أعظم لذة.. وأعنف ألم.. هذا هو الحب..
عالم خاص جدًا.. علاقة لا تخضع لأي قواعد.. شىء لا يمكن لأحد أن يتحكم فيه.. إنه مثل دقات قلوبنا نموت لو توقفت لحظة واحدة، ولكننا لا نستطيع أن نتحكم فيها.. إنه الشيء الذي لا يعرف اختلاف الألسنة وتباين اللغات.. شبه الريح لا تمنعها حدود الجغرافيا أو تعدد المواطن.. وفاطمة رشدي التي ظلت تحلم بأن تصل شهرتها إلى شهرة النجمة الفرنسية سارة برنار، والتي قدمت أعمالًا لفيكتور هوجو، تولستوي، وشكسبير، وجورج فيدو فإن حياتها لم تخل من الغرام الأوروبي، وكأنها تريد أن تكون «عالمية» في كل شيء.. حتى في حياتها الخاصة فها هو «أحد الضباط الفرنسيين» في الجزائر يقع في غرامها، ويمثل دور العاشق الأوروبي، ولأن الحب حالة متفردة خارج كل ما يألفه الناس كانت قصة غرام فاطمة مع الضابط الفرنسي شديدة الغرابة، بعيدة عن القواعد المنطقية التي تحكم تصرفات البشر والتي تمثل في جملتها شيئًا لا يمكن أن يتصوره عقل..
تتحدث فاطمة عن ذلك الغرام العجيب: في إحدى زياراتي إلى المغرب العربي قدمت بعض الأعمال في الجزائر وقد لاقت هذه الأعمال نجاحًا كبيرًا لدى الحركات الوطنية هناك، وكان هذا النجاح يدفعنا إلى تقديم الأعمال التي تؤازر الثورة وتشد من عضد الشعب الجزائري الذي كان يئن تحت وطأة الاستعمار الفرنسي.. ولكن ذلك بالطبع لم يرض رجال المخابرات الفرنسية التي فرضت رقابة صارمة على الأعمال التي نقدمها.. وكان مدير المخابرات الفرنسية شابًا جميلًا، لم يكن يتركني أغيب عن بصره لحظة واحدة وكنت قد تعرفت على أحد الضباط الجزائريين، وكان من عائلة عريقة في كفاحها للاستعمار الفرنسي.. أبدى إعجابه بي في أول لقاء بيننا.. ثم تطور الأمر إلى ثقة كاملة حتى إنه صارحني بأنه من قادة حركة المقاومة الوطنية، وأن مدير المخابرات الفرنسي يراقبه وينتظر أن تسنح الفرصة التي يتصيده فيها.. وكان الضابط الجزائري شديد الكراهية له ويحكي لي عن الجرائم البشعة التي يرتكبها الفرنسيون ضد رجال المقاومة الجزائرية.. وتطورت علاقتي بالضابط الجزائرى بعد تصريحه لي وتوسله أن أبادله حبًا بحب.. ولم أشأ أن أصدمه، بل أظهرت له إعجابي وتقديرى على أن نترك مشاعرنا للأيام تسيرها كيفما شاءت ولكنه ثار في ضعف قائلًا: ليس لي أمل في الغد فأنا مريض وموتي محتوم.
وتقول فاطمة: لم أعرف وقتها ماذا أفعل غير أنني وجدتني أحتضنه ودموعي تنهمر وأقوله إنني أحبك.. لا يمكن لأحد أن يتصور مقدار الفرحة التي ارتسمت على وجهه لسماعه اعترافي بالحب.. وأصبحنا لا نفترق وأخذت أتردد معه على الأماكن التي يجتمع فيها برجال المقاومة.
وكان شديد الحذر حتى إنني أصبحت أشعر أننا بعيدين عن أي مصدر للخطر حتى كان يوم كنت على موعد بهذا الضابط في أحد الأماكن التي اعتدنا الاجتماع فيها مع قيادات الحركات الوطنية، وما كدت أطرق الباب وأدفعه كما تعودت حتى فوجئت بالمكان يخلو من كل من تعودنا على وجودهم، ورأيت ضابط المخابرات الوسيم يبتسم ابتسامة كلها سخرية قائلًا: أسف يا سيدتي صاحبك قد فارق الحياة، فقد أطلقنا عليه الرصاص صباح اليوم بعد أن صدر الحكم بإعدامه من المحكمة العليا.
