ميدان التحرير يترقب ” المهدي المنتظر “

 

د. خالد غازي   

” إرهاصات حل التناحر والمنافسة السياسية فى مصر بين العلمانيين والإسلاميين تمثل ” البوصلة المفقودة” لرسم ملامح المستقبل”.

 

(1)

الثورات الشعبية التى قامت فى دول الربيع العربى مثلت نموذجاً مثالياً للتعامل مع الأنظمة الاستبدادية فى المنطقة، لكن المدهش فى تلك الثورات أنها تفتقد الزعامة لذا يصعب تقويمها أو إصلاحها من الداخل ؛ لأنها تعدت هذه المرحلة، كما أنها تقف على مسافة واحدة من الضغوط الخارجية والتمويلات مجهولة المصدر والمصالح غير المعلومة لكنها تنفذ أهدافها فى ميادين ثوراتها، تبدئها بصراع داخلى بين أقطابها الإسلاميين والليبراليين من جانب، والسلطات الحاكمة من جانب آخر، وبين ذا وتلك تتفتت تلك التيارات لتتصارع فيما بينها والمستفيد غير معلوم. وعلى غراره تعمقت حالة الاستقطاب والانقسام بين جميع الفصائل الوطنية وتعمق من مأزق الخروج من الأزمة السياسية الراهنة التي تعيشها البلاد.. هذا الصراع كائن افتراضى من مخلفات الأنظمة السابقة التى سعت فى وجودها إلى تغذيته ودعمه واللعب على وتيرته خلال الحقب المتعاقبة ومنذ قيام ثورة يوليو 1952 حتى اندلاع ثورة يناير 2011، حيث بقيت فزاعة الأصوليين الإسلاميين والإخوان المسلمين والسلفيين وغيرهم من التيارات الإسلامية حاضرة غائبة فى مختلف الأحداث التى كانت تضرب عماد تلك الأنظمة وهو ما أسموه الشغب تارة وصولاً إلى الإرهاب. أى أن تصدير الفكرة الأساسية هو ما تعمدته الانظمة نتيجة التخوف والقلق من تلك التيارات، وكأنها كائن شيطانى دخيل على الاوطان، مما يجعل الأزمة التى تعيشها الثورة فى مصر فى الاوقات الحالية ستظل بل ستتمخض عن عدم الوصول إلى حالة من الوفاق بين التيارات والقوى السياسية المختلفة سواء كانت علمانية أو إسلامية أو ليبرالية لتغيب مصالح الدولة بينهما.

 

(2)

وما يشهده ميدان التحرير بوسط القاهرة يثير الكثير من الاسئلة الشائكة والتى فى حاجة ضرورية وملحة للاجابة عنها لعل اهمها من جانبين.. ان هؤلاء الثوار يستكملون ما بدأ دون قائد او تيار سياسى معين، فيما تظهر على الجانب الاخر بوادر أن هناك من يقف وراء تلك الاحتجاجات سواء كانت خارجية تساندها دول عربية تسعى لمصالحها السياسية أوالدينية أو دول غربية.  من يبرز هنا تساؤل: ما علاقة الثوار الذين يفترشون أرض الميدان من كل حد وصوب بالصراع العلمانى – الإسلامى من جانب ؛ والصراع الإسلامى- الإسلامى من جانب اخر، جاءوا فى خدمة من ؟ فالليبرالون بعضهم انسحب والإسلاميون هتفوا فى المتظاهرين بضرورة البقاء، ولاشك أن تلك الأحداث تنم عن تشتبك وتأزم خطوط كثيرة على رأسها حكم المجلس الأعلى للقوات المسلحة للبلاد وموضوع تسليم السلطة لسلطة مدنية ؛وما يتعلق بالانتخابات البرلمانبة، حيث يتبنى العسكرى اتجاه تأجيلها لفترة أخرى، هذا ما يرفضه التيار الإسلامى.. فى حين أن الليبراليين متحفظون بين القرارين، وإن كان أغلبهم يميل إلى التأجيل.  وعلى جانب آخر يظهر الإسلاميون أصحاب اليد الطولى حائمة حولهم دعاوى التمويل الخارجى من دول عربية لتحقيق بعض اهدافها، مستغلة حالة الفوضى والانفلات الامنى الذى يعانيه الشارع، والليبرالون ليسوا ببعيد عن الشبهات من خلال بعض الافكار الغربية التى يطرحونها ، إذن الأمر لا يخلو من وجود أصابع خفية خارجية كبرى وصغرى، والسؤال الصعب الذى يبحث عن اجابة الوفود فى ميدان التحرير من هم؟ ويخدمون مصلحة من ؟

