لا شك أن التعصب عدو للفكر؛ لأن الفكر أهم سمة من سماته الحرية.. وعدم كبت الذهن عن التأمل وتكوين رؤية خاصة.. والفكر بصيرة وتأمل إيجابي لأفكار الآخرين وعدم وضع حواجز أو قيود بين الرأي والرأي الآخر.
لماذا أحياناً يسيطر علينا التعصب لرأي معين؟.. ولماذا نتمسك بموقف ما.. دون غيره من المواقف؟! لا أريد أن أقول إن كل الناس تسيطر عليهم أحياناً روح تعصبية، بل إن بعض الناس يسيطر عليهم انحياز لرأي معين أو موقف معين من خلال مناقشة أو موقف فكري؛ سواء كانت تلك المناقشات الفكرية أو هذه المعارك سياسة أو اقتصادية أو ثقافية أو غير ذلك.
والتعصب في معناه البسيط هو الانحياز لرأي بعينه دون النظر إلي الرأي الآخر أو الموقف الآخر، بحيث لا يري الإنسان موقفاً آخر أو رأياً مغايراً غير الذي اتخذه وتعصب له، ودافع عنه وانحاز له؛ ومن هنا فالشخص المتعصب كل ما يهمه هو الدفاع عن رأيه باستماته غريبة؛ فما بالنا إذا كانت تلك الظاهرة تسيطر علي العديد من المثقفين العرب ويتطور أمرها إلي حد تبادل الاتهامات والتشهير؟!.. ففلان يشتهر عنه أنه علماني، وفلان عميل للسلطة، وفلان يساري.. إلي آخر هذه الاتهامات. لاشك أن مفهوم “حرية التعبير” يتداخل مع عدة مفاهيم وقضايا جدلية، ومنها التداخل الشائع بين حرية التعبير وحرية الرأي، وكيف أنه يتم التعامل مع (المصطلحين) كمترادفين، مع أن حرية الرأي مكفولة ولا تحد، بينما الإشكالية في حرية التعبير وهذه هي نقطة الجدل.
أيضا يحدث التداخل بين حرية التعبير والحق في الاطلاع علي المعلومات والحقائق التي تهم الناس وتؤثر في حياتهم، وكذلك في العلاقة بين حرية التعبير وحرية الكتابة والنقاش، حيث تكون مستويات حرية التعبير متفاوتة من فرد لآخر ومن مجتمع لمجتمع ومن وسيلة إعلامية لأخري.
وعن حرية الرأي والتعبير، تقول موسوعة ويكيبيديا: بدايات المفهوم الحديث لحرية الرأي والتعبير ترجع إلي القرون الوسطي في المملكة المتحدة بعد الثورة التي أطاحت بالملك جيمس الثاني من إنجلترا عام 1688، ونصبت الملك وليام الثالث من إنجلترا والملكة ماري الثانية من إنجلترا علي العرش، وبعد سنة من هذا أصدر البرلمان البريطاني قانون “حرية الكلام في البرلمان”.. وبعد عقود من الصراع في فرنسا تم إعلان حقوق الإنسان والمواطن في فرنسا عام 1789 عقب الثورة الفرنسية الذي نص علي أن حرية الرأي والتعبير جزء أساسي من حقوق المواطن، وكانت هناك محاولات في الولايات المتحدة في نفس الفترة الزمنية لجعل حرية الرأي والتعبير حقا أساسيا، لكن الولايات المتحدة الأمريكية لم تفلح في تطبيق ما جاء في دستورها لعامي 1776 و1778 من حق حرية الرأي والتعبير؛ حيث حذف هذا البند في عام 1798 واعتبرت معارضة الحكومة الفيدرالية جريمة يعاقب عليها القانون، ولم تكن هناك مساواة في حقوق حرية التعبير بين السود والبيض.
