ضربني عندما رآني ألعب أثناء البروفات

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

يقول المثل السويسري: «إذا أردت أن يحبك الناس.. فابدأ ببذل المال والكرامة»

بمجرد ذكر اسم يوسف وهبي – فنان الشعب – يتبادر إلى الذهن الكثير من الإسهامات التي قدمها في مجال المسرح بحيث تجعله على قائمة جيل الرواد، فهو صاحب أول فرقة مسرحية بالمعنى الصحيح هي فرقة رمسيس التي تُعد بداية المسرح المصري الخاص ذي المستوي الراقي، فقد أرسى «وهبي» العديد من القواعد التي أضفت على شخصية الفنان كل الاحترام والتقدير، ولأن فرقة رمسيس كانت هي أولى محطات الانطلاق الحقيقي لفاطمة رشدي، فقد تحول «وهبي» بدوره إلى واحد من الرجال البارزين في حياتها.. منذ بداية عملها معه وحتى أصبحت ممثلة فرقة رمسيس الأولى وحتى بعد أن أسست فرقتها المستقلة.

وإذا كان «وهبي» هو صاحب المقولة الشهيرة «وما الدنيا إلا مسرح كبير» فإن مجرى الأحداث وتصاريف الأقدار تقول إن حياة فاطمة رشدي كانت جزءًا من هذا المسرح.. وقد أدى يوسف وهبي دوره كما رسمه القدر.. وقد استطاعت فاطمة تحقيق نصف مجدها المسرحي من خلال فرقة رمسيس، والنصف الآخر في رحلة التحدي التي أعلنتها ضد فرقة رمسيس وصاحبها يوسف وهبي.

وتؤكد الأحداث أن فاطمة لم تلتق أبدًا بوهبي قبل سفره لإيطاليا وإن كانت قد عرفت الكثير من جوانب شخصيته من خلال أحاديث عزيز عيد الكثيرة عنه، وعن رحلة كفاحه في إيطاليا لدراسة الفن، حيث قاسى فيها من الجوع والفقر ما لا يستطيع الكثير من الناس وهو ابن الباشا الذي نشأ منعمًا مرفهًا محاطًا بكل صور الغنى والثروة.. وقد رسمت أحاديث عزيز عيد عن يوسف وهبي صورة مبهرة في ذهن الفنانة الصغيرة.

تقول: عندما كان عزيد يحكي لي عن الصعوبات التي يلاقيها «وهبي» في أوروبا وكيف أنه يضطر إلى القيام بأعمال حرفية شاقة من أجل تحقيق حلمه بدراسة الفن والوقوف على التقدم الكبير الذي حققته أوروبا في هذا المجال كنت أصاب بالدهشة، ولا تزول هذه الدهشة إلا حينما أنظر إلى عزيز عيد فأعرف أن «وهبي» لا يختلف كثيرًا عنه، فكلاهما عاشق لهذا الشيء الذي لا يباليان من أجله بأي مشاق أو صعوبات.. بل هما على استعداد دائم للتضحية بكل شيء من أجل هذا المعشوق الذي يأسر عقليهما ويسير حياتهما وكأنهما يسيران بلا عقل.

وعندما حضر يوسف وهبي إلى القاهرة عقب وفاة والده واتفق مع عزيز عيد على تحقيق حلمهما الكبير الذي طالما راودهما طوال السنين الطويلة معتمدين على الثروة الكبيرة التي ورثها «يوسف» أدركت أن هذا الشاب القادم من أوروبا حاملًا العلم والموهبة ويمتلك المال اللازم سوف يكون له شأن عظيم، وبدت فرقة رمسيس هي المولود الجديد الذي نحلم بأن يشب ويكبر.

تقول فاطمة: كان من الطبيعي أن أكون واحدة من الممثلين بفرقة رمسيس منذ البداية، وكنت قبلها ألقي المونولوجات الغنائية في الروايات الاستعراضية. وكم كانت البداية صعبة، وكم كان «يوسف» عظيمًا، وهو يضع أسس أول مسرح مصري؟! لقد استطاع أن يصنع المستحيل وأثبت كفاءة عالية في كل شيء حتى أنه استطاع أن يحول «الجراج» الذي تم استئجاره إلى «مسرح رمسيس» الشهير وقد كنت أشعر أنه من الصعب جدًا أن يتحول هذا المكان الخرب المقفر إلى مسرح يضج بالحياة.

