سيد درويش.. عشرة جنيهات كانت البداية

 

 

ربما تبدو للوهلة الأولى غرابة أن يكون لهذا الرجل الذي ملأ الأسماع بموسيقاه الخالدة أى دور على مسرح حياة فاطمة رشدي، ففنان الشعب سيد درويش – كما هو معروف – واحد من أبرز رواد الموسيقى العربية الذي أثروا في مسيرة الغناء العربي بفاعلية.. ويتبادر إلى الذهن سؤال عن علاقة فاطمة رشدي – ممثلة المسرح الدرامي الشهيرة – بالموسيقى؟

إن الحياة تحوي أحداثها ما قد يفوق خيال أروع المؤلفين.. لقد ساق القدر سيد درويش إلى طريق «فاطمة» لتبدأ رحلتها الطويلة.. إنه المكتشف الأول لموهبتها.. ورغم صغر حجم الدور الذي أداه هذا الرجل على مسرح حياتها، إلا أنه كان مثل الذي أشعل الفتيل، لتتوالى الانفجارات.. أو ضغط على مفتاح الإضاءة، لتبدأ حياتها في عالم الفن.

تقول: كان لقائي الأول بالشيخ سيد درويش مجرد صدفة، فقد كانت أختي «أنصاف» تعمل في أحد مسارح الإسكندرية، وكنت أذهب معها أنا وأمي إلى المسرح ولا نغادره حتى تنتهي من عملها، لنعود جميعًا إلى المنزل.. وكان عمري وقتها لا يتعدى أحد عشر عامًا.. وزار الشيخ سيد المسرح الذي كانت أختي تعمل به وغيره من مسارح الإسكندرية، للبحث عن فتيات للعمل ضمن «الكورس» في رواية «العشرة الطيبة» التي تقدم على مسرح الكازينو دى باري في القاهرة «سينما مصر حاليًا» وقد كانت هذه الرواية من تأليف الأديب الكبير محمد تيمور ووضع ألحانها الشيخ سيد والإخراج لعزيز عيد.

وكان صاحب المسرح الذي تعمل فيه أختي يسمح لي بأداء بعض أغاني الشيخ سيد الخفيفة مثل «طلعت ياما أحلى نورها» وشاهدنى الشيخ سيد وأنا أغني هذه الأغنية في «الصالة» وتبعني إلى الكواليس، وحيا والدتي وأختي أنصاف وأعرب لهما عن إعجابه الشديد بي، ثم أخذني من يدي إلى أحد البائعين خارج المسرح واشترى لي شيكولاتة وحلوى بمبلغ كبير جدًا.. ثم أخذ الشيخ سيد يحاول إقناع والدتي بضرورة سفرنا إلى القاهرة على أن تعمل أنصاف في كورس «العشرة الطيبة» وأظهر أنا على المسرح بين الفصول لأداء بعض الأغنيات والمونولوجات الخفيفة، وإذا أمكن عهد إلىّ بأداء أدوار الأطفال.. وترددت أمي كثيرًا، فهي لم تغادر الإسكندرية أبدًا ولا تعرف شيئًا عن القاهرة وليس لنا أقارب بها نقيم في ضيافتهم لحين تدبير أمورنا.. كما أن السفر إلى القاهرة يتطلب نفقات لم نكن نقدر عليها في هذه الفترة.. كما أن أجري وأجر أختي لا يكاد يكفي حاجتنا الضرورية.

وفطن الشيخ سيد إلى سبب تردد أمي، فأخرج من جيبه ورقة فئة عشرة جنيهات ودسها في يدها قائلًا: هذه حاجة بسيطة مؤقتًا وعندما تحضرا إلى مصر سوف تجدين كل شيء يسرك بإذن الله.. وأكد على ضرورة سفرنا إلى القاهرة وأعطانا عنوانه على مسرح «كشكش« بعماد الدين قائلًا: “العنوان سهل واسألوا عنه، وسوف تجدون من يدلكم عليه”.. واطمأنت أمي على جدية هذا الرجل بمجرد أن أمسكت العشرة جنيهات في يدها ووعدته بالتنفيذ بعد انتهاء عملنا في مسرح «عطا الله» وكنا نعمل فيه وقتها.

وتقول فاطمة: إننى مدينة لاثنين من أعلام الموسيقى والمسرح هما الشيخ سيد درويش الذي كان سببًا في انتقالي من الإسكندرية إلى القاهرة، والمؤلف المسرحي محمد تيمور الذي فتح لي الطريق لأتحول من مجرد مونولوجست ومطربة طقاطيق إلى ممثلة مسرح.. ولم يكن انتقال فاطمة وعائلتها من الإسكندرية إلى القاهرة بالأمر السهل لولا العشرة جنيهات التي دفعها الشيخ سيد لهذه العائلة.

وتضيف «فاطمة» رحلنا إلى القاهرة ليلًا في جنح الظلام حتى نصل في الصباح، وكانت تجربة جديدة ومثيرة بالنسبة لي، فهذه أول مرة أركب فيها القطار وظللت متيقظة طوال الطريق أراقب القرى الغارقة في الظلام، ويخيل إلىّ أنها مليئة بالأشباح ولا أعرف المصير الذي سوف نواجهه عندما تشرق الشمس علينا ونحن في مدينة كبيرة مثل القاهرة.. ووصل بنا القطار في آخر ساعات الليل، فتوجهت أمي بنا إلى أحد فنادق الحسين المتواضعة التي يقصدها أهل الريف عندما يأتون لزيارة آل البيت.. ولم أستطع النوم لحظة واحدة وكذلك أختي وأمي التي كانت تحاول عمل ميزانية لمصروفاتنا ونحن نشعر بشيء من الخوف والقلق من هذه التجربة.. وعندما بدأت تباشير الصباح في الظهور توجهنا لمقابلة الشيخ سيد في العنوان الذي أعطاه لنا.. وكانت المفاجأة لقد وجدنا المسرح مغلقًا وأُسقط في أيدينا ماذا نفعل بعد أن علمنا أن الفرقة التي كانت تمثل «العشرة الطيبة» قد رحلت.. ومرت بنا لحظات قليلة ونحن واقفون أمام المسرح المغلق كل منا يتحاشى النظر في عيون الآخرين حتى إنني تخيلت أن هذه اللحظات هي أيام طويلة لن تنتهي.. ولكن أولاد الحلال أخبرونا عن الأماكن التي يحتمل أن يوجد فيها «الشيخ سيد» وبعد تكرار السؤال في بعض هذه الأماكن علمنا أن الشيخ موجود في مسرح الريحاني لعمل بعض البروفات، وتوجهنا إلى هناك ولم نجده وتلقانا نجيب الريحاني بابتسامة طيبة وعرف قصتنا، فطمأننا، وقال ليست هناك مشاكل بإذن الله، واتفق مع والدتي على أن أعمل أنا وأختي ضمن «الكومبارس» بأجر عشرة جنيهات وفرحت أمي كثيرًا، لأن اليأس كان قد بدأ يتسرب إلى نفوسنا.. بعد فشلنا في العثور على الشيخ سيد.. واستمر عملنا مع فرقة نجيب الريحاني لمدة شهرين أو ثلاثة، ثم قرر الاستغناء عنا لصغر سننا.

وأرشدهن الريحاني إلى فرقة تحتاجهن وتعمل في بورسعيد، وشددن الرحال إلى هناك.. وكانت الصدفة، فلم تكن فرقة مسرحية، لقد كانت فرقة سيرك.. ورغم الصدمة لم يكن أمامهن إلا قبول العمل فيها، غير أن التجربة كلها باءت بالفشل، لأن الجمهور لم يحسن استقبالهن.. تحكى فاطمة ما حدث: في الليلة الأولى يوم وصولنا وقفنا في حلقة السيرك والجمهور من حولنا.. وعن يمينا وشمالنا.. ومن أمامنا وخلفنا، وشرعنا نغني فأسمعنا المتفرجين الذين في مواجهتنا، والقريبين من حولنا، ولكن الذين من خلفنا لم يسمعوا شيئًا، وصاحوا بنا: شفنا إيه من وشكم، عشان تدونا ظهركم، فلم نر بدًا من اللف والدوران في الحلقة لنرضي الجميع وبعد دورتين وجدنا أنفسنا غارقين في موجة من الضحك لم نقو على مقاومتها، وتاهت الكلمات وسقطنا على الأرض من شدة الضحك من هذه المهزلة، وضج المتفرجون بعضهم يضحك منا وبعضهم يصيح ساخطًا علينا، وحدث هرج شديد.. لم يجد معه صاحب السيرك إلا أن يرسل إلينا مصارعًا ضخمًا، ليلتقطني من الأرض بيمناه، ويلتقط أختي بيسراه.. وأسرع بنا إلى الطريق فألقانا في عرضه.

هكذا انتهت التجربة المريرة، ولم يكن أمام الأم وابنتيها إلا العودة إلى القاهرة في الليلة نفسها، وكان من الضروري البحث عن مصدر للرزق.

تقول فاطمة «لم يكن مجال العمل «كومبارس» ضيقًا في ذلك الوقت، خاصة للفتيات اللاتي يتمتعن بقدر من الجمال وحُسن الصوت، حيث إن القاهرة كانت زاخرة بالعديد من المسارح الاستعراضية والكباريهات.

ولا يمكن إنكار دور هذه المسارح وأماكن اللهو في أنها العامل الأول في تمكين سيد درويش من إبداع موسيقاه ونجاحه في تطوير الغناء.. وكان استغناء الريحاني عني سببًا في تقدمي إلى عالم الفن بشكل كبير حقق لى الكثير من الشهرة والانتشار.. فقد ألحقني يوسف عز الدين بمسرحه كمطربة أغني «الطقاطيق» وقد حققت في هذا المجال نجاحًا لا أعرف سره حتى الآن.. هل كان بسبب جمالي وحسن تقاطيع الوجه والجسد؟! أم بسبب صوتي وإبداعي في الإلقاء؟ أم أن معنى هذه الأغنيات وتلحينها كان وراء هذا النجاح؟! خاصة أن بعض هذه الأغنيات كانت تمجد المصريين وتنمي الإحساس بالانتماء للوطن، وقد لاقت صدى في نفوس الجماهير بعد حالة الوعي الوطني الذي أيقظته ثورة ١٩١٩ واستمر بعدها لفترة غير قصيرة حتى أن كل الأغاني والمنولوجات كانت دعاية لمصر وتحريضًا على كفاح الاستعمار.

وإن سيد درويش كان من طليعة مدرسة لم يسبق لها مثيل في تاريخ الموسيقى التي نسمعها، وعلى حد تعبير الأستاذ عباس أن فضل سيد درويش يكمن في أنه أدخل عنصر الحياة والبساطة في التلحين والغناء بعد أن كان هذا الفن مثقلًا لجميع إخوانه من الفنون الأخرى بأوتار من أسجاعه وتقاليده وبديعياته وجناساته التي لا صلة بينها وبين الحياة.

وسيد درويش من مواليد الإسكندرية عام ١٨٩٢وقد التحق بالكتاب وعمره خمس سنوات، وقام بقراءة القرآن في المساجد لتحقيق بعض الدخل المادي.. بينما والده يمتلك حانوتًا صغيرًا بنفس الحي.. وفي عام ١٨٩٩ توفي والده ثم غادر «سيد» الكتاب إلى مدرسة حي رأس التين، ثم التحق بالفرقة الأولى بالمعهد الديني وكان مقر فرقته مسجد أبي العباس وذلك في عام ١٩٠٥.. وبدأ اتجاهه للفن يدفعه للإنشاد في الحفلات والأفراح والموالد في حي كوم الدكة – مسقط رأسه – وكان ذلك لا يرضي والدته لانشغاله بتلك الحفلات وفشله نهائيًا بالمعهد.. ولما أثقلت الحاجة كاهله، خاصة بعد أن تزوج ولم يتجاوز عمره السابعة عشر، اضطر أن يعمل عامل بناء، وكان غناؤه مصدر سعادة العمال حتى أن المشرف على العمل اتفق معه أن يغني للعمال فقط، ولا يعمل بيده، وذات يوم سمعه الشقيقان سليم، وعطا الله وكانا من أصحاب الفرق في ذلك الوقت، وفوجئا عندما عرفا أنه هو الذي يضع الألحان لأغانيه واتفقا معه على العمل بفرقتهما في رحلتهما للشام وكان وقتها عمره لا يتعدى الثالثة والعشرين.. وردد الناس أغانيه وألحانه، لارتباطه بمشاعر الشرائح والمهن البسيطة في المجتمع ومعاناتها..

 ولمس الشيخ سلامة حجازي موهبة سيد درويش فاصطحبه معه إلى القاهرة عام ١٩١٧ وقدمه بين فصول أوبريته «أغنية الأندلس» ولم يحسن الجمهور استقباله وبكى «سيد» وهو يواجه الفشل.

سكن سيد إحدى حارات منطقة شبرا، وقد بدأ يتردد اسمه – وقتها -كلمحن صاحب اتجاه جديد في التلحين، وكانت توجد في القاهرة عدة فرق تمثيلية تقدم ألوانًا هزلية مطعمة بأغان موزونة وألحان بسيطة يونانية أو تركية، وبعضها يقدم مسرحيات كوميدية وتراجيدية.. وكانت فرقة جورج أبيض تقدم أعمالاً تراجيدية ثم تحولت إلى فرقة كوميدية بعد أن طلب جورج أبيض من سيد درويش تلحين أول أوبريت بعنوان «فيروز شاه» وبعد نجاحه ردد الناس ألحان سيد درويش والتي كانت شيئًا جديدًا على الموسيقى العربية، ولما استمع نجيب الريحاني إلى أغنيات الملحن الجديد أسرع بالتعاقد معه ليلحن له أوبريتاته.. وألف له لحن ثاني أوبريت بعنوان «ولو» ثم أصبحت كل فرق القاهرة تقدم أعمالها من ألحان سيد درويش، ولكنه غضب من استغلال أصحاب هذه الفرق له؛ فكوَّن فرقته الخاصة، والتي تحمل اسمه، وقدم فيها روايتين هما «شهرزاد» و«الباروكة» وكان يلعب بنفسه دور الفتى الأول.

وكان سيد درويش شديد الإعجاب بصوت أم كلثوم وهي تشدو بالقصائد والمدائح الدينية، فأرسل صديقه «يونس القاضي» إلى طماي الزهايرة – إحدى قرى محافظة المنصورة – وعرض على والدها الشيخ إبراهيم أن يتعهدها الشيخ سيد بألحانه، ولكن الأب رفض العرض وقتها.. مؤكدًا أنه لا يقبل أن تغني ابنته أغاني من هذا النوع.. ولكن السيدة أم كلثوم اعترفت قائلة: «إنني لم أكن أعي في ذلك الوقت قيمة وقدر سيد درويش لصغر سني، ولكني بعد رحيله بسنوات قلائل أدركت مدى عبقرية ألحانه.. الأمر الذي جعلني أحفظ الكثير منها.. بل وغنيت بعضها في عدد من الحفلات الخاصة التي كانت تجمع بين لفيف من أهل الفن والأدب”.

وتؤكد فاطمة رشدي أن سيد درويش هو أول من عرف قيمة الفن ودوره في تحقيق الآمال الوطنية في ذلك الوقت، فكانت ألحانه خاصة ما نظمه بديع خيري وبيرم التونسي بداية الصحوة في توظيف الفن لخدمة قضايا الوطن.. وتؤكد ذلك بقولها وكنت معجبة جدًا بشجاعة سيد درويش في هذا المجال، لذلك حاولت أن أقوم بدوري في ثورة ١٩١٩ برغم عدم وعيي بما يدور حولي، ولكن رغبة في تقليد هذا الفنان الكبير الذي رفض أن ينفصل عن واقع وأحلام أمته وتحمل في سبيل ذلك الكثير من المعاناة.. لكن هذه المعاناة لم تذهب هباءً بل كان من ثمارها جيل كامل من الذين تفاعلوا مع مشاكل أوطانهم ورغم قلة لقاءاتي بالشيخ سيد بعدها إلا أنني كنت أزداد إعجابًا به من خلال حكايات عزيز عيد عنه كانا يعملان معًا في أوبريت «العشرة الطيبة» ثم أوبريت «شهر زاد» و«فيروز شاه» وكان عزيز يقول لم يكن سيد درويش إنساناً عاديًا بل هو إحدى فلتات العصر يقضي الليلة كله يضع ألحان الأوبريت التي كانت أهم أسباب نجاحه لدرجة أن أصحاب المسارح الأخرى بدأوا يعانون من قلة عدد الجماهير التي تتردد على مسارحهم، ولعل هذا السبب أيضًا هو الذي دفع الريحاني إلى تقليل حجم المصروفات الخاصة بالأوبريت ثم إغلاقه الكامل للمسرح وكان هو «الممول» خوفًا من انخفاض شعبية كشكش بيه «الفرقة التي تبيض له ذهبًا».. ولم يكن سيد درويش بعيدًا عن فهم طبيعة موسيقى المسرح.. بل كان يعرف جيدًا كيف يوظف الموسيقى لخدمة الجو النفسي الذي ينطلق منه الموقف بعيدًا عن الطريق الذي لا يتناسب مع طبيعة الأداء المسرحي.

كان سيد درويش يتمنى السفر إلى إيطاليا لدراسة الموسيقى.. لكن القدر لم يسعفه فرحل في ١٩٢٣ ولكنني – كما تقول فاطمة – قمت ببطولة «مصرع كليوباترا» والتي كان قد وضع ألحان الفصل الأول منها وأكمل محمد عبد الوهاب بقية الألحان.. لكنني أحمد الله أن كان لي شرف أن ألتقي هذا العظيم الذي كان أول من اكتشفني وكان سببًا في حضوري إلى القاهرة لأصبح واحدة من أكبر ممثلات المسرح في مصر، ثم تعلمت منه معنى أن الفن لابد أن يعبِّر عن قضايا وأحلام الجماهير. بل لا يجب إنكار أن سيد درويش هو واحد ممن خلقوا الوعي القومي وأجج بألحانه نيران الغضب في قلوب المصريين والعرب، وحثهم على مقاومة الاستعمار.