في رواية “المنتهى الأخير” لمؤلفها خالد غازي تخدعنا شهرزاد بحكاياها ، وتدعونا لعالمها الحالم المخملي وقبل أن نشد رحالنا ونبحر معها عبر زمانها وزمن المنذر لنعيش ليالِ من لياليها الألف .. تصدمنا حكايا الدم والقهر والاغتصاب .. فشهر زاد اليوم فلسطينية الأصل مهمومة بالنضال، والأرض والحب أيضاً. الحب والفقد هما مفتاحا السر لرواية ” المنتهى الأخير”، فالحب هو الذي يربط بين شهرزاد والحفيد الذي يقف حائراً بين حبه الحقيقي لشهرزاد وقصص حبه التي لا تنتهي، والحب الأكبر في حياته هو لجده الشيخ عوض المتصوف الذي قضى عمره في ترحال بين المشرق والمغرب قاصداً الحقيقة.. وينظر إلى الدنيا كسجل كبير له نهاية حتمية، وهو يؤمن أن لا خلاص للإنسان إلا بنقطة ضوء يكتشفها بداخله فتضاء الروح في عالم ملكوتي له حلاوته لمن يدركه.
والعلاقة بين الحفيد والجد هي الرغبة في الوصول إلى نقطة النور، الحفيد يعلم منذ طفولته أن عليه استكمال مسيرة جده فهكذا قال له حين سأله عن معنى كلمة شيخ وقال >ربما تشبهني، لذا لن أقول لك ما معنى شيخ وعليك أن تدركها بنفسك.. وتبدأ من حيث انتهيت أنا.. ” طريق الجد واضح من بداية الرواية فهو المشوار الذي قطعه بالزهد ، والأذكار، ومقاومة جماع النفس والحكمة، فاستطاع الوصول إلى العلم، مصداقاً لقوله >لايصلح للعلم إلا لمن توفرت له أربعة ، الزهد والمعرفة والتوكل واليقين” عاش الشيخ عوض في ترحال ما بين المشرق والمغرب قاصداً البحث عن اليقين، فها هو يزور الجامع الأموي بدمشق ،كذلك كانت رحلة إلى فلسطين واصفاً إياها بقوله :هناك في تلك الأرض رأيتهم لا يخافون الردى إذا بكوا أوجعوا وإذا خيروا ما بين السجن أو الموت اختاروا الشهادة.. استقبلوا الموت بصدورهم يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ” لم يكن الشيخ عوض سوى مسافر عبر الزمان والمكان بروحه، التي نزع عنه حملها، بعد أن تطهرت ، لذا لم يكن غريباً أن يلتقي بـ”سلمة” والتي سميت قرية أم سلمة على اسمه بعد استشهاده بمئات السنوات، بل ويشهد كيفية استشهاده في معركة وادي اللحام في عهد النبي ”
لم يكن الزهد في حياة الشيخ عوض هو الخوف من الدنيا بملاذتها فلم يمنعه البحث عن اليقين معرفة الحب، فقد أحب زوجته الثانية فوزية حباً كبيراً رغم أنه كان يكبرها بأكثر من عشرين عاماً وتزوجها لمدة ثلاثة أعوام فقط، واكتملت برحيلها، وقد بلغ من الحب الشيخ عوض أنه كان ينبش قبرها ويخرج الحجارة حجراً حجراً ولم يكن مضى على رحيلها إلا أسبوعان يحتضنها بكفنها ويبكي ثم أعاد ترتيب القبر، ظل الشيخ يجاهد حتى تجاوز السبعين عاماً ورحل بعد أن انتهت رحلة عودته، فهو يقول >لحظة أن تولد تبدأ رحلة العودة وخلال الرحلة تحدث تغيرات على كل المسافرين وتبدلهم من حال إلى حال ويسعون إلى الوصول إلى الهدف المشترك الذي يبحث عن كل منهم ويرغبه ولا تلبث فروق الرواية أن تزول وتصبح الوحدة بديلاً للاختلاف والكل والواحد هو الكل.
أما الحفيد فهو يقف حائراً بين دنياه ووصايا جده التي استقاها منه و من أصدقائه ومريديه ، محاولاً استكمال مسيرته إلا أن الطريق الذي سلكه يختلف اختلافاً جذرياً عن جده، فهو يبحث عن منتهى الحب، وفي كل مرة يشعر بالوصول إليه يكتشف أنه كان واهماً، فلم يكن حبه لـ>أمنية صفوان< حبه الأول والذي يرجع تاريخه لأكثر من عشرين عاماً سوى حب المراهقة بمشاعره البكر خلال الجامعة، وهي التي تخلت عن هذا الحب مع طرقات أول رجل، فلا يكتسب من هذا الحب سوى معرفة معناه• أما نهى فتحي حب آخر.. فلم تخنه هي وإنما هو الذي يتحمل وزره، وهو يعترف به بقوله >فقدتك برعونة مازلت أندم منها وألعن غبائي وافتقدتني ، افتقدت حراراتي..فقد حالت الظروف دون اكتمال هذا الحب الذي مازال يعشش بداخل كل منهما.
