثار والأم مثقفة ابنة محام شهير، ارتبطت سيجريد بوالدها كثيرا، وتأثرت بعشقه للآثار والتاريخ والأساطير، فكانت ترسم شخوص الأساطير وتحلم بدراسة الرسم والتفرغ له، لكن فجأة وهي في الحادية عشرة تتبدل أحوال الأسرة، فيمرض الأب ويموت مورثا أسرته ديونا طائلة قضت على أحلام الفتاة، التي تجرعت مرارات الفقر واليتم بعدما ذاقت رغد العيش، وقد اضطرت للعمل وهي في السادسة عشرة لتعول نفسها، وقد دفعها حبها للفن للسفر إلى روما وهناك تعرفت بمجموعة من التشكيليين الاسكندنافيين، وارتبطت بعلاقة حب مع أحدهم، وكان نرويجيا كوالدها، بادلها الحب فطلق زوجته وتزوج من سيجريد وعادا للنرويج ليمارس الرسم ولتمارس هي الانجاب وكتابة الروايات خصوصا التاريخية. وكانت تؤمن بأن الأدب الجيد هو الذي يعرف كيف يصور النفس البشرية مهما اختلفت العصور.
وهكذا تتواصل سير الفائزات، كحبات عقد خيطه الرابط هو المعاناة، وكانت معاناة الأميركية بيرل بك مزدوجة، فهي ابنة لقس بروتستانتي متشدد، عمل مبشرا في الصين، فانتقل بأسرته إلى هناك، لذا عاشت طفولة مغتربة من ناحية وحزينة قلقة من ناحية أخرى إذ فقدت أربعة من أشقائها بسبب الكوليرا التي كانت متفشية في الصين وقتها، كذلك نشأت نادين جورديمر في بيئة شبيهة بتلك التي نشأت فيها بيرل بك، فهي ابنة لقس كاثوليكي ينحدر من أصول ليتوانية بينما أمها بريطانية الأصل، أما التشيلية جابرييلا ميسترال وهي أول شاعرة تفوز بنوبل حُرمت من أبيها وهي ابنة ثلاث سنوات، وبعدها كان الفقر رفيقا لها، وهكذا ذقن جميعا مرارات الفقر أو اليتم أو المرض، وعانين من الاضطهاد أو التفرقة العنصرية أو الحرب، لكنهن نجحن بإرادتهن في تحقيق أحلام طفولتهن، وتخطين الصعاب، وهذا هو الدرس الأهم الذي يلقنه الكاتب للناشئة عبر استعراضه لسير نساء نوبل.
أحمد رجب شلتوت