ويعتبر الفيلسوف جون ستيوارت ميل (John Stuart Mill (1806 – 1873 من أوائل من نادوا بحرية التعبير عن أي رأي مهما كان هذا الرأي غير أخلاقيا في نظر البعض؛ إذ قال: “إذا كان كل البشر يمتلكون رأيا واحدا، وكان هناك شخص واحد فقط يملك رأيا مخالفا فان إسكات هذا الشخص الوحيد لا يختلف عن قيام هذا الشخص الوحيد بإسكات كل بني البشر إذا توفرت له القوة”.. وكان الحد الوحيد الذي وضعه جون ميل لحدود حرية التعبير عبارة عما أطلق عليه “إلحاق الضرر” بشخص آخر، ولا يزال هناك حتي هذا اليوم جدل عن ماهية الضرر فقد يختلف ما يعتبره الإنسان ضررا ألحق به من مجتمع إلي آخر. وكان جون ستيوارت ميل من الداعين للنظرية الفلسفية التي تنص علي أن العواقب الجيدة لأكبر عدد من الناس هي الفيصل في تحديد اعتبار عمل أو فكرة معينة أخلاقيا أم لا.. وكانت هذه الأفكار مناقضة للمدرسة الفلسفية التي تعتبر العمل اللاأخلاقي سيئا حتي لو عمت فائدة من القيام به، واستندت هذه المدرسة إلي الدين لتصنيف الأعمال إلي مقبولة أو مسيئة، ولتوضيح هذا الاختلاف فإن جون ستيوارت ميل يعتبر الكذب علي سبيل المثال مقبولا إذا كانت فيه فائدة لأكبر عدد من الأشخاص في مجموعة معينة علي عكس المدرسة المعاكسة التي تعتبر الكذب تصرفا سيئا حتي لو كانت عواقبه جيدة.
وبسبب الهجرة من الشرق إلي الدول الغربية واختلاط الثقافات والأديان ووسائل الاتصال الحديثة؛ مثل: الإنترنت، شهد العالم موجة جديدة من الجدل حول تعريف الإساءة أو الضرر، خاصة علي الرموز الدينية. ولا شك أن التعصب عدو للفكر؛ لأن الفكر أهم سمة من سماته الحرية.. وعدم كبت الذهن عن التأمل وتكوين رؤية خاصة.. والفكر بصيرة وتأمل إيجابي لأفكار الآخرين وعدم وضع حواجز أو قيود بين الرأي والرأي الآخر.. فيحكي أن حكيماً أحضر فيلاً ودعا سبعة من مكفوفي البصر وطلب من كل فرد منهم تلمس الفيل، ووصف ما تلمسه بالطريقة التي يرغبها.. فإذا بالأول يضع يده علي ظهر الفيل؛ ويقول إن الفيل كالأرض المنسبطة قليلة الخشونة.. ووضع الثاني يده علي أذن الفيل، وقال: كلا، إن الفيل كالمروحة.. وإذا بالكفيف الثالث يقول بعد أن وضع يده علي سن الفيل: إنه كالأنبوب الشافط.. وهكذا.. كل كفيف تلمس جزءاً وعبر عنه في صورة الكل وبالطريقة التي يرغبها ظناً منه أن ما قاله هو الصواب.. ولولا وجود ذلك البصير بينهم لما تبينوا الحقيقة.. ولا جدال في أن التعصب انحياز وضعف بصيرة.
والفكر الإيجابي هو انفتاح علي آراء وأفكار وعلوم الآخرين.. ومن تعصب أو تشنج لفكرة بعينها فهو بالفعل قد أغلق النوافذ والأبواب علي نفسه وعاش في بوتقة واحدة مغلقة – مع الأسف – فأفكار الإنسان قابلة للتطور والازدهار عن طريق التجارب والعلوم والمعرفة بشتي أنواعها والطموح في تجاوز الذات وحياة الأمم كحياة الأفراد تماماً؛ فالشعب الذي ينفتح بأفكاره علي شعب آخر يكتسب معارف وعلوماً جديدة.. وأي أمة تعيش عصر ازدهار تعيش عصر انفتاح علي العالم الخارجي المحيط بها وتأخذ منه ما يناسب مسيرتها التقدمية. ويقول الفيلسوف والمفكر العربي أبو يوسف بن إسحاق الكندي (697 ـ 378م): ينبغي علينا ألا نستحي من استحسان الحق واقتنائه من أين أتي، وإن أتي من الأجناس القاصية والأمم المبانية وليس معني ذلك أنني أرفض الإيمان بالموقف؛ فلكل إنسان مجموعة من المعتقدات والآراء التي يؤمن بها. ولكن عندما يفتح المرء نافذة الحوار مع الآخرين تزداد آراؤه رسوخاً وربما يتبين له من الحوار أنه يسير في طريق خطأ.. لكن علي الإنسان أن يتحمل مسئولية ما يعتقد أنه الحق.. ولم يكن العرب في عصر ازدهار حضارتهم متعصبين لآرائهم ومعتقداتهم بقدر ما كانوا يدعون إلي اعتناق تلك المعتقدات بالحسني.
وقد استفاد العرب استفادات عظيمة من علوم وتجارب الأمم الأخري؛ فترجموا الأفكار اليونانية والفارسية والهندسية إلي اللغة العربية.. ويجدر بنا أن نسأل سؤالاً مهماً نجيب عنه بأنفسنا أيضاً: ماذا يحدث لو أن كل إنسان في هذه الدنيا تعصب لفكره أو لرأيه ولمذهبه؟!
د.خالد محمد غازي