وتضيف: كنت أقف أرقبه وهو يشبه الساحر، حيث يشير بإصبعه يتحول المكان إلى جزء من المسرح الذي يحلم به، وكان أثناء حركته تتحول الأرض تحت قدميه إلى مسرح. إن كل حركة من حركته تنم عن فنان عظيم تشعر أن عينيه تشعان فنًا وكأنه يكاد أن ينفجر لفرط الطاقة الفنية الهائلة التي تفور في هذا الجسد العملاق وتريد أن تخرج.. إن الثروة التي كان يملكها يوسف وهبي هيأت له القدرة على تحقيق ما يريد وإرساء قواعد المسرح.. لكن هذه الثروة وحدها لم تكن كافية لخلق الفنان.. فالمال يشتري المسرح أو يستأجره أو يصنع ديكورًا ضخمًا أو ملابس فاخرة.. ولكنه لا يستطيع أن يشتري فنانًا حقيقيًا.. لقد استطاعت موهبة «يوسف» أن تصنع جيلًا من المبدعين ما كانوا ليصلوا إلى هذه الدرجة دون أن يكون بينهم فنان موهوب مثل وهبي.

وحدث ليلة الافتتاح أن قدمت الفرقة رواية «المجنون» وحققت نجاحًا جعل الجميع يشيدون بها، وخرج الناس من المسرح يتحدثون عن هذا الفن الجديد، وعن الأبطال الكبار الذين يلعبون الأدوار الصغيرة، ويتفانون في الأداء تحدوهم الرغبة الصادقة في تقديم أحسن ما عندهم.

وتتذكر «فاطمة» هذا اليوم فتقول: كان دوري في «المجنون» صغيرًا.. ولكننى كنت أقف معظم الوقت في الكواليس أتفرج على هذا العملاق – وهبي – الذي استطاع أن يجذب انتباه المشاهدين بصوته الجهورى وأدائه الرائع.. حتى أنني كنت أرى الجماهير تجلس لا تصدر منها أى حركة والانفعالات التي يجسدها «المجنون» وهبي ترتسم على وجوههم ثم تعلو موجة من التصفيق الهادر عقب انتهائه من المشهد.. وكنت أشاهده بجميع حواسي، فقد كان يمثل وكأنه يصلي يعيش في الشخصية حالة من التواصل والعشق.. لقد تعلَّمت من «وهبي» في هذا اليوم كيف يمكن الممثل المسرحي أن يستخدم نبرات صوته في التعبير عن مضمون النص المكتوب.. أجل لقد علَّمني وعلَّم الكثيرين من أبناء جيلي أن الممثل لا يمثل حين يقف على خشبة المسرح، إنه يحيا حياة طبيعية تمامًا.. ينسى أن ما يؤديه هو قصة من خيال المؤلف.

 واستمر «وهبي» يعلمنا قواعد التمثيل الحديث من خلال معايشتنا له على خشبة المسرح وأثناء البروفات وكانت تشاركه في البطولة في هذه الفترة العظيمة روزاليوسف التي حققت نجاحًا رائعًا حين لعبت دور «مرجريت» في «غادة الكاميليا» حتى إنهم أطلقوا عليها سارة برنار الشرق لأن دور «مرجريت» هو أعظم أدوار «سارة برنار» والذي خلد ذكرها في فرنسا والعالم.

تقول سارة برنار الشرق: جاءت الفرصة لأقف أمام العظيم وهبي لأؤدى أدوار البطولة بعد انسحاب روزاليوسف واشتغالها بالصحافة، والفرق كبير أن تشاهد وهبي من وراء الكواليس أو تؤدي دورًا بسيطًا أمامه وبين أن تشاركه البطولة.. كان يصل اندماجه في الشخصية إلى درجة أنه ينسى تمامًا الحوار المكتوب، فنجده يتحدث بشكل مختلف عن البروفات التي تم التدريب عليها، وفي البداية كنت أشعر بالخوف الشديد لكنه ربت على كتفي وطمأنني قائلًا: “يا فاطمة لا تمثلي بل عيشي داخل الشخصية التي تقومين بها، وقتها فقط لا يهم ما يحدث من خلل في الحوار، سوف تجدين نفسك تتحدثين بلسان الشخصية وليس بلسانك أنت”..