لم أستطع أن أنطق بكلمة واحدة من هول الصدمة وانسحبت أجر قدميَّ بصعوبة، وأنا لا أشعر بكل ما يدور حولي ولكن بقي في نفسي سؤال وهو: لماذا لم يقبض علىّ رئيس المخابرات الفرنسي مع علمه الكامل بحقيقة صلتي بالضابط الجزائرى وزملائه من قادة الحركة الوطنية؟ شعرت أنني أحب هذا الضابط الذي لقي مصرعه، حبًا لم أكن أدركه في نفسي، ويبدو أننا لا ندرك قيمة الأشياء إلا بعد فقدها.. وقررت مغادرة الجزائر بسرعة.. ولكن ما حدث بعد ذلك كان مفاجأة أخرى.. فبينما أصعد مع بقية أفراد الفرقة إلى الباخرة متجهين إلى المغرب.. شاهدت الضابط الفرنسي «رئيس المخابرات» يقترب مني ويأخذني من يدى ويقول لي بصوت هامس حنون:
– سيدتي لا تندهشي لما أقول.. أنا أحبك.
– تحبني.. إنني لم أكره إنسانًا في حياتي مثل كراهيتي لك.
– صدقيني إن حب شيء واحد لا يؤلف بين قلبين وإنما يؤلف بينهما بغضه.. فأنت تبغضين عملي الذي يمليه عليّ واجبي نحو بلادي، لأنه يتعارض مع واجبك نحو بلادك وأنا أيضًا أبغض هذا العمل الذي يجعلني لا أنام من عذاب الضمير الذي أشعر به من جراء إخلاصي لبلادي.
– هل تعرفين لماذا لم أقبض عليك رغم علمي بصلتك بالضابط الجزائري وزملائه الثوار؟
– لقد سألت نفسي هذا السؤال ولم أتمكن من الوصول إلى إجابة.
– الإجابة ببساطة.. إنني أحببتك منذ اللحظة الأولى التي وقعت عيني فيها عليك.
– لست أفهم أي حب الذي تتحدث عنه وكيف يكون؟
– يكون بمعجزة.. إنه يشبه الجنين الذي يبدأ صغيرًا جدًا في بداية تكوينه.
– أمثالك من أصحاب القلوب الغليظة كيف يتحدثون بهذه الرقة؟
– معذرة فكنت طالبًا في الطب والتحقت بالجيش.
– لا يهم الأمر كثيرًا، فأنا راحلة الآن ولا فائدة من حبك المزعوم هذا.
– صدقيني لم أشأ أن أحرجك وأنت تقيمين هنا فقررت أن أنتظر لحظة رحيلك لأصارحك بهذا الحب.. ومن يدرى ربما نلتقي ثانية.
– هل تنتظر مني أن أصدقك.. ولا أشك في كل ما تقول وأنا أعرف طبيعة عملك؟
– سيدتي أنا مؤمن تمامًا بأن أقصر طريق للكرامة هو أن يكون ما يقوله الإنسان تعبيرًا صادقًا عما يدور في داخله.. وأنا أحاول أن أعيش محتفظًا بكرامتي، ولست مضطرًا للكذب.
– لكن هل نسيت الضابط الجزائري؟ إنني كنت أحبه؟
– لست أنا الذي قتله أو تسبب في قتله، لقد قبضوا عليه وهو في طريقه إلى مكان الاجتماع وأخذت أنا مهمة تفتيش المكان وضبط من فيه لأنني كنت أعلم أنك ذاهبة إلى هناك؟
– حسنًا.
ومضيت أصعد سلم الباخرة وهو يقول لي: “إلى اللقاء وأرجو منك أن تلزمي الصمت بما جرى بيننا”.
وأبحرت الباخرة صوب المغرب لترسو في الرباط وكانت «جوزفين بيكر» الراقصة الفرنسية الفاتنة تنزل في نفس الفندق الذي اخترته أثناء إقامتي، وكنت قد قابلتها في باريس حدث بيننا التعارف فلقيتني معانقة وسألتها: ماذا تفعلين هنا؟
– جئت للترفيه عن قوات الجيش الفرنسي الموجودة هنا.
