المثل يقول إن كلب العمدة إذا مات فسوف تمسى وراءه البلدة كلها، وأن العمدة نفسه إذا مات فلن يسمى وراءه أحد.. وهى حقيقة تؤكدها التجربة يوماً بعد أخر. ويوم ماتت الاديبة مى زيادة عام 1941 لم يمش وراءها رغم شهرتها ومعارفها وأصدقائها الذين هم بغير حصر، سوى ثلاثة من الأوفياء: أحمد لطفى السيد، خليل مطران، انطوان الجميل. وسوف يبقى المعنى الذى يشير إليه هذا المثل قائماً إلى يوم القيامة، مؤكداً على ان النفاق هو أساس كثير من أفعالنا وأقوالنا.
وقد أراد د. خالد غازى أن يتحرى حياة تلك المعذبة مى وراح ينقب فى حياتها وتاريخها حتى أخرج كتابه “مي زيادة .. حياتها وسيرتها وأدبها وأوراق لم تنشر ” الذى نال به جائزة الدولة التشجيعية لهذا العام. ولا أعرف لماذا جريت بين الصفحات حتى وصلت إلى الفصل الذى يحمل عنوان: “محنة مى” فوقفت عنده طويلاً أقلب فيه واستعيد بعض سطوره وفقراته، ربما لأنه يجسد حياة مى بأعتبراها حالة جديرة بالتأمل والنـظر.
وقد قيل أن من أحب فعف فمات فهو شهيد، أما مى فيبدو أنها قد أحبت فعفت فتعذبت ثم تعذبت ثم تعذبت ثم تعذبت ثم ماتت، وقبل أن تموت قالت: أنا امرأة قضيت حياتى بين قلمى وأدواتى وكتبى، ودراساتى وقد أنصرفت بكل تفكيرى إلى المثل الأعلى، وهذه الحياة “الأيدياليزم” أى المثالية التى حييتها جلعتنى أجهل ما فى هذا البشر من دسائس.
وقد عاشت 55 عاماً أكثرها حزناً على رحيل أبيها وأمها وعدد من أعز أقاربها ثم جبران خليل جبران الذى سبقها إلى الموت بعشر سنوات فكانت تتسلى عن عذاب الحياة، وصدماتها بالتدخين تارة وبالترحال تارة أخرى وبالغوص فى أعماق القراءة، والكتابة تارة ثالثة، حتى أن لتلك الروح المعذبة أن تموت فتستريح.
على الغلاف رسم خالد غازى صورتها وتحتها ثلاثة من عمالقة عصرها: العقاد، طه حسين، جبران خليل جبران، وفى الصفحة الأولى سجل أمنية من امنياتها ثم مضى يحققها لها وكأنها كانت تقصده حين كتبت عام 1919 تتمنى أن يأتى من ينصفها فقالت: أتمنى أن يأتى بعد موتى من ينصفنى ويستخرج من كتاباتى الصغيرة المتواضعة ما فيها من روح الأخلاص والصدق والحمية والتحمس لكل شئ حسن وصالح وجميل لأنه كذلك، لا عن رغبة فى الأنتفاع به.
ومع الطبعة الجديدة من الكتاب الصادرة عن وكالة الصحافة العربية بالقاهرة ، عدد من الرسائل الخطية بينها وبين عدد كبير من مشاهي عصرها فى الفكر والأدب وفى إحداها كتب جبران يعزيها فى والدها، فقال: يامارى يا صديقتى العزيزة عرفت اليوم أن والدك قد ذهب إلى ما وراء الأفق الذهبى وأنه قد بلغ المحجة التى يقصدها الناس كلهم فلماذا ياترى أقول لك، انت يا مارى أبعد فكراً وسمعا من تلك الألفاظ التى يقدمها الناس معزين مواسين.
والحق ان الكتاب فيه من الجهد ما يستأهل الشكر وفيه من الإحاطة بموضوعه ما يستحق القراءة وفيه من المتابعة ما يحفز على تناوله وهضمة فى جلسة واحدة.
سليمان جودة
جريدة ” الوفد “