منتهى الحب هو منتهى اللذة هو ما حاول البحث عن الحفيد لدى بثينة عز الدين، في أجواء أخرى وبلد أخرى وبطقوس مختلفة، ولكنه اكتشف أن الحب ليس لذة الالتقاء وها هو يعترف ويقول “حبنا المزعوم” لم يكن إلا محض رغبة أشعلت جسدينا ، هيمنت على كل حواسنا لا يهم أن أبكي وحدي لكن لايهم أن لا أتردد وأطاردك في كل بقاع الأرض وأعيد مرة أخرى صياغة تاريخك معي يجب أن أمنحك الغاية والمصير بعيداً عني. أما نادية شوكت بطلة قصة حب انتهت بالزواج ما دفعه إليها جرأتها.. حارب من أجلها الكثير ليكتشف زيفها، فجرأتها ليست سوى قناع زائف تهشم حين اكتشف خداعها له، بأنه الرجل الأول في حياتها.
قصص حب مختلفة.. عاشها الحفيد، حكم عليها بالفشل في النهاية إلا أنه في كل قصة يشعرنا أنه وصل بها إلى الحقيقة ولكن حبه الحقيقي ، هو حبه لشهرزاد “الفلسطينية” ورغم أنه حب باعدت المسافات والدماء دون اكتماله، وهو ما قالته له >الحدود ليست وحدها التي تقف بيننا، إنه قدر أرض منذورة لحرائق الغزاة ومذابح لا تنتهي، إننا لنبحر عكس التيار نقلع عكس الرياح وعكس الزمن لقاء غايته الفراق، وحب بلا غايات ارحل يا رفيقي، لن أقول كم كنا أغبياء وسأقول كم كنا أقوياء هل الأفضل ما حدث أم الذي لم يحدث ؟ في الوقت الذي انشغل فيه الحفيد بحكايا جده وحكايا شهرزاد وقصص حبه المختلفة، فقد اختصرت شهرزاد قصص العشق كلها في حب الوطن والأرض المغتصبة، ودماء أجدادها وحكاياهم التي لا تنتهي، حكايا مختلفة، وقصص حب مختلفة لأبطال أحبوا بصدق فوصلوا إلى اليقين، إلى الشهادة من أجل المحبوب، فرغم أن اغتصابها تحت مسمى الزواج، إلا أن مشاعرها البكر ظلت محتفظة بها لحبيبها.. الذي التقته صدفة بالقاهرة وباعدت المسافات دون اكتمال هذا الحب، فامتزج العشق لديها بقصص الأهل والقرية.. قصص المذابح والشهداء.. وسائل كثيرة كتبتها شهرزاد لحبيبها، تصحبه معها داخل قريتها أم سلمة، تصف له الأرض والناس والزمان وتكشف بحبر قلمها.. نزف أرض فلسطين على يد المغتصب، ودموع أمهات الشهداء، في عام 1948 وما حدث من مجازر في مسجد سلمة حيث قتلوا كل من فر للاحتماء به من أطفال ونساء ورجال واستمرت مجزرة أم سلمة من الصباح حتى المساء، ومن وقتها أغلق المسجد ولم يفتح إلا عام 1997 حيث قام عدد من عرب القرى المجاورة بغسل المسجد وتنظيفه من آثار دماء الشهداء التي ظلت عالقة على أرضه وجدرانه ما يقرب من خمسين عاماً.
شهود عيان شهدوا ما حدث في أرضها على مدى أكثر من نصف قرن، سطرتها شهادة لحبيبها، ناقلة له عالمها الذي تحياه.. وتعده في النهاية، أن تقف صامدة كما تعود منها مؤكدة له أن الحياة أشبه بحرب يجب مواجهتها، ولا تطالبه بأي وعود مكتفية بمشاعر الحب التي تعيش بداخلها فهي على يقين أن الوصول إلى المنتهى ليس المهم وإنما الأهم هو الحفاظ عليه، وتصارحه ببلوغها إياه فقد أيقنت معناه.. فالمنتهى هو إشباع ما بداخلنا وطالما بلغناه فقد وصلنا. يغلب على رواية المنتهى الأخير رغم تغليفها بحكايا الحب، الصبغة السياسية، فالأجواء كلها تنبض بجرح فلسطين، حتى حكايا الجد اختار لها قرى فلسطين، أما شهرزاد فهي تشي بأنها رمز لفلسطين بجرحها النازف ولكن الرواية في النهاية تضعنا أمام حقيقة هامة، أن الوصول إلى اليقين يسبقه الشك والخطأ فلا يعرف معنى الغفران إلا من ذاق الخطأ، فتجارب الحففيد هي زاده الذي يستكمل به طريق جده، فلم يكن بمقدوره الوصول إلي العلم إلا إذا ذاق الحب والرغبة واللذة ليشعر أنه لم يصل بعد، وحين يصل لهذا العلم فبالقطع هنا ستصله نقطة النور، طالما فتح نوافذ قلبه وعقله، وتحرر من سجن اللذة كما أنه لم يعد بحاجة إلى حكايا شهرزاد.. أو حكايا جده، لأنه سيكون عليه الدور أن تكون له حكاياه ليبدأ رحلة العودة.
أمل عريان فؤاد
جريدة البيان – الامارات