كان «وهبي» حين يصل إلى قمة انفعاله.. تجحظ عيناه بشكل مخيف.. وقد كنت خائفة بطبعي، خاصة أنه من قبل ضربني بشدة حين وجدني ألعب «نط الحبل» خلال إحدى البروفات، فكيف أقف أمامه لأؤدي البطولة بدلًا من الفنانة الكبيرة روزاليوسف والتي تتمتع بحب جماهيرية كبيرة من الجمهور والنقاد على السواء، كما أن صداقتها للعديد من الصحفيين والنقاد كانت تزيد من حيرتي وخوفي.. لكن الفنان الحقيقي هو الذي يشعر بالآخرين، لقد كان «وهبي» الكبير جدًا يقف معي قبل الدخول إلى المسرح، ليراجع معي دوري، ويرشدني إلى شكل الانفعال الصوتي والحركي في كل مشهد، ونجحت في تقديم دور غادة الكاميليا، وصفق الجمهور كثيرًا لهذه الممثلة الصغيرة التي استطاعت أن تؤدي دورها بنجاح لا يقل عن نجاح روزاليوسف، وكما أخذت دور روزاليوسف أخذت أيضا لقبها «سارة برنار الشرق» وإن كان قد ظل ملتصقًا بي طوال فترة عملي بالفن.. ثم قدمت «توسكا» و«النسر الصغير» و«أولاد الفقراء»، وقد ضايق هذا بعض الممثلات الآخريات، فبدأن في الدس والوقيعة بيني وبين «وهبي» عندما حاولت زينات صدقي التشويش علىَّ وقت أن كنت أؤدي دوري في مسرحية «النسر الصغير».

وعندما لجأت فاطمة إلى يوسف وهبي في حالة ثورة شديدة حاول أن يعالج المشكلة بطريقته الهادئة دون أن ينصر طرفًا على حساب الآخر، وكانت هذه عادته في علاج المشاكل، وألقى اللوم على كل من فاطمة وزينات صدقي.. ولكن الأولى لم تقنع بذلك وقررت الانسحاب من الفرقة.

حقًا: لا يمكن أن تحب المرأة الرجل الساخر الذكي، لأنه يخضع في العادة لسلطان عقله أكثر مما يخضع لحكم عواطفه.. وهو كالفيلسوف إما أن ينظر إلى المرأة نظرة حسية غايتها التأمل والدرس. فهو في كلتا الحالتين آخر من تخدعه العواطف.. وآخر من يخدع بألاعيب المرأة، روحها الأولى التي حققت بها النجاح..

 وبدأ يجتمع حول يوسف بعض الطفيليين المتملقين لصاحب المال.. كل منهم يرغب أن يحظى بالرضاء، كما أن «وهبي» قد بدأ يعاني من الديكتاتورية والتسلط- والكلام لفاطمة رشدي – فلا يسمع لرأي أحد.. بل وأصبح يختار من المسرحيات التي ينفرد بها بالبطولة التامة، فيصبح جميع الممثلين مثل قطع الشطرنج التي يحركها «وهبي» حسب إرادته.. وهذا غير السياسة الجديدة التي ابتدعها وهي «النزول إلى الجمهور» ولم يكن النزول تبسيط الفكر كما هو معتقد بل كان التخلي عن الأعمال ذات المستوى العالي، واللجوء إلى اللغة العامية التي لم تكن تحتاج إلى جهد كبير في التدريب.. وهذا ما كان يضايق عزيز عيد كثيرًا الذي كان يعشق الأداء بالفصحى، ويبحث دائمًا عن الأعمال العالمية الكبيرة التي تحقق رسالة الفن وترتفع بذوق الجمهور.. لكن «رُبَّ ضارة نافعة» فخلافي أنا وعزيز عيد مع وهبي رغم ما سببه لنا جميعًا من آلام وانكسار للحلم الكبير الذي انتظرناه طويلًا .. إلا أنه أفاد المسرح المصري بشكل لم يكن ليحدث لو استمر عملنا في فرقة رمسيس ولم يحدث هذا الخلاف.. فقد خرجت أحمل كل ما علَّمه لي وهبي وأحفظه جيدًا وأحمل كمًا مماثلاً من التحدي، جزء كبير منه أخذته من الإرادة القوية لوهبي.. وآخر ناتج عن رغبتى في الثأر لكرامتي كفنانة.. وقد كوَّنت فرقتي قريبة من فرقة وهبي حتى يشعر بالنجاح الذي سوف نحققه والذي كنت على يقين كامل به، واشتعلت المنافسة بين عشاق المسرح ورفاق الحلم.. لكنها أبدًا لم تخرج عن نطاق منافسة الشرفاء فقد كان وهبي شريفًا حتى في خصومته وقد تعلمنا جميعًا منه كيف نرتفع بأخلاقنا فوق خلافاتنا الخاصة، وقد أسفرت هذه المنافسة عن خلق جيل واع من الفنانين والجمهور والنقاد دفع بالحركة المسرحية خطوات واسعة إلى الطريق الصحيح.

وتؤكد فاطمة أنها لا تستطيع أن تنسى ولا يستطيع غيرها من الممثلين الذين بدأوا حياتهم في كواليس فرقة رمسيس فضل الأستاذ وهبي عليهم وعلى المسرح العربي.. فهو الذي دفعنا ودفع الفن العربي إلى الأمام.

وأنه لابد من تخليد اسم وهبي وعمل جائزة باسمه لأفضل الأعمال المسرحية اعترافًا بدوره في الارتقاء بالفن المسرحي.. ودفع من ماله وشبابه للمسرح ما جعله فنًا جادًا بشع حيوية واحترامًا، وأعطى للفنان قيمته وتقديره، ولن أنسى أبدًا أنني مدينة له بالكثير بعد أن أفسح لى المجال في مسرحه ووثق بي وكان عمري لم يتجاوز ١٥ربيعًا وشملني برعايته وتشجيعه طوال السنوات التي لعبت فيها دور البطولة أمامه على خشبة مسرح رمسيس.

أما يوسف وهبي نفسه فقد قال عن فاطمة رشدي: “بينما كنت منهمكًا في تكوين فرقة رمسيس جاءني الفنان الكبير عزيز عيد بفتاة في عمر الزهور وقال باسمًا: هذه الصغيرة «مونولوجست» ومن أسرة كلها فنانات وقد شاهدتها وهي تلقي بعض المونولوجات بثقة تؤهلها للعمل في المسرح بشكل رائع.. وقد بهرني جمال الفتاة وأخذت بتقاطيعها العربية الخالصة ورغم صغر سنها فهي ذات قوام أبدعت الطبيعة في تكوينه وتنسيقه.. كما أن لها عينين تخفيان وراء سذاجتهما أنوثة متدفقة وذكاءً حادًا.. ولم أستطع أن أخفي فرحتي بهذه الفتاة المصرية رائعة الجمال والمظهر، خاصة أنني كنت أحلم بتكوين جيل من الفنانات المصرية، وقد كان المسرح في مصر يفتقد إلى العناصر النسائية المصرية.. منذ أول يوم لها في مسرح رمسيس آمنت بموهبتها، وعرفت أنها تملك الكثير من المواهب ورغم صغر أدوارها التي فرضها عمرها الصغير، إلا أنها كانت تحظى بكل الإعجاب من الجميع وبدأت تقفز الدرجات إلى القمة التي وصلتها في دور غادة الكاميليا، بعد انسحاب روزاليوسف رغم الحملة التي شنها الصحفيون من أصدقاء روزاليوسف إلا أن الجمهور استمر في التصفيق والهتاف لسارة برنار الشرق، واستمر نجاحها من عمل إلى آخر حتى استقلت في فرقتها.. ولكن ظلت فاطمة واحدة من أعظم ممثلات المسرح في تاريخه وهي بكل تأكيد فنانة العصر وأفخر ويفخر مسرح رمسيس أنها كانت من أوائل المؤسسين له”

والجدير بنا أن نذكره أن فاطمة التقت مع يوسف وهبي ممثلًا في فيلمين الأول «الطريق المستقيم» عام ١٩٤٤ من إخراج توجو مزراحي وشارك فيه أمينة رزق وسلوى علام ومنسَّى فهمي وبشارة واكيم وعبد المجيد شكري وفردوس محمد، أما الفيلم الثاني فكان «بنات الريف» الذي قام يوسف وهبي بتمثيله وإخراجه عن إحدى المسرحيات المعروفة.