كان النجاح الذي حققته فرقة «رمسيس» نقطة تحول كبيرة في حياة فاطمة رشدي وعزيز عيد. فهي للمرة الأولى ذاقت طعم النجاح وعرف اسمها طريقه إلى صفحات الجرائد.. وشعر عزيز بأنه بدأ أولى خطواته صوب حلمه الكبير.. وبدأت أحواله المادية في الاستقرار نسبيًا من خلال ما يتقاضاه من أجر، وإن كان لا يتناسب مطلقًا مع المجهود الذي يبذله فبدأت العلاقة بينهما تتعمق بشكل يخرج بها عن نطاق الأستاذ والتلميذة، وكان نجاح أعمالهما التالية موطدًا للعلاقة الجديدة..
تقول «سارة برنار الشرق»: كانت سعادتي بالوقوف على خشبة المسرح تفوق الوصف.. فأنا أمثَّل أمام نجوم الصف الأول في مصر ويشاهدني عدد كبير من المثقفين ووجهاء المجتمع في ذلك الوقت، بعد أن كنت أؤدي المونولوجات أمام السكارى في ملاهي روض الفرج.. لقد بدأت طموحاتي تتحقق وإن كانت أحلامي أصبحت بلا حدود.. كما كان عزيز يشعر بسعادة كبيرة واستقرار لم يعرفه من قبل.. وقد كان هذا النجاح دافعًا للمزيد من التقارب بيننا وأصبح كل منا يشعر أن ما يربطه بالآخر شيء آخر بخلاف الفن، هذا الشيء يشد كلينا للآخر وكأنه رباط خفي.. كنت أقاسمه نجاحه وأحلامه وكان يقاسمني سعادتي وطموحي.. لقد كان هذا الشيء هو الحب لكنه ظل يرفض أن يتحدث عنه، ولكنني عرفته جيدًا، لأنني شعرت به، لم يعد بوسعي أن أتحمل غيابه يومًا واحدًا، رغم تبرم أمي الدائم من الأوقات الطويلة التي أقضيها بصحبته.. هذا التبرم الذي كان يصل إلى حد الثورة في كثير من الأحيان.. وكنت أحتج دائمًا بأنه أستاذي وفنان كبير أتعلم منه، إلا أنها لم تكن مقتنعة بذلك.. كذلك أنا لم أكن أصدق نفسي فقد كنت أحبه.
يقول الأديب إبراهيم المصري: “متى أحبت المرأة ترددت طويلًا في مصارحة الرجل بحبها يقينًا منها أن الرجل متى تأكد أنه محبوب زايلته في غمرة النصر وروح الكفاح فضعف حبه على الفور، فالمرأة تخفي وتصمت لتدع الرجل يتكلم ويكافح ويتألم حتى تطمئن إلى صدق عاطفتها.. ومع ذلك فالمرأة لا يمكن أن تطمئن كل الاطمئنان إلى الرجل، لأنها تخاف من فتنة محاسنها على مستقبل حبها.. وتظل تعتقد أن الرجل لا ينشد من كفاحه إلا التمتع بها.. فالمرأة تطمع في أن يحبها الرجل لشيء أغلى وأبقى من الجسد، وهو الحب الروحي».
والمرأة تحب الرجل الذي يعرف كيف يسيطر على مشاعره وشهواته، لأن هذه السيطرة الشامخة تحميه من فتنة إغرائها.. وسحر محاسنها، فتدفعها بالرغم منها إلى السعي إليه والتشبث به.. فهي لا تنشده لذة الحواس.. بل تنشده لذة الطاعة والخضوع.
الزواج الأول
ولم يطل صبر فاطمة طويلًا.. ففي أحد الأيام فوجئت بعزيز يطلبها للزواج وتعترف بأنها فرحت فرحًا شديدًا، لأنها أيقنت أنه يحبها ولكنها سألته كيف نتزوج وهي مسلمة وهو مسيحي وتشرح هذه اللحظة بقولها كانت الفرحة الكبيرة.. وكذلك المفاجأة حين أخبرني أنه أسلم منذ ثلاثة شهور.. وأنه آن الأوان لهذا الحب الصامت أن يُعلن عن وجوده.. ولم يكن بوسعي سوى الموافقة على طلب هذا الرجل الذي أدين له بالفضل وأشعر تجاهه بكل الحب.. لقد كان عزيز هو مصدر السعادة الوحيد في حياتي في هذه الفترة.. والمرأة بطبيعتها تحب الرجل المتسامح الطيب الذكي الذي يذكرها بأنها مرغوبة دائمًا.
وتزوجت التلميذة من أستاذها العجوز.. لكن كيف كانت الحياة؟
تقول: بعد الزواج اكتشفت فيه جوانب أخرى لم أكن أعرفها من قبل، فهو شديد الحساسية بدرجة لا يمكن تصورها.. ودود جدًا لدرجة تشعر معه أن العالم بأسره ملك يديك.. رجل يستطيع أن يتغلب على كل المشاكل وكأنها غير موجودة أصلاً.. يرضى بالفقر ولا يشكو منه أبدًا.. عنده قدرة فائقة على تحمل الجوع وهو سعيد.. يقنع بأي شيء مهما كان بسيطًا، لكنه يرفض تمامًا أن يخرج عملًا واحدًا وهو غير راض عنه مهما كانت المكاسب التي سوف تعود عليه.. وأحببت عزيز حبًا لم أكن أدركه في نفسي وأصبحت على استعداد تام لمشاركته أحلامه وآلامه.. حتى الموت إلى جانبه.. ولم يكن هذا الزواج ليمر بشكل عادي مثل كل الزيجات في الوسط الفني فقد تعرضت فاطمة لموجة من الانتقادات والاتهامات بأنها استغلت مراهقة هذا الشيخ العجوز الفنان وأوقعت به طلبًا لمساندته لها على خشبة المسرح والساحة الفنية وهو الأستاذ الكبير.. كما تعرضت لموجة من الهجوم من بعض رجال الدين المسيحي.
ويبدو أن بعض هذه الاتهامات كانت صحيحة؛ فقد أعلنت فاطمة فيما بعد عقب انفصالها عن عزيز، أنها لم تكن لتحب هذا الرجل العجوز، ولكنها كانت تسعى لاستغلال اسمه الكبير ومكانته في الصعود إلى عالم النجوم والشهرة.
تقول: لقد كانت السعادة التي كنت أحياها مع عزيز سواء في المنزل أو على خشبة المسرح لا تجعلنى أهتم بكل ما يقال.. بل كنت أراها شيئًا تافهًا بالنسبة لما يتحمله عزيز من صعوبات وتحديات في سبيل أحلامه التي اكتشفت أنها لا تنتهي، فهو يسعى دائمًا لتحقيق المزيد من النجاح.
وكنت على استعداد كامل لتحمل أى شيء من أجل أن أظل أشاركه حلمه ونجاحه، خاصة بعد أن أصبحت «البريمادونا» في فرقة رمسيس بعد انسحاب الفنانة الكبيرة روزاليوسف.
وبدأ نجم فاطمة في التوهج ونجومية عزيز تخبو وبدأ المشوار الصعب.
تقول «البطلة»: كان عزيز ينسى تمامًا صحته أثناء العمل ولا يشعر بالتعب إلا بعد أن ينتهي العمل، فكنت له بمثابة العصا التي يتوكأ عليها بعد يوم طويل من العمل الشاق، وشعرت أن هذا واجبي نحوه فهو زوجي الذي أعتمد عليه وأستفيد من تجاربه وخبراته، ولقد حققت هذه الفترة نجاحًا لم أكن لأبلغه بدون وجوده إلى جواري.. ولقد كان هذا النجاح المستمر هو الدعامة التي تستند عليها علاقتنا بجانب طفلتنا عزيزة التي جاءت ونحن في قمة نجاحنا الفني واستقرارنا العاطفي.
استطاع عزيز أن يحقق حلمه بأن يصل بفرقة رمسيس إلى مستوى الفرق المسرحية العالمية التي كانت تزور مصر من آن لآخر والتي كان عزيز يُقبل على عروضها بفضل إجادته للإنجليزية والفرنسية، وأصبحت فرقة رمسيس بالفعل قادرة على منافسة أعظم الفرق الأوروبية بل وتفوقت عليها في عدد من الأعمال مثل «غادة الكاميليا» «مونمارتر» «المسترفور» «بلانشت» «الذبائح» ولم يتأت ذلك بسهولة بل إن المجهود الذي بذله عزيز من أجل الوصول إلى هذا المستوى كان يرهق صحته.. فهو يصنع كل شيء على خشبة المسرح وفي المنزل لا يتركها أبدًا فهو دائم التوجيه وإبداء النصائح والملاحظات على أداء فاطمة لقد نجح بالفعل أن يجعل من فرقة رمسيس جامعة تقدم الفن الصادق والثقافة الحقيقية.
ولكن تشاء الأقدار أن تترك فاطمة وعزيز فرقة رمسيس، وهي في أوج نجاحها بعد أن ساءت حالته بسبب الشكوك والدسائس بين عدد من بطلات الفرقة بدافع الغيرة من النجاح الكبير الذي حققته الزوجة وزوجها العجوز.
تقول: لقد ضايق نجاحي ونجاح عزيز عددًا من ممثلات الفرقة، لدرجة أن البعض تعمد التشويش علىّ أثناء عرض إحدى المسرحيات وتطوَّر الأمر إلى مشاجرة كلامية على المسرح اضطرت عزيز إلى إنزال الستار ووقف العرض، ثم رحيلنا سويًا من فرقة «رمسيس» وبداية مرحلة جديدة من حياتنا الفنية كان لها أثر كبير على علاقتنا كزوج وزوجة.
وبالطبع كان لخروج الزوجين من فرقة «رمسيس» أثر كبير في نفس كل منهما.. فالزوج هو صانع مجد هذه الفرقة التي كانت الحلم والحياة بالنسبة له.. كذلك الزوجة التي حققت نجوميتها واسمها كأحسن ممثلة مسرحية في مصر.. لقد كان انكسارًا من النوع المُر.. ولكن عزيز العنيد ما كان ليستسلم أبدًا وهو الذي لا يعرف كيف يعيش بعيدًا عن المسرح؛ فاقترح على زوجته إنشاء فرقة مسرحية جديدة تحمل اسمها ولم يكن من الصعب عليه وهو الخبير في مثل هذه الأمور تكوين هذه الفرقة، واختار لها مسرحًا مجاورًا لفرقة «رمسيس».. رغم الإمكانيات المحدودة والتي كانت هي كل مدخراتها من سنوات العمل مع فرقة رمسيس.. وانضم إلى الفرقة الجديدة عدد كبير من تلامذة عزيز مثل: حسين رياض وعباس فارس وزكي رستم ومحمود المليجي واستيفان روستي.. وغيرهم.
وتذكر فاطمة أن عزيز كان رافضًا للتخلي عن أحلامه، وكذلك كنت أرفض أن أتخلى عن المكانة التي وصلت إليها فلم يكن أمامنا اختيار آخر سوى النجاح الذي تحقق بالفعل من أول عمل قدمته فرقتي الجديدة هذه الفرقة التي ساهمت في دفع الحركة المسرحية خطوات واسعة، بسبب المنافسة الشديدة التي اندلعت بينها وبين فرقة «رمسيس» وقدمت هذه الفرقة الوليدة عددًا كبيرًا من الأعمال التي لاقت نجاحًا كبيرًا مثل «مصرع كليوباترا»، «سميراميس»، «مجنون ليلى»، «أحمس الأول»، «جان دارك»، «هاملت» وغيرها.
ما حققته من نجاح مع عزيز من خلال فرقتي لا يقل بأي حال من الأحوال عن النجاح الذي حققناه مع فرقة «رمسيس» إن لم يكن يزيد وقد أطلق علىَّ الجمهور من خلال الأعمال التي قدمتها خلال هذه الفترة لقب «سارة برنار الشرق».. ويذكر أنه كانت الفنانة روزاليوسف هي أول من أطلق علىَّ لقب «سارة برنار» عندما قدمت دور غادة الكاميليا وهذه الفترة تعتبر من أخصب الفترات التي مر بها المسرح المصري، فقد وصلت المنافسة مع فرقة رمسيس إلى حد أن نقدم رواية واحدة في نفس الوقت وكان إخلاص عزيز وتفانيه في العمل يحسم المنافسة لصالح فرقتنا دائمًا.
ولكن هذا النجاح الجماهيري لم يكن يعبر عن الواقع المادي الذي كان يتدهور بشكل مستمر بسبب التكاليف الباهظة التي كان ينفقها عزيز على الديكورات والتجهيزات الفنية والتي رفض أن يتخلى عنها رغم الأزمات المادية المستمرة.
وتعلق «سارة برنار الشرق» على الأزمات التي عانت منها فرقة عزيز عيد المسرحية: “لقد كان النجاح يحملنا مصاريف باهظة، وأدت المنافسة إلى ارتفاع كبير في أجور الممثلين واستمرت حالة النزيف المادي حتى اضطررنا إلى بيع جزء من أثاث منزلنا للإنفاق على إحدى المسرحيات.. وبدأت الأزمة المالية تنعكس على علاقتي بعزيز الذي كان ينسى العالم من حوله والظروف المادية طالما يفكر في شيء جديد يدور في خياله وكان هذا يضايقني جدًا رغم إعجابي الشديد بما يبدعه لكن التكاليف الكبيرة التي كنا نتحملها بسبب ذلك، وإصراره على تنفيذ ما يراه واجبا كانت تثير العديد من الخلافات بيننا، وأذكر أنه خلال هذه الأزمة المالية الطاحنة تم الاتفاق على تقديم رواية «كليوباترا» على مسرح الأوبرا.. وحمدت الله أن المسرح مجهز بالديكورات والمناظر التي تم استيرادها من أوروبا.. لكن عزيز لم يكتف بذلك اصطحب مصمم الديكور العالمي «لمواردي» إلى المتحف، حيث أقنعه بضرورة تصميم أعمدة مصرية قديمة، وقد تسبب إصراره على عمل هذه الديكورات في إنفاق آلاف الجنيهات التي زادت من حد الأزمة المالية.
لقد كان عزيز فنانًا من طراز خاص جدًا.. الفن عشقه الأول، لم يلتفت طوال تاريخه إلى أي مكاسب مادية.. كان إنسانًا شديد الإحساس بالآخرين يملك مشاعر وطنية قادرة على التوحد مع كل أبناء الوطن العربي.
وفي محاولة لإنعاش الأحوال المادية للفرقة قررنا -كما تقول فاطمة – السفر إلى بعض الأقطار العربية وتقديم عدد من العروض، ورغم النجاح الجماهيري الكبير لم يحدث الانتعاش المالي الذي كنا نتوقعه، وأثناء هذه الرحلة حدث أن قدمنا عرضًا رائعًا في بغداد وبلغ الإيراد أكثر من ألف جنيه، ورأى عزيز أن نتبرع بهذا المبلغ لضحايا الفيضانات التي اجتاحت بعض مدن العراق وقتها، ولم أستطع أمام إنسانيته الشديدة وإحساسه بمعاناة إخوانه من أبناء الشعب العراقي أن أُبدي أي اعتراض رغم الأزمة المالية التي نمر بها.
ولم تكن الأزمة المالية التي تمر بها فرقة «عزيز عيد» و«فاطمة رشدي» خاصة بهما فقط.. بل كانت هناك أزمة عامة أصابت معظم الفرق المسرحية في مصر بسبب ظهور فن السينما وتحول عدد كبير من قيادات المسرح وجمهوره إلى هذا الفن الجديد المبهر.
كانت خلافات فاطمة مع عزيز مستمرة، فهو يرفض أن يتنازل عن تقديم الأعمال المكلفة جدًا.. كما يرفض تقديم أعمال اللغة العامية التي لجأت إليها معظم الفرق المسرحية.. وكان عزيز عنيدًا جدًا حتى إن نجيب الريحاني صديقه كان يتعجب من إصراره على تقديم هذا الفن الذي يؤدي إلى الخسارة.. ويقول له تنازل بعض الشىء من أجل زوجتك وابنتك.. لكن عزيز لا يعرف معنى التنازلات.
وحدث في هذه الفترة أن ظهر في حياة فاطمة مليونير يهودي أبدى إعجابه الشديد بها واستعداده لفعل أى شيء من أجلها.. وقد استطاعت بفضل عطاياه أن تقف بالفرقة مرة أخرى وتحقق نجاحًا كبيرًا أعادها إلى سابق مجدها.. في الوقت الذي كانت معظم الفرق المسرحية تلفظ أنفاسها الأخيرة.. تقول فاطمة: أثار هذا النجاح الغيرة والحقد في بعض النفوس المريضة الذين ضايقهم وقوف المليونير وراءي بملايينه، فبدأوا في ترديد بعض الشائعات حول علاقته بي وصدَّق عزيز هذه الإشاعات التي أكدتها الخسائر الكبيرة التي كان يتحملها المليونير.. فطلقني عزيز ولكن استمرت علاقتنا في مجال الفن الذي أصبح هو الحب الذي يجمعنا على خشبة المسرح فقط.. وصدق القائل: إن المرأة تخاف من حب الرجل الذكي.. الفنان لأنه متقلب في حبه، فهو يحب مبكرًا.. ويترك المرأة بسهولة.. فكما أن الفنان في كتاباته وإبداعاته متقلب فهو متقلب في حبه أيضا.
يقول شكسبير: «لا تقف أطماع المرأة عند حد ولا تقنع أبدًا.. فلو أنها ملكت خزائن الأرض، لطمعت في خزائن السماء».
لم يكن من المعقول أن تستمر فرقة «فاطمة رشدي» في ظل الأزمة التي أغلقت أبواب كل الفرق المسرحية بما فيها فرقة رمسيس.. ففي عام ١٩٣٤ كانت الفرقة تقدم عرضًا مسرحيًا على مسرح «الأنفوشي» بالإسكندرية وتفاقمت الخلافات المادية بين بطلة الفرقة فاطمة والمخرج عزيز وانتهى الأمر بحل الفرقة واتفقا على اقتسام المناظر والملابس والديكورات الخاصة بالفرقة مناصفة.. وتم ذلك بحضور عدد من أصدقائهما الذين كانوا لا يستطيعون مقاومة دموعهم، حزنًا على هذه النهاية لواحدة من أعظم الفرق المسرحية في مصر والوطن العربي.
وأرادت فاطمة بعد انفصالها عن عزيز أن تثبت له أن النفقات الهائلة التي كان يتكلفها الديكور والمناظر الفخمة كانت هي السبب الحقيقي للخسارة المستمرة؛ فقامت بتكوين فرقة جديدة ضمت عددًا من الممثلين غير البارزين في ذلك الوقت مثل السيد بدير، عبد المنعم مدبولى، محسن سرحان، نور الدمرداش، ماري منيب.. ولكن موجة الكساد كانت وراء حل هذه الفرقة التي لم تدم طويلًا.
وقد رأت الحكومة المصرية – في ذلك الوقت – أن الحل الوحيد لإنقاذ المسرح بعد انهيار كل الفرق المسرحية وخاصة فرقة «فاطمة رشدي» و”رمسيس” هو إنشاء فرقة حكومية تضم كل الممثلين وتدفع لهم رواتب ثابتة.. وعن هذه الفرقة تقول فاطمة رشدي: جاءني عزيز وقال لى: «اذكري يا فاطمة كفاح السنين الطويلة من أجل خلق المسرح المصري وجهادنا في فرقة رمسيس ثم في فرقتنا.. إن النهضة الفنية التي استطعنا تحقيقها بدأت تؤتي ثمارها وهذا ما جعل الدولة تشعر بأهمية الفن فأسرعت لإنقاذه فلا تتخلي عن المسرح ولا عن تاريخنا الطويل.. واذكري ما تحملناه سويًا من جوع وفقر ولا تضحي بكل هذا» تأثرت بشدة بكلام عزيز واشتركت في الفرقة الحكومية الجديدة والتي كان مديرها الشاعر خليل مطران ويتكون مجلس إدارتها من عزيز ويوسف وهبي وزكي طليمات.. ولكنني لم أستطع الاستمرار في ظل العمل الحكومي الذي يحدّ من قدرة الفنان على الإبداع الحقيقي في جو يسيطر عليه الروتين والدسائس.. فتركت الفرقة وذهبت إلى أوروبا وبعد عودتي قابلت عزيز وأكد لي أنه هو الآخر لا يستطيع الاستمرار في هذا الجو الخانق والممتلئ بالأحقاد والغيرة والكراهية.. وكان عزيز في ذلك الوقت قد قام بإخراج رائعة ديستوفسكي «الجريمة والعقاب» وقد أبدع فيها بشكل غير مسبوق.. وصمم المسرح الدائري وجعله يتحرك على عجلات وقد تكلف ذلك أموالًا طائلة اتخذها البعض ذريعة لانتقاده وتدبير المؤامرات له بعد النجاح الكبير الذي حققته المسرحية وانتهى الأمر بأن ترك عزيز العمل بالفرقة القومية.
وتذكر سارة برنار الشرق أنه عقب خروج عزيز من الفرقة القومية ساءت حالته النفسية والصحية كثيرًا، فكيف يمكن لمثله أن يحيا بعيدًا عن عالمه الفني؟ فعرضت عليه تكوين فرقة جديدة صغيرة تقدم أعمالها في الإسكندرية في أحد الملاهي، وبالطبع وافق بسرعة.. وكنا نقدم مسرحية كوميدية من فصل واحد وبنهاية الموسم سافر عزيز إلى فلسطين لتسجيل عدد من المسلسلات الإذاعية لإذاعة الشرق الأدنى.
وعاد عزيز من فلسطين.. وقد ادخر مبلغ ٢٠٠ جنيهًا والتقى بفاطمة وأقنعها بضرورة البداية من جديد، وبالفعل استطاعا تكوين فرقة صغيرة كانت تقدم أعمالها على مسرح الليدو بالجيزة وقدمت عددًا من الأعمال الناجحة مثل «ذات الشعور الذهب» و«المريض بالوهم» و«٦٧٧ زيتون» ولكن غارات الحرب وكساد أنشطة الحياة كان وراء الفشل المادي وضياع كل ما أدخره عزيز خلال عمله بإذاعة فلسطين.. وكان عزيز بدأ يدخل في دائرة الشيخوخة بكل عجزها، ولم يكن في إمكانه أن يتحمل ما كان يتحمله أيام زمان.. حتى أنني – والكلام على لسان فاطمة – كنت أقترض بضعة قروش أعطيها له حتى يستطيع أن يعود إلى المنزل إشفاقًا عليه من مشقة السير.. ورغم ذلك كان عناده لا نهاية له، فكان يضحك في سعادة، وكأنه يريد أن يغيظني قائلًا: «أنا لا يهمني المال.. المهم أن أخلص للفن”..
أما أنا فكنت أسير على قدميَّ مع بعض الزملاء من الجيزة حتى ميدان قصر النيل وغالبًا ما كان الزملاء يتركونني في منتصف الطريق لأسير وحدي في أوقات متأخرة من الليل والظلام يخيِّم على كل شيء.
ورغم أن عزيز كان يعاني من الحاجة الشديدة للمال وتمكن المرض منه إلا أنه رفض أن يقدم عملًا من فصل واحد في صالة الراقصة «ببا عز الدين» إلا بعد أن يرقى بمستوى فرقتها ويقدم برنامجًا استعراضيًا ضخمًا.. وهذا ما رفضته «ببا” خوفًا من التكاليف الباهظة..
في الوقت نفسه الذي كانت تعاني فيه فاطمة من الفقر لدرجة أنها وافقت على العمل في فيلم «العامل» من إخراج حسين صدقي دون أن تعرف دورها طمعًا في «العربون» لتحقيق رغبة أمها المريضة في شراء مقبرة.. حتى أنها بدأت تفكر في العودة مرة ثانية للفرقة القومية، بسبب حاجتها الشديدة للمال.
وكان أحد المسئولين عن هذه الفرقة قد طلب ذلك منها أكثر من مرة، لكنها كانت ترفض بشدة قائلة إن المسرح مثل الإنسان الجاحد يأخذ الكثير وينكر علينا أبسط حقوقنا.. وها هو عزيز يرقد مريضًا محتاجًا بعد أن أفنى عمره من أجل المسرح.
حقًا: المرأة تحب الرجل القوى المتسامح الطيب الذكي الذي يذكرها دائما أنها مرغوبة.. تقول فاطمة: كنت أحرص على زيارة عزيز أثناء مرضه، وكان دائما يقول لي: «لا داعي لأن نكره المسرح حبنا الكبير.. نعم لقد ضحينا من أجله بالكثير وهناك آخرون شاركونا هذا العشق.. أعرف أنهم رجال ولكن أنت أول امرأة كوَّنت فرقة مسرحية في الشرق.. لقد ضحيت بشبابك وحياتك”.. وكنت أجيبه مداعبة: “أنت السبب يا عزيز شجعتني وساعدتني وجعلتني أحلم معك حلمًا كبيرًا.. يا ليتنا اكتفينا بفرقة صغيرة وروايات صغيرة.. لو كنا فعلنا ذلك ما كنا وصلنا لهذه الحالة التي وصلنا إليها.. ودمعت عينا عزيز وقال: “صدقت يا فاطمة.. لقد كنت لا أعرف شيئًا سوى الفن.. لقد كنا ننفخ في «قربة مقطوعة».. لكنه قدرنا الذي اختارنا ولا يجب أن نندم للحظة واحدة ولا نطلب من أحد أن يفهمنا أو يرتفع لمستوى حلمنا.. فنحن نصنع ما يسعدنا نحن”.
لقد كان عزيز يودع الحياة بنفس القوة والتحدي اللذين عاش بهما.. وفي اليوم التالي احضرت ابنتنا «عزيزة» والتي كنت أودعتها مدرسة الفرنسيسكان بالقسم الداخلي بعيدًا عن الحياة الصعبة التي أعيشها أنا وعزيز.. وعندما رآها قبَّلها في حنان بالغ وربت على يدي بيده الواهنة، وعيناه تتحدثان حديثًا أعرفه جيدًا فمازال هذا البريق القديم يلتمع، ومازال هذا العشق يبرق، ولكنه الموت، مات عزيز وانطفأ بريق عينيه لأول مرة.. وقد مزقني نبأ وفاته.. وكنت ساعتها أعمل في الفيلم الذي اشتريت من عربونه المقبرة التي دفنت فيها أمي وأسرعت لأكون مع عزيز، ونحن نواريه التراب في نفس المقبرة.
ورحل عزيز رائد المسرح، واحتشد في جنازته كل زملائه وتلاميذه وعشاق الفن.. وأسدل الستار على حياة الفتى الأول في حياة فاطمة التي وجدت نفسها واقفة على مفترق الطرق.. تتساءل ماذا تفعل؟
لكنها تجيب: لم تكن الحياة سهلة بعد رحيل عزيز الذي علَّمني كل شيء: الحب والصمود والسمو بجانب الرضا عن الذات الذي هو أهم ما يحتاج إليه الإنسان كي يحيا، وأن العشق هو أن نفنى من أجل من نعشق حتى يستمر هو في الحياة وليتنا نملك به الخلود.
ويرى المؤرخون في مجال الفن أن رحيل عزيز هو رحيل جزء من مجد وشهرة فاطمة رشدي أو كان بمثابة انقضاء الجزء الأكبر من الرواية وإن كانت هي نفسها لم تقل كلمة قاطعة عنه، فعندما تزوجته قالت إنها أحبته، وعندما انفصلا أعلنت أنها اتخذته وسيلة للصعود، وفي أواخر حياتها أكدت أنها لم تحب غيره في حياتها.
لكن الأحداث أكدت أن فاطمة فقدت بريقها برحيل عزيز، وبدأت رحلة الهبوط لتكتمل دراما حياتها بدون الفتى الأول الذي كان سببًا في إقبال الجماهير عليها.. لقد رحل مخرج حياة فاطمة وصانع نجوميتها، لتكتمل تراجيديا حياتها كما تشاء الظروف، وكأنها مجموعة من المواقف الارتجالية لا تخضع لمنطق أو رابط سوى «الغرابة» التي أصبحت هي السمة الرئيسية لكل تفاصيل حياتها بعد ذلك.. لقد رحل عزيز تاركًا للزمن مقعد الإخراج.