د. خالد محمد غازي
الولايات المتحدة الأمريكية أنفقت خلال السنوات الماضية مليارات الدولارات على إنشاء مشاريع للبنى التحتية في العراق، لكن على أرض الواقع: هل هذه المشاريع تتناسب وحجم الأموال التي أنفقت عليها ؟
(1)
الفساد السياسي منظومة متكاملة تقوم على أركان مختلفة ، وتتمدد وتنتشر وفق أدواتها وأنماطها الخاصة، ولا يمكن أن يحيا الفساد وينمو إلا في وجود بيئة مواتية .. وبالنظر إلى الفساد كظاهرة عالمية، قد لا تنجو منه دولة من الدول أو مجتمع من المجتمعات، فلا يصح أن يكون انتشار الفساد أو غيابه معيارًا لتقدم الأمم وتحصنها ضد ذلك المرض ، وإنما تعتبر القدرة على اكتشاف الفساد واعتباره دخيلا على المنظومة المجتمعية، وبالتالي مقاومته بآليات ناجحة، هي المعيار الحقيقي في ذلك الأمر.
إن من أحد معاني الفساد إلحاق الضرر، وأخذ المال ظلما، وعدم القيام على الأمر بما يصلحه ، لذا فحين يعم الفساد مجتمعا من المجتمعات وتفوح رائحته تجد تظاهرا بمحاولات الإصلاح، وحديثا مملا ومكررا عن الشفافية، وكأنها ستار يخفي ما تحته من الفساد كي يعيش أطول فترة ممكنة.
(2)
وتشكل ظاهرة الفساد العالمي إحدى أبرز العقبات التي تحول دون تقدم الشعوب وازدهارها، خاصة عندما يتملك أكبر قوة فى العالم التى تمثلها خلال الآونة الراهنة الولايات المتحدة الأمريكية، هذا فضلا عن كونه اداة ملتوية يستخدمها ضعاف النفوس لسرقة الحقوق والمكتسبات للآخرين.
الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون اكتشف هذا الخلل ، الناتج عن وجود بعض الاضطرابات في المجتمع الأمريكي ، فقرر تشكيل لجنة – مارس ضغوطه على أفرادها – لتضع تقريرا أطلق عليه وقتها “خطة هيوستون”، ذلك التقرير الذي مهد لتكوين جهاز “أمن الدولة الأمريكي”، وهو الجهاز الذي يمتلك الحق في جمع المعلومات عن المواطنين الأمريكيين، بهدف تأمين النظام والمحافظة على التوازن الداخلي، وتصل هذه المعلومات إلى الرئيس بشكل مباشر ، حيث إن هذا الجهاز السري تابع للبيت الأبيض وتحظى معلوماته بثقة خاصة.
وتحت غطاء السرية والخصوصية توسع هذا الجهاز في جمع المعلومات عن الصحفيين والموظفين العموميين، ورؤساء الأحزاب والشخصيات العامة والقيادات الدينية والاجتماعية ذات التأثير، وفى عام 1972 استغل نيكسون المعلومات المتاحة لإعادة انتخابه رئيسا لأمريكا، لكن الصحافة الحرة والواعية استطاعت فضح هذه المؤامرة فيما عرف باسم “فضيحة ووترجيت”، وأقيل بسببها نيكسون من رئاسة أمريكا وتم حل هذا الجهاز.
وفى السياق ذاته كشفت صحف أمريكية “مؤخراً ” أن المحققين الذين يبحثون في قضايا الفساد التي وقعت أثناء عملية إعادة إعمار العراق، اكتشفوا أكثر من 50 قضية جديدة خلال ستة أشهر ، أثناء فحصهم صفقات الأموال الضخمة، بما فيها المصارف وصفقات الأراضي ومدفوعات القروض والكازينوهات وحتى جراحات التجميل، قام بها بعض الأمريكيين المشتركين فى برنامج تبلغ تكلفته 150 مليار دولار أمريكي.
وقال المحققون الفيدراليون: إن بعض هذه الحالات تتضمن بعض الأشخاص يشتبه في أنهم أرسلوا عشرات الآلاف من الدولارات لأنفسهم من العراق، أو أنهم قاموا بحشو حقائبهم بالأموال عند مغادرتهم البلاد، أما الحالات الأخرى، فقد أرسلت ملايين الدولارات من خلال التحويلات البرقية ثم يقوم المشتبه بهم باستخدام هذه الأموال في شراء السيارات من أنواع “بي إم دابليو وهمفي” والمجوهرات الثمينة، أو لتسديد ديون الكازينوهات الهائلة.