وتقول فاطمة: شعرت وقتها بأنني يجب أن أقدم الأعمال التي تدفع الجماهير إلى مقاومة الاحتلال.. لأن «جوزفين» ترى أن الترفيه عن رجال الجيش الفرنسي واجب وطني.. ولذلك فمقاومة الاحتلال هو واجبي نحو وطني.. وقد حدث ذلك وأدت أعمالي الغرض الذي أنتويه، وكان من الطبيعي أن تستدعيني السلطات الاستعمارية.. وبعد ساعات من الاستجواب والتهديد قررت الاستمرار في تقديم هذه الأعمال.. وعندما يأسوا من نزولي على رغباتهم وتقديم أعمال كوميدية «هايفة» قرروا ترحيلي إلى جبل طارق.. ولم يتركوا لي أي فرصة للاعتراض، وشحنوني إلى جبل طارق حيث سلموني للمخابرات الإنجليزية التي أجرت معي تحقيقًا روتينيًا ثم أطلقوا سراحي.. وقررت السفر إلى باريس بالطريق البري المار بإسبانيا، وبمجرد وصولي باريس وأثناء بحثي عن فندق متواضع أنزل به لحين تدبير أموري. أفاجأ بشاب جميل يتقدم نحوي.. لقد كان نفس الضابط «رئيس المخابرات» الذي صارحني بحبه أثناء مغادرتي للجزائر.
هتفت من المفاجأة:
– مستحيل.. أنت؟
– نعم.. ألم أقل لك إننا قد نلتقي مرة أخرى.
واقتادني إلى سيارة فاخرة كانت تقف قريبًا منا ومضت بنا في شوارع باريس حكيت له ما جرى لي وإذا به يعلم بكل التفاصيل التي مرت بي وكأنه يترقب وصولي وسألني:
– لماذا لم تسافري من جبل طارق إلى القاهرة؟
– لست أدري.. إنه تصرف لم تكن لي أدنى إرادة فيه..
– إنه من حسن طالعي..
– لو سمحت وصلني إلى أقرب فندق فأنا مرهقة جدًا.
– لقد أعددت لك كل شيء فأنت في ضيافتي طوال فترة إقامتك في باريس
وذهب بى إلى شقة صغيرة في «الشانزلزيه» أعدها خصيصًا لإقامتي وتركني لأستريح على وعد باللقاء في الصباح.
وفي الصباح عاد إليَّ وأخبرني أنه قرر الفرار بي من باريس إلى إسبانيا وذلك في إجازة طويلة.
وتقول فاطمة قضيت مع الشاب الفرنسي – ضابط المخابرات – سنة من أجمل سنوات عمري، وقد اكتشفت أنه مليونير، وبعد شهرين من إقامتنا في مدريد قال لي:
– فاطمة أريد أن أقدم لك هدية تذكرينني بها؟
– لقد غمرتني بهداياك.. صدقني أنا سعيدة ولا أريد أي شيء.
– لا.. هذه هدية من النوع الذي تعشقينه ولن تستطيعي الرفض.
– ما هي؟
– فيلم سينمائى عربي تقومين فيه بدور البطولة.
ولم أصدق نفسي من الفرحة حتى إنني شعرت أنني في حلم جميل حتى دارت الكاميرا بعد أيام قليلة لتصور فيلم «الزواج» الذي تولى بطولته أمامي الممثل «علي رشدي» وقد تم تصوير الفيلم بين باريس والقاهرة.
وكان هو قد قرر ألا يتخلى عني طوال حياته وكان يرفض فكرة سفري حتى لأيام قليلة.. لكن حدث ما لم يكن في الحسبان فاندلعت الحرب العالمية الثانية واستدعي إلى ميدان القتال، فعدنا إلى باريس ومنها إلى مارسليا وكانت أغلب الخطوط الملاحية قد توقفت وبذل مجهودًا كبيرًا حتى استطاع أن يجد لي مكانًا على ظهر باخرة بضاعة أعود فيها إلى الإسكندرية.
ولن أنسى لحظات الوداع بيننا؛ فقد تحجرت دموعه واحتبس صوته وضمني إلى صدره كثيرًا.. ورفض أن يقول كلمة وداع واحدة.. لقد كان يأمل في أن نلتقي ثانية كما التقينا بعد فراقنا في الجزائر.. ولكن قدّر لنا ألا نلتقي أبدًا.. فقد قتل في الميدان بعد شهور قليلة من قيام الحرب وسقط في سبيل واجبه كما سقط الضابط الجزائري في سبيل الواجب.. ترى ما هذا الشيء الذي نعشقه لدرجة أن نفقد بسببه أغلى الأشياء في الوجود؟!
لقد رحل هذا الرجل الذي أخلص في عمله الذي يبغضه وأخلص في حبه للمرأة التي كان حبيبها الجزائرى أحد ضحاياه.. ولا عجب إنه الحب.