 

(3)

وبنظرة على أرض الممارسة السياسية الفعلية نجد أن تلك المعركة حامية الوطيس بين التيار الإسلامى ؛ وتمثله جماعة الإخوان المسلمين والسلفيين والجماعة الإسلامية من ناحية، والقوى السياسية والليبرالية من ناحية أخري، والمجلس الاعلى للقوات المسلحة بين ذاك وتلك، باعتبار أنه في مأزق لأن الخلاف والانقسام حول المستقبل السياسى للبلاد ينمو يوماً بعد آخر، وربما يعيد البلاد إلى مربع الصفر حيث المظاهرات والاعتصامات ويعود ميدان التحرير إلى سيرته الأولي.. إذن ما الحل؟! وما السبيل للحيلولة دون عودة البلاد إلى مزيد من الفوضى، حيث الاحتقانات وعدم الاستقرار. الحقيقة الغائبة فى تلك الأزمة والتى تزيدها تعسراً هى عدم توافق أطراف الطيف السياسى، وكل طرف أو تيار يعتبر نفسه الصحيح بالمطلق ؛ وأن الآخر فى ضلال مبين، فبالتالى من الضرورى إعادة النظر والتسليم بأن الجميع شركاء مع باقى القوى فى مستقبل هذا الوطن، فالتيار العلمانى الرافض للشريعة كسند الحكم ويفضل القوانين الوضعية التى تقيم دولته المدنية، والآخر الذى يرفض مدنية الدولة المطلقة ويدعو إلى الأخذ بالشريعة الإسلامية، فهما متقابلان ولايجوز لقائهما على أى حال. وهذه ليست المعضلة الوحيدة لكن الأخطر هو محاولة فرض السيطرة والنفوذ واستعراض القوة ؛ وما شهده الميدان فى الاحتجاجات الأخيرة أكبر دليل على ذلك، حيث انقسام المجموعات وتتباين الأهداف ومحاولات التشويش كلا على الآخر، فضلاً عن المناوشات التى انتهت معظمها الى الاشتباك والتى كان أشهرها التعدى على المفكر الاسلامى د.محمد سليم العوا المرشح المحتمنلة للرئاسة والذى اختلفت الرؤئ حول خروجه فجأة من الميدان بعد القول ان الثوار رفضوا ان يغتنم العوا من جهودهم والآخر  أن قوى ليبرالية قامت بذلك، وما فعله المستشار هشام بسطويسى كان فى هذا الإطار حيث انسحب من سباق الانتخابات الرئاسية المرتقبة ؛ نظراً لصراعات الميدان الدموية.

 

(4)

مشهد ميدان التحرير الساخن تنطلى عليه مواد ملتهبة ومشعة تكاد أن تفجر مصر من الداخل، حيث إن اختلاف تلك التيارات فى توجهاتها لا تعود اثاره عليهما فحسب، بل تؤثر على سير عملية انتقال السلطة، حيث الصدام سيظل قائماً ومعلناً تزعمته فى البداية عدد من القوي المدينة التي تضم ليبراليين ويساريين، الذين شكلوا تحالفاً خاصاً بهم لمواجهة التيار الإسلامي، ضم أكثر من عشرين حركة وحزبا سياسيًا، وقوي نقابية، تحت مسمي “الكتلة المصرية”، بهدف التنسيق السياسي والانتخابي والبرلماني لخوض الانتخابات التشريعية ككتلة واحدة متوحدة، وبتنسيق مشترك خلال التوافق علي المرشحين بتمويل انتخابي مشترك، من أجل تقديم البرامج والآليات اللازمة لتحقيق آمال المصريين في وطن متطور ومتقدم اجتماعيا واقتصاديا، بعيداً عن التيار الاسلامى ورموزه. بالرغم من أن الليبرالية كانت تعتمد علي العقل والرشد، فإذا بها تصب مزيدا من الزيت علي النار، وهو ما يرجع إلي خوف أتباعها الشديد من الإسلاميين وشعبيتهم وتأثيرهم الكبير فى غالبية شرائح المجتمع، خاصة أنهم لا يمتلكون قواعد شعبية علي أرض الواقع، بأن يتقبلوا تباين أفكار واتجاهات ورؤى الشعب كما هو ويحترموا ارادته وألا يمارسو نوعا من الوصاية عليه، وإذا ما اختار الشعب الإسلاميين كأغلبية معبرة عنه، فعليهم أن يتقبلوا ذلك بصدر رحب دون توجيه اتهامات للشعب بأنه غير مؤهل للديمقراطية أو أنه غير ناضج سياسيا – كما كان يفعل النظام السابق.

 

(5)

ونرى فى المقابل قيادات التيار الإسلامي تقول: إن هذا “تحالف ضعيف”  – أى الليبراليين- لن يستمر طويلا ؛ لأنه ليس مؤسساً على عوامل هشة، كما أن أعضاءه يعملون وفقاً لأفكارهم وحساباتهم ، في حين أن الإسلاميين يقولون إنهم يبحثون عما هو مشترك بين الجميع لتخفيف حدة الاستقطاب والانقسام والخروج بسلام من المرحلة الانتقالية.. وعلى الجانب الاخر يتهمون تحالف الليبراليين بأنه يلعب علي الوتر الطائفي، باعتبار ان هدف الليبراليين الأساسي هو معاداة أي شيء له مرجعية دينية واسعة التأثير والانتشار الجماهيري، ولا أحد يستطيع القول بأن تلك التيارات على اختلاف مبادئها وأفكارها هى الأنسب أو الأصلح لتلك المرحلة الحرجة التى تمر بها البلاد، وذلك نابع من كون الطرفين فكرين مختلفين لا يمكن أن يتقابلا والغريب فى الأمر أن كلا الطرفين ينصب نفسه على أنه ” المهدى المنتظر” الذى سيقود الدولة إلى الاصلاح، خاصة انهم يرون أن افكارهم تلك لم تكن لها الحرية من قبل وأنها لو أتيحت لها الفرصة ستكون الأصلح.. غير وكأنهم لا يدركون أن التيار الليبرالى فى عهد عبد الناصر لم يفلح والاسلامى فى عهد السادات لم يجدى ويعطى نتيجة حقيقية، حتى الرأسمالى فى عهد مبارك قد فسد.

 

(6)

الإعلام بشتى نوافذه وأشكاله له دور كبير في صنع ما يحدث، لأن الإعلام إذا ما تجاهلهم فربما يحد من الاثارة بينهم، وقد نجد مع الوقت المتناحرين ليس لهم أي صدي يذكر ، فالتحالفات ضعيفة لا قوة لها ولن تستمر كثيراً، وبذلك يمثل الاعلام راعى للفتن ؛ حيث انه يتسبب في افتعال معارك زائفة دون سبب أو داعٍ يتعارض مع مصالح الوطن العليا، وكان ينبغي علي الليبراليين أنه يفتحوا خطوطاً للحوار مع التيار الإسلامي بدلا من مواجهته وكأنه عدو لهم، لأن مصلحة الوطن تقتضي أن نسمو بخلافاتنا وأن نتقارب فيما بيننا، فهناك مساحات مشتركة بين الجميع، فى حين يخرج الحوار فى مناطق اخرى يقوده التوجه الفكرى خاصةً أن الاسلاميين يرون بأن تحركات ودعوات الليبراليين تمثل إشارة إلي أنهم ليسوا مصريين وأن ذلك يكرس حالة الاستقطاب، وكل طرف يتوقع أن ينعدم تأثير الآخر علي الساحة السياسية عامة وبصفة خاصة في الانتخابات البرلمانية، لهذا سيسقط الجميع فى اللعب على الوتر الطائفي.

 

(7)

وبرؤية عامة: فإن الأزمة الراهنة التى تموج بها الحياة السياسية فى كل من مصر وتونس – أصحاب انطلاق قطار الربيع العربى فى المنطقة – قد تتشابه فى بعضها، فكلتا الثورتين يحاول الصراع ان يفت عضدهما خلال تشابك مجموعات وتنوع اهداف بين ثوار وبقايا للانظمة السابقة وحركات سياسية افرزتهما الثورات جاءت تبحث عن تحقيق مكاسب سياسية كبيرة، لكن رغم ذلك الوضع فى مصر يشوبه القلق خلال المرحلة المقبلة سواء التى ستسبق الانتخابات او خلالها او تلك التى ستكون لاحقة لها، اذ ربما تندلع الصراعات بين التيارات الإسلامية والعلمانية والتى قد تصل إلى درجة الحدة التى وصلت إليها تونس خلال صراعاتها فى السابق، رغم أن هذا الصراع هو في الحقيقة صراع سياسى وليس دينياً.