وأشار المحققون إلي أن بعض المشتبه بهم حاولوا كذلك إخفاء حساباتهم المصرفية الأجنبية في غانا وسويسرا وهولندا وبريطانيا، وفي حالات أخرى وجدت الأموال مخبأة ومكدسة فى خزائن منازلهم. ورغم وجود عشرات اللوائح للاتهام والإدانة بتهمة الفساد منذ غزو العراق عام 2003 فقد أكدت قضايا الفساد الجديدة تكهنات المحققين، بأن الفوضى وضعف الرقابة، والاستخدام الواسع للمدفوعات النقدية في برنامج إعادة إعمار العراق قد سمح للكثير من الأمريكيين بالحصول على الرشى وسرقة الأموال دون عقاب.
” ستيوارت بوين ” رئيس مكتب المفتش العام المختص بإعادة إعمار العراق ـ وهي وكالة رقابية مستقلة ـ قال: “لقد كان يراودني شعور بأن هناك تزويرًا مستمرًا وقائمًا بالعراق، لكن لا يمكنا الظفر به والقضاء عليه”، وقد تم الكشف عن الحالات الجديدة أثناء المرحلة الأولى من التحقيقات المنهجية والجديدة في الأنشطة المالية والتي قال عنها المحققون إنها قد بدأت بشكل جدي في الصيف الماضي. يشار إلى أن التحقيق لم يشمل سوى مناطق محدودة في الولايات المتحدة حتى الآن، ومن المنتظر أن يتم الكشف عن عشرات الحالات الأخرى بحلول نهاية هذا العام، مما أدى إلى اشتعال الصراع داخل الكونجرس الأمريكي بشأن الفساد في العراق، لذا فقد تعددت السجالات حول الفساد المستشري في مفاصل المؤسسات العراقية وأصبحت محط اهتمام المشرعين الأمريكيين لتصبح فقرة جديدة تخدم الاتجاهات والميول الداخلية للديمقراطيين والجمهوريين في الدعاية الانتخابية وكذلك التاثير في الاستراتيجية الأمريكية المتبعة حاليا في العراق.
(3)
القاضي راضي حمزة الراضي، الذي عينته الولايات المتحدة عام 2004 لرئاسة اللجنة العراقية للنزاهة العامة، قال: إن تقديراته تذهب إلى أن الفساد تسبب في خسارة الحكومة العراقية ما يصل إلى 18 مليار دولار، وقال: إن المالكي حمى أقارب له من التحقيق وسمح لوزراء بحماية موظفين متورطين بالفساد واستغلال نفوذهم لإبرام بعض الصفقات.
وقال القاضي” الراضي”: إنّ الفساد أثّر تقريبا في كل شيء، حيث وصل إلى كل الوكالات والوزارات وكذلك بعض أكثر المسئولين العراقيين نفوذا، وأنه أوقف التقدم الممكن في مجالات السياسة والاقتصاد والخدمات الأساسية والبنية الأساسية وإحلال الأمن وسلطة القانون، وأنّ الفساد ضرب أكثر الميادين الاقتصادية في العراق وهو قطاع النفط.
وبسؤاله عن المالكي، قال الراضي: لا أستطيع أن أقول إنّ شخصا ما قام بهذه الأمور دون أن يكون لدي دليل. لكنّ المالكي قام بحماية أقاربه المورطين في الفساد، وذكر بالاسم وزير النقل سلام المالكي الذي عطّل رئيس الوزراء تحقيقا بشأنه قائلا إنّه يمثل أحد حلفائنا كما أنه قريب لي.
كما ذكر بالاسم وزير الكهرباء السابق «أيهم السامرائي» الذي يعدّ بدوره قريبا للمالكي، الذي تمّ الحكم عليه بالسجن ثلاث سنوات لتحويل أموال عمومية قبل أن يفرّ من السجن في المنطقة الخضراء، وقال السيناتور ستيفن لينش إنه يعيش مع عائلته الآن في شيكاغو.
وجاءت شهادة الراضي مدعومة بوثائق تم إصدارها من قبل لجنة النزاهة العامة، تبين كيف أن مكتب المالكي أعاق التحقيقات، لتقييمات مماثلة جاءت ضمن تقرير أصدره مكتب محاسبة الحكومة (الأمريكي).. وقال مراقب النفقات العام ديفيد ووكر إن «مكتب محاسبة الحكومة» وجد أن إدارة بوش تفتقد الاتجاه، وليس لديها أي استراتيجية معينة لتحسين أداء الوزارات العراقية.
وجاء في تقرير بصحيفة واشنطن بوست، أن القاضي راضي يسعى للحصول على حق اللجوء السياسي في الولايات المتحدة، حسبما قال هنري وكسمان، رئيس لجنة مجلس النواب المعنية بالمراقبة والإصلاح الحكومي، وقال: ” إن محققيه كشفوا عن فساد “متفشٍ” في الوزارات العراقية، كلف البلد مبالغ تصل الى 18 مليار دولار، لكن لم يتم إصدار حكم إلا في 241 قضية فساد من بين 3000 تم تحويلها إلى المحاكم.. إن الفساد لن يتوقف عند أي شيء.. إنهم فاسدون للحد الذي يجعلهم يهاجمون متهميهم وعوائلهم بالقتل والإرهاب”.
أما بالنسبة للوزراء العراقيين الفاسدين ، فإنه لا يمكن رفع قضايا ضدهم دون موافقة المالكي، خصوصا في قضايا الفساد المتعلقة بالنفط التي قال عنها إنها “أدت إلى تمويل الإرهاب بشكل فعال من قبل وزارة النفط عبر هذه الميليشيات التي تسيطر على نقل وتوزيع النفط”. بحسب قول الراضي.
لكن بعض القانونيين الجمهوريين حاولوا التشكيك بمصداقية الراضي، واتهم النائب دان بيرتون الراضي بكونه عمل لصالح نظام الدكتاتور صدام من عام 1979 إلى 1992 بصفة مدع عام.
(4)
ومن جانب آخر نجد أن صحيفة “بوست ستاندرد” الأمريكية قد ذكرت أن مراقبين حذروا الإدارة الأمريكية، من أن عمليات الإهدار والفساد التي شابت إعادة إعمار العراق ستتكرر في أفغانستان.
“توماس جامبل” نائب المفتش العام بوزارة الدفاع الأمريكية أكد وجود 154 تحقيقا في قضايا رشوة، وتضارب المصالح، ومنتجات غير صالحة للاستخدام، ومحاولة تزوير وسرقة في العراق وأفغانستان.. مشيرًا إلى أن فضائح التعاقدات في الجيش الأمريكي مستمرة منذ أيام الرئيس الأمريكي “جورج واشنطن”.
وقال جامبل إنه تم تكليف عدد صغير من المدنيين والعسكريين عديمي الخبرة بمسئوليات كبيرة لعدد ضخم من العقود، وأن أموال عملية الإعمار كثيرا ما استغلها القادة العسكريون الأمريكيون في العراق لأغراض شخصية، تحت ستار بناء المدارس والطرق والمستشفيات، وأنه تم إنفاق أكثر من ثلاثة بلايين دولار على هذه المشاريع، والتي لم تكن صالحة.
وأضافت الصحيفة الأمريكية أن هناك شكوكًا في الإشراف على الطريقة التي تم بها إنفاق الأموال، حيث اكتشف دفع رشاوى وإكراميات للمسئولين الحكوميين، كما وجد المحققون أن عمليات الاحتيال كانت أقل خطورة من التعاقد مع مقاولين عديمي الكفاءة بعقود باهظة التكاليف، وأن هذه التعاقدات تبديد لأموال الأمريكيين.
وقد أعلن رئيس مكتب مكافحة الفساد في السفارة الأمريكية ببغداد، جوزيف ستافورد، أن “القضاء الأمريكي أدان نحو 50 أمريكيا من المتورطين بعمليات فساد مالي وإداري لدى عملهم في العراق، بعد إجراء التحقيقات من قبل مكتب المفتش الخاص بعمليات إعادة اعمار العراق في السفارة”.
(5)
إنه عندما تجري مقارنة الإرهاب مع الفساد فإن الكفة تميل بشكل كبير إلى جانب الفساد، لأن الفساد يتخذ ديمومته واستمراريته مادامت هناك طرق متاحة له بين أروقة الإدارة، وطالما يجد تبريراته الاجتماعية في ظل غياب القيم النبيلة والاخلاق وضالة المردودات المالية، وهذه الظروف موجودة على طول الخط في الدول الفقيرة التي ينهشها الفساد بصورة مريعة، خصوصا الشعوب التي لا تنتمي إلا إلى تجمعاتها القبلية وهي تركن على طول الخط مفهوم المواطنة كذلك يعد فيها النظام او القانون شيئًا ثانويًا، أو على الأقل غير متفاعل بحده الأدنى.