د · فريد الزاهي
إذا كان الكثيرون يعتبرون كتابة القصة مجرد مدخل ممكن للكتابة الروائية، فإني اعتبرتها دائماً حكياً قائماً بذاته، لا يعوزه الطول والامتداد كي يستوي في اكتماله، القصة القصيرة فن النظرة ذات الإيقاع السريع، التي تلقي على العالم خلسة، وكأنها بذلك تسترق السمع إلى نبضاته الخفية، خارج كل مسار ملحمي مفعم بالحضور الأكيد للشخصية، ولذلك فالكتابة القصصية لا بطل لها، أو بالأحري أن بطلها الفعلي هو تقنيات الحكي والتصوير ولعبة المرايا التي يمارسها الكاتب بالقرب من ذاته، غير بعيد عن تقاطعات نفسه مع أنفاس الآخرين.
لذا حين قرأت “أحزان رجل لا يعرف البكاء” لخالد محمد غازي ذات صيف، كانت مدخلي إلى عالمه المأساوي الباطن، الذي يثوي خلف ضحكاته المرحة، وكأني بالقصة هنا تكشف عن عمق الذات في محاولات تواصلاتها مع ما يجعل من العالم كومة من المتناقضات ، التي لا تنصاع للحكي إلا بتركيبها في وحدات لها منطقها الخاص ، في تذويب تكلسها.
حزن في الرأس وفي القلب
وجدت نفسي أستعيد هذا العنوان للقاص المغربي لإدريس الخوري (في أولى إصدراته في مشارف السبعينات) وأنا أقرأ هذه المجموعة القصصية، لأنها تستبطن الحزن والمآسي وتقتنصها في تربة الواقع وتستجذبها إلى مهاوي الكتابة، من ثم يمكن الحديث عن مفارقة أولية تعلن عنها الكتابة القصصية لدى خالد محمد غازي، تتمثل في كون العنوان يمارس علينا المواربة منذ غلاف الكتاب، وهي مورابة يحتال بها القاص على القارئ، كي يستدرجه إلى مسارات المعنى المبطنة التي ترسمها الحكاية القصصية، فالرجل الذي لا يعرف البكاء (وهو عنوان القصة الأخيرة) يغلق الكتاب على تضاد علينا استكشافه، يتعلق الأمر هنا بالبكاء كموقف إدراكي جسدي تعلن من خلاله الذات عن رد فعل مباشر على مايخترقها من كبوات وصدمات وخيبات مضمرة ومعلنة، بالبكاء سيلان الذات وتفتتها، وفي الآن ذاته تنفس الجسد أمام صلابة ما يحاصره، وهو من ثم تعبير يحيل بكل أنواع الدلالة، والعزوف عن البكاء قطعاً موقف وجودي يحول البكاء العيني إلى مجاز ، ويجعل منه موقفاً استسلامياً، والحال أن البكاء يخترق هذه المجموعة ويجعل من شخصياتها محاصرة بالدمع : فالممثل “يسقط على المسرح بعد أن خنقته الدموع”(ص،43)، والدموع القاتلة تثقب خشب الباب الذي لا يحجب الحيرة واليأس وأحزان الغرباء(ص،45)، وشخصية المناضل تنزف دماً وتبكي بحرقة ( ص، 75و60).
هذه المفارقة الأولية لعبة ترمي بالدلالة القصصية إلى حجر القارئ ، كي يسائلها ويتحمل مسئولية متابعة مسارها، وكأن القصة بذلك تستنطق المعنى المأساوي بالسخرية منه، تارة عبر اللعب على المفارقات، وتارة أخرى يقول نقيضه مواربة إعلاناً للشيء بضده، من دون أن تتخلى طبعاً، عما يجعل من رفض المأساوي موقفاً من الواقع، فإذا كان رفض الحزن تعبيراً عن المواجهة والصلابة، فإنه في الحالات الأخرى تعبير عن نبض الجسد وارتعاشاته اللاواعية.
من ثم تنحو أغلب القصص إلى التقاط المأساوي وتعريته بالقول تارة ، وبالتصوير الوصفي أخرى، ومن خلال التلاعب بالزمن الحكائي، ففي قصة “حين يغير الماضي ألوانه” مثلاً، تمسك القصة بالمقطع الحياتي وتتلاعب بمنظوراته، محولة مأساوية ما حدث لحنان مع زوجها إلى مسرحية ساخرة ينقلب فيها العنف ضد صاحبه هكذا يتحول حامد إلى تلك الصورة التي تعيد آلام الجرح ويتحول حوارهما إلى محاولة للنسيان ، فحين تعلم حنان بما حدث لزوجها الذي استولى على شقتها وما لاقاه من جراء عنفه السادر ، تتجه لحامد : “لا أخفي عليك يا حامد وصديقته تحكي لنا ما حدث ، كانت أنفاسي تتلاحق وصدري يعلو ويهبط وكأنه يكسر قيوداً تكبله.
حامد : ها أنت تجعل جراحي تندمل وتحاصرني بإجابتك على أسئلتي المبتورة المؤلمة ·· كل ملامحك كانت تقف بجواري لتجعلني قوية، أشق شرنقتي .. ” ص23 .
عيون الحكاية أو الكتابة بالعين
تخضع الكتابة القصصية لدى خالد محمد غازي لـ Perspectivlsm وهي الحيلة التي من خلالها يستطيع المؤلف من التمكن من حرية الكتابة والعمل على تنظيمها وفقاً لمسارات المعنى المبتغاه ، وبذلك تمنح اللحظة القصصية للمؤلف والقارئ وجهها وقفاها ، ماضيها وحاضرها ، أحشائها وجلدتها ، وكأننا بالمؤلف يسعى إلى أن يكشف عن كل مناحي اللحظة ويعري أوصالها ليمنحنا إياها في وجوهها المتعددة ، هذا المترع الاكتمالي يسعى به الكاتب إلى تفجير العنف الكامن في الشخصية والحدة والتوتر ، الذي تفترضه بكامل الليونة واليسر وكأنه بذلك يسعى إلى إشراك القارئ في عملية سبر المعنى وتحويله من مجرد متلقي للعملية الحكائية إلى حامل وصائغ لها .
تبعاً لذلك تفضي اللحظة القصصية بمكنونها المأساوي ، وتستوي للقراءة عبر مجموعة من التقنيات تعتمد التقطيع الحدثي والتوليف الحكائي واستعمال اللقطة السينمائية في حركتيها ·
والحقيقة إن الكتابة بالعين تحول النص القصصي إلى ما يشبه السيناريو ، معلنة ضمناً أن الالتقاط البصري أصل الصياغة اللغوية وأن العين هي المؤلف الأول لكل كتابة وأن الصورة القصصية مدخل لتعبيراتها واكتمالها الحكائي ، إن هذا التنوع يخلق تنويعات في الشخصيات ويتمكن من المآلفة بين المختلف وتطويع المتعارض وتحويل الحدث فعل التأثيرات المكثفة للحكاية .
تزج بنا الآلة الحكائية للمجموعة في صلب الحدث من غير إسراف في الحكي ، عبر الجمل المتقطعة التي تخلق إيقاعاً شعرياً أحياناً وإيقاعاً حدثاً أخرى ، وعبر المناوبة بين الحواري والحكي ، ولعل هذه التعددية التي يبدو أن المؤلف مغرم بها في نسج خيوط الحكاية هي التي تجعل من القصة لديه مسرحية بصرية متعددة الأصوات ومتعددة الموضوعات في الآن نفسه ·· كما نلمس ذلك بشكل جلي في قصته “لا تؤاخذني على صراحتي” ، “الرهان على جواد ميت” بحيث تغدو الحكاية مختبراً حياً لخلق التخييلي للشخصيات والأحداث وإعادة صياغتها بما يضمن لها سيولتها وتلقائيتها .
كما أن هذه الإدراكية الممنهجة التي تستخدم كل الطاقات الحسية في صياغة الكتابة القصصية تزج بنا أيضاً في خضم الشبكة الحكائية ذات المداخل المتعددة ، الأشبه بالمتاهة أحياناً ، وكأني بغازي يتماهى هنا مع أهرامات الجيزة ويبني المعنى تبعاً لمسارب البناء الهرمي المتصاعد الحابل بالتداخلات والتفاعلات ، والتي نغدو معها أمام لجّات ومويجات تدفعنا تارة وترمي بنا تارة أخرى في صلب اللحظة الحكائية ، وهذا فإن الهدوء الظاهر للحكي يضمر عنفاً وتقاطعات تنبئ عن الحدة والتوتر اللذين تكتب بهما القصة وترتوي بهما مغاور الرؤية المأساوية “للعالم في بعدها الفلسفي” كعيش للمفارقات وللمسافات بين الرغبة وممكنات تحقيقها .
ولعل هذا أيضاً ما يجعل من الموت الموضوعة التي تسربل الحكاية وتمنحها نسغها ، فعلاقة الكتابة القصصية هنا بالموت يأتي من خلال ومضات تؤكد الطبيعة المأساوية للمفارقات وتجعل من مساءلة الغياب إحدى أكبر القضايا التي تتفاعل معها وضمنها قضية الكتابة برمتها.