د.خالد محمد غازي
يبدو واضحا أن استقالة جورج ميتشل في هذا الوقت تحديدًا، جاءت نتيجة للعديد من المناقشات المشحونة بين أفراد الإدراة الأمريكية بعد شد وجذب حول ما إذا كان من المفروض على أوباما أن يقوم بطرح مبادرة حقيقية ملموسة يتسنى خلالها التقدم في عملية السلام.
(1)
ميتشل البالغ من العمر سبعة وسبعين عاما، فشل في نقل نجاحه خلال التجربة التي قام بها لتحقيق السلام في أيرلندا الشمالية، حيث إنه لم يستطع تطبيقها في النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني، الذي قاد جهود إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما لاستئناف المفاوضات المباشرة بين الفلسطينيين وإسرائيل على مدى عامين مضيا، فيما جاءت استقالته مفجرة لأسئلة كثيرة شائكة، تمس الشأن السياسي على ساحة الشرق الأوسط المضطربة، لاسيما بعد اشتعال فتيل الثورات العربية، وكذا التوقيع علي اتفاق للمصالحة الفلسطينية بين الفصائل، كما جاءت استقالته قبيل أيام من خطاب الرئيس الأمريكي باراك أوباما، الذي ألقاه في التاسع عشر من مايو الماضي، حول الشرق الأوسط، وهو الخطاب الذي أثار أصداء وجدلًا في الأوساط السياسية الدولية والإقليمية؛ ولقي معارضة قوية من إسرائيل، خاصة حين قال أوباما إن أي مفاوضات في الشرق الأوسط يتعين أن تبدأ أولاً بالاعتراف بحدود عام 1967 . ويبدو أن استقالة ميتشل وخطاب أوباما زادا من تعقيدات مبادرة السلام، خاصة بعد تأكيد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في خطابه أمام الكونجرس الأمريكي في الرابع والعشرين من الشهر ذاته، علي أن إسرائيل لن تعود إلى حدود ما قبل 1967، بعد أن رد بشدة على خطاب أوباما حول الشرق الأوسط.
ويبدو أن تلك الخلفيات لا تزال عاجزة عن رسم أي خريطة تطور أو تحريك للمشهد السياسي الشرق أوسطي.
(2)
جاءت استقالة “جورج ميتشل” مبعوث السلام الامريكى من البيت الابيض، بمثابة تقديم إعلان صريح على أن السلام فى الشرق الأوسط وجهود العامين الفائتين اللذين تولى فيهما القيام بالمهام بين طرفي النزاع فى المنطقة (الإسرائيلي والفلسطيني)، قد وصلت إلى طريق مسدود، فضلا عن إخفاق المبعوث نفسه في الوصول إلى أي نتائج أي أو خطوة فعلية على هذا الصعيد، لكن تعطى هذه الاستقالة – المفاجئة وغير المتوقعة خلال الاوقات الراهنة، خاصة في ظل ما تضج به الدول العربية من ثورات وموجات احتجاجية – تأكيدًا بأنها لن تستطيع مجاراة القضية الفلسطينية – الإسرائيلية وتسوية الصراع بينهما، ومن الجانب الآخر كان رحيل ميتشل – رغم ما تداول عنه من مهارة تفاوضية رائعة، وصبر على اجتياز أصعب المواقف ببراعة، فضلاً عن الصبر الذى كان يمارسه مع الأطراف المختلفة وامتيازه فى محاولات نقل وجهات النظر المختلفة بيسر وسهولة- كصرح من خيال وهوى باستقالته، أو أنه نتيجة محققة يعانيها السلام فى الشرق الأوسط، فتخلى ميتشل عن مهمته ومنصبه الرفيع يفتح الباب على مصراعيه أمام التكهنات والتحليلات المختلفة حول أسباب الاستقالة وحقيقة الفشل، وهل ذلك معناه الحرب فى المنطقة أم أن التهديدات والتوترات فى العلاقات السياسية بين الأطرف المتنازعة كافة سوف تعلو حدتها مستقبلاً، واستبعاد أي فرص وشيكة أو آفاق مبشرة باستئناف مفاوضات السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين؟
(3)
غير أنه من المنطقي – الذي تفرضه مجريات الأحداث – أن تلك الاستقالة تطرح بعض التساؤلات المتعلقة بالدور الإسرائيلي الذي مارسه رئيس وزراء اسرائيل بينامين نتنياهو، من ضغوط وشكاوى للإدراة الأمريكية للرئيس بارك أوباما من أجل إنهاء عمل ميتشل كمبعوث سلام؛ حيث إنه من المعروف أن المفاوضات السابقة التي أجرتها حكومة نتنياهو مع الحكومة الفلسطينية التي لم تضم أي ممثلين لحماس لم تحقق تقدمًا أو نجاحًا ملموسا ، إلا أنه بعد التوقيع علي المصالحة الفلسطينية في القاهرة مؤخرا، يمكن أن يكتب لهذه المفاوضات النجاح، وينتهى الصراع الدامي الذي امتد لعقود، حيث لن تجد إسرائيل أي ذرائع أخرى أمامها بعد إنهاء الانقسام بين الفصائل الفلسطينية والرغبة فى قيام الدولة الفلسطينية على حدود العام 1967، خاصة أنه في التوقيت الذي تم فيه تقديم الاستقالة جاءت اتهامات مباشرة من بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي، منتهزاً فرصة الفراغ الذى سببه “ميتشل” ليتهم الجانب الفلسطيني بأنه عثرة فى طريق السلام، وأنه يقوم بوضع عراقيل أمام مهمة كل المبعوثين الذين يوفدهم أوباما إلى الشرق الأوسط، وذلك من المترقب رفضهم – أى الجانب الإسرائيلى- الجلوس على مائدة المفاوضات الوشيكة بعد توحيد الجبهة الفلسطينية؛ أي أن إسرائيل كانت تفضل الجلوس مع فتح منعزلة؛ لبيان حال منظمة التحرير الفلسطينية، والرئيس محمود عباس القائم على التفاوض ونبذ العنف؛ مما قد يؤزم الموقف لاحقاً بعد انضمام حركة “حماس”، وباقى الفصائل الفلسطينية في الحوار، وجلوسهم على طاولة المفاوضات مما يهدد عملية السلام.
(4)
ومع ذلك فقد جدد الرئيس الأمريكي باراك أوباما التزام الولايات المتحدة الامريكية بجهود السلام في الشرق الأوسط في ظل تعثر المباحثات، وكانت هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأمريكية، قد طلبت من ديفيد هال نائب مبعوث السلام للشرق الأوسط، تولي المهمة بالإنابة مؤقتاً.. مؤكدة ثقتها في قدرة هال على مواصلة إحراز التقدم في هذا الجهد المهم.
ومن الجانب الآخر، رحبت الرئاسة الفلسطينية بإعلان الإدراة الأمريكية التزامها بدفع عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وقال نبيل أبو ردينة المتحدث باسم الرئاسة الفلسطينية : نرحب بأي مبعوث أمريكي رسمي يتحدث باسم الإدارة الأمريكية؛ ما دامت ملتزمة بدفع عملية السلام إلى الأمام”.. وحث الرئيس أوباما على إعطاء دفعة جديدة لعملية السلام قبيل شهر سبتمبر المقبل. قائلا إنه يرحب بأي مبعوث رسمي أمريكي؛ مادامت الولايات المتحدة لا تزال ملتزمة بالمضي قدما في عملية السلام.. ومن جانب ثان، قال الرئيس الفلسطيني محمود عباس – في مقابلة صحفية – إنه قد يتنحى هذا العام إذا تحققت كل أهدافه السياسية، وبينها إقامة دولة فلسطينية، لذا فمن غير المجدى الحديث عن أى مبعوث للسلام للقضية الفسطينية لكن المهم هو قيامها.
(5)
وعلى صعيد آخر، ألمحت وسائل إعلام أمريكية إلي أن التدخل الذى كان يقوم به “دينيس روس” أحد أعضاء فريق عملية السلام في الشرق الأوسط، والذي يتولى حاليا موقع نائب الرئيس أوباما في ملف عملية السلام والشأن الفلسطينى – الإسرائيلى كان تدخلا مباشرًا ومؤيدًا للسياسة الإسرائيلية في المنطقة، مما دفع ميتشل للاستقالة، خاصة أن الأول زار المنطقة بشكل متواتر على مدار عدة أشهر مضت ، وأجرى لقاءات متنوعة مع أفراد من الحكومة الإسرئيلية، وعلى رأس وفد كبير من المختصين بالأمن، وأركان الحكومة الإسرائيلية لبحث ترتيبات أمنية تسمح بإعادة استئناف المفاوضات؛ وهو ما دفع كثير من المراقبين للتساؤل عن المسئول الفعلي عن الملف، لاسيما وميتشل لم يقم بزيارة منطقة الشرق الأوسط منذ عدة أشهر؛ قام خلالها روس بتحركات فعلية وزيارات حية للطرف الإسرائيلي؛ مما يدعو للسؤال حول: من صاحