د.خالد محمد غازي
” الثورة قوية كالفولاذ ؛ حمراء كالجمر ؛ باقية كالسنديان عميقة كحبنا الوحشي للوطن” .. هكذا قال جيفارا .. وقال أيضا ” كنت أتصور أن الحزن يمكن أن يكون صديقا لكنني لم أكن اتصور أن الحزن يمكن أن يكون وطنا نسكنه ونتكلم لغته ونحمل جنسيته ” .
(1)
يتحدث الناس في عالمنا العربي في مجالسهم عن الفارق بين الثورات والانقلابات ، تطبيقاً لما حدث في مصر وتونس ويجري حالياً في البحرين وليبيا، وعند تفصيل الفارق في المعني يأتي غالباً في اختصار مخل بالمعني ، والمضمون ؛ والنتيجة ؛ والشكل ؛ والجوهر .
فالثورة – كمصطلح سياسي – كما جاء في الموسوعات العالمية؛ هي: الخروج علي الوضع الراهن سواء إلي وضع أفضل أو أسوأ، وللثورة في المعاجم تعريفان متشابكان؛ الأول: هو وضع مع انطلاق الشرارة الأولي للثورة، وهو قيام الشعب بقيادة نخب لتغيير نظام الحكم بالقوة، والآخر الذي طوره أتباع ” ماركس” بتعريفهم للقائمين بالثورة بطبقة قيادات العمال أي: “البروليتاريا”.. أما بالفهم الراهن الحديث فهي تعني التغيير الذي يحدثه الشعب من خلال الاستعانة ببعض الأدوات والوسائل والطرق التي قد يكون منها الجيش، أو شخصيات تاريخية ؛ أو أحزاب أو قوي معارضة سياسية ؛ لتحقيق طموحاته وتنفيذ برنامجها الثوري، وقد يطلق عليها في الشارع الشعبي السياسي لفظ “انتفاضة” ضد الحكم الظالم. وقد تكون الثورة شعبية؛ مثلما حدث في الثورة الفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر، وثورات أوروبا الشرقية خلال القرن الماضي، وثورة أوكرانيا المعروفة بالثورة البرتقالية، أو تكون عسكرية وهي التي تسمي “انقلابا” مثل الانقلابات التي سادت أمريكا اللاتينية في حقبتي الخمسينيات و الستينيات من القرن العشرين، أو حركة مقاومة ضد مستعمر مثل الثورة الجزائرية خلال القرن ذاته.
(2)
إن جوهر الاختلاف في المعني والمضمون بين الثورة والانقلاب لا يكمن في المعني وحده أو من يقوم به فقط، وإنما في الهدف ايضاً، فقد تكون كذلك في الطريقة؛ حيث إن الانقلاب قد يكون منظمًا أكثر من الثورة ؛ التي قد تبدأ بحركة عشوائية بسيطة ثم يرتفع سقف مطالبها إلي أن تصبح ثورة، كما هي الحال في مصر، فقد انطلقت الشرارة الأولي مطالبة بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية الغائبة، إلي أن وصلت إلي تنحي الرئيس حسني مبارك عن الحكم الذي ظل فيه طوال ثلاثين عامًا.
فجوهر الفارق بينهما هو أن الثورة تقوم من أجل المصلحة العامة التي يتمركز حولها الشعب بكل طبقاته وأطيافه السياسية والاجتماعية؛ حيث تهدف إلي تحريرهم من عبودية وثن الرئيس القائم أو ظلم النظام لهم، وغالباً ما تكون بصورة غير مرتبة وتجمعاتها شعبية وعامة ومشاركة جماعية تقوم في وقتها طالبة الحرية بكل صورها في المعيشة ؛ في التنقل والتملك ؛ وممارسة الحريات الشخصية والعامة ، وكذلك التعبير عن الرأي وان كان معارضا ، فضلاً عن أن الأفراد الذين يقومون بها عزل وغير مدربين أو مؤهلين للقيام بها أو حتي لديهم خطة.. أما الانقلاب، فهو عمل منظم يقوم به فتية من العسكر من أجل حكم قوم ما، أو دولة بعينها يهدف إلي حكم الشعب، أي يقودها الجيش للحكم وتغيير النظام القائم، وتخوله له قوته كمؤسسة قوية في الدولة أن يقوم بذلك القطاع العسكري.
فثمة فروق يمكن اختصارها في بعض النقاط التي أولها أن من يقوم بالثورة هم الشعب، أما الانقلاب من الجيش أو العسكر، والهدف للثورة الحرية، أما الثاني فهو الحكم، والأولي يقودها الشعب فيتبعه الجيش، والانقلاب يقوده الجيش فيتبعه الشعب، فالثورة ؛ اذن ؛ تغيير لقواعد بناء السلطة لتكون الكلمة الأخيرة فيها للشعب، أما الانقلاب فهو تغيير لأشخاص الحكام مع بقاء القوة معيارا للحكم، فالثوره تكون من الشعب، والانقلاب من الجيش.
(3)
وأكثر الأمثلة دلالة علي ذلك، هو الفارق بين ثورتين مصريتين؛ الأولي: ثورة 1952، والتي قادها تنظيم الضباط الأحرار في الجيش المصري ضد الملك فاروق لتغيير نظام الحكم الذي بات مغضوباً عليه وقتها وإلغاء الملكية ؛ فقادوا الانقلاب خلال الجيش الذي يعبر عن القوة التي تمركزت في يدهم ؛ واستطاعوا السيطرة علي مقاره ومراكزه الحساسة؛ لذا انتصروا بسهولة وفق خطة محكمة.. أما أحداث يناير في مصر في الخامس والعشرين وقبلها أحداث تونس. فكلاهما ثورة، حيث إن الشعب هو القائد للتغيير من أجل تغيير شخوص الحكم الذين طغوا وظلموا الشعب ، الذي أراد تحقيق الحرية والعدالة الاجتماعية حتي يطمأن أفراد الشعب بما سيأتي به الغد، فلم يلعب السلاح دوراً فيها ؛ بل انطلقت من عالم افتراضي (الفيس بوك – توتيتر- المدونات ) واجتمع الشعب وقادوا المسيرة للتطهير والتحرير والقضاء علي النظام السياسي الظالم .
(4)
كما أن الثورات تؤثر في الهوية أكثر من الانقلاب ؛ فهي لاشك إضافة للهوية كنوع من الجدية ورفض الاستبداد، بل وستؤثر به في محيطها الإقليمي وقد تقترب من الغلاف الدولي للدول كافة.. فهناك الكثير من الدول التي سبقت إلي التحرر من الاستعمار متأثرةً بفعل ثورات سلفت، فكما أنها توحد الجميع علي اختلاف طبقاتهم وثقافاتهم ؛ فتجمع بين الغني والفقير والمتوسط والمعدوم، إذ إنها ذات روح شعبية، كما تعمل علي كسر الحاجز بين المثقف ورجل الشارع العادي فإن تصنيف المثقف باعتباره شيئا مختلفا عن رجل الشارع، بمعني تغليب مصلحة المجموع علي المصالح الشخصية، فالمثقف والرجل العادي كانوا إلي جانب بعضهما خلال أحداث الثورات، سواء في مصر أو تونس أو ليبيا أو غيرها من البلدان التي تعيش حالة من الاضطراب الوقتي خلال الفترة الراهنة فالمثقف يصبح مثله مثل غيره في التأثر والتأثير .
فالشعوب لا تثور إلا من أجل القضاء علي الظلم وتحقيق العدالة والطموح السياسي والاحتياجات اللازمة إليها، والتي يكون في غالبها الحرية وتوفير معيشية آدمية والتخلص من الأحكام الديكتاتورية والعنف والتطرف السياسي والتخبط الاقتصادي، لاسيما أن الدول العربية علي وجه الخصوص كانت تعاني مما تعرف علية ب ” الدولة البوليسية ” التي ظلت تحكمها كمنذ آماد طويلة، ولم تستطع أن تري الحرية في عهدها أو انها قادرة علي العيش بسلام تحت تأثير الطوارئ والأحكام الشخصية التي يتزعمها مراكز القوي في تلك الدولة .
(5)
فالحريات وتوفير الديمقراطية وتحقيق النظام البرلماني وحكم الشعب.. من أهم المسببات لقيام الثورات الشعبية ؛ فهي الوقود الناجز الذي يفل معه أي نظام سياسي مهما بلغت درجة أحكامه او سطوته وجبروته، وكان ذلك أكبر دليل عما تشهده دول الشرق الأوسط وأيضاً بعض الدول الأوروبية التي رأت الثورات ونجاحها في تحقيق مطالب الشعب ؛ فأخذت علي خطاها، فرياح التغيير والثورات المشتعلة في العالم العربي والتي أدت للإطاحة برؤساء وقيادات سياسية كبيرة تنتقل إلي القارة الأوروبية لتطال أقوي هذه الدول؛ مثل: بريطانيا وإسبانيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا، فالمظاهرات الشعبية الضخمة التي هزت لندن منذ أيام تحت شعار “نعم للتغيير”؛ إضافة إلي نتائج الانتخابات المحلية التي أشارت إلي هبوط شعبية الحكومة الائتلافية الحالية في بريطانيا، تؤكد أن الأوضاع في بريطانيا لن تعرف الاستقرار الفترة المقبلة، لكن المسألة لا تقتصر علي بريطانيا وحدها، فالبلدان الأوروبية الكبيرة الأخري تمر بأزمة شبيهة وأصبح سقوط عدد من القادة الأوروبيين في الانتخابات المقبلة لبلادهم مسألة شبه مؤكدة.
ففي فرنسا، كشفت نتائج الانتخابات البلدية والمحلية التي جرت مؤخراً عن حصول الحزب الاشتراكي المعارض علي 50% من مجموع الأصوات التي شاركت في الانتخابات، بل إن حزب الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، “الاتحاد من أجل الحركة لشعبية” ? اليميني – حصل فقط علي 35.9% من الأصوات، والأهم في ذلك أن حزب الرئيس الفرنسي والجبهة الوطنية الفرنسية المتطرفة بقيادة “جان ماري لو بان” والتي حصلت علي 11%من الأصوات، اللذين عادة لا يتحالفان مع بعضهما البعض.
وتتسع رياح التغيير لتهب علي ألمانيا، حيث تقول صحيفة “الجارديان” إنه للمرة الأولي منذ ثمانية وخمسين عاما يخسر الحزب الديمقراطي المسيحي برئاسة المستشارة “أنجيلا ميركل” بشكل مهين في الانتخابات المحلية، أمام تحالف من الحزبين المعارضين الاشتراكي المنافس التقليدي له وحزب الخضر في إقليم بادن، وحازا علي غالبية من أربعة مقاعد في الحكومة المحلية للإقليم، وتأتي هذه النتيجة كتعبير طبيعي عن القلق العام الذي يجتاح ألمانيا عقب الهزة الأرضية والتسوماني الذي تعرضت له اليابانـ وأدي إلي تسريبات إشعاعية تهدد حياة البشر.
وينضم رئيس الوزراء الإسباني خوسيه ثاباتيرو إلي قائمة الأسماء المرشحة للاختفاء عن المسرح السياسي قريبا، فقد أشارت بعض التقارير الصحفية الإسبانية إلي وجود تقارير واردة من مدريد عن نية ثاباتيرو التنحي عن رئاسة الحزب الاشتراكي في الانتخابات المقبلة، وأثارت هذه التوقعات فزع الكثيرين في إسبانيا لدرجة أن تقدم من عالم المال والأعمال في إسبانيا لمقابلة ثاباتيرو لإقناعه بالعدول عن قراره.
أما في إيطاليا، فإنه بجانب الفضائح الجنسية التي هزت عرش بيرلسكوني ويحاكم بسببها قريباً، جاءت تهم الفساد الي مثل بسببها منذ أيام أمام المحكمة في ميلانو لأول مرة من ثماني سنوات، لتضيف من رصيده السيئ في الشارع الإيطالي، وتوالت الاتهامات ضد بيرلسكوني في الاسابيع الاخيرة بسبب علاقته الشخصية التي تربطه بالعقيد معمر القذافي، لتكون القشة التي قصمت ظهر البعير، وأدت بانهيار شعبيته لمستوي لا مثيل له.
(6)
فالعالم العربي من أكثر الشعوب التي ذاقت الظلم من حكامها الأبديين الذين كانوا يمثلوون حكم الفرد دون الأغلبية، ووضع السلطة في يد رجل واحد يمثل كل الهيئات ويقبض علي المناصب كافة، مما يجعل الفوضي أقرب الطرق الي انهيار دولته بدونه، وكان قبلها الحكم السلطوي والطبقي العائلي، وسبقه الاستعمار الغربي لكل دول منطقة الشرق الاوسط والقارة الافريقية جميعها. فقد قبعت تحت السيطرة الغربية من بريطانيا العظمي وفرنسا إلي الولايات المتحدة الامريكية في عصرها الجديد، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وتفكيكه غير أنه للملاحظة أن الولايات المتحدة الأمريكية تستعمر بحجة حماية الحريات علي عكس قديماً؛ حيث كان الاستعمار من أجل حماية المصالح الاقتصادية والسياسية للدول العظمي، لكن تعددت الأسباب والقصد واحد.
لكن في الأوقات الدقيقة الراهنة الثورة نبعت من الفساد والاستبداد والبطالة وغياب العدالة الاجتماعية وسوء توزيع الدخول والتضخم السياسي والمالي لرجال السلطة وذويهم، وأخذت تسري كالنار في الهشيم، وانتقلت من دولة إلي أخري واجتاحت الغالبية العظمي من المنطقة العربية، فصوت الحرية دائما ما يكون أعلي من أي شيء آخر، وما يشغل الأذهان حالياً هو جني ثمار هذه الثورات والانتقال من دولة مرفوضة إلي دولة اخري يسعي الجميع إلي تحقيقها، بالتأكيد لن تكون كالمدينة الفاضلة عند ” الفارابي” لكنها قد تكون أفضل مما كانت عليها من قبل، وبوابة جديدة للعبور إلي أمال مستقبلبة يتخللها عيش هانئ وحرية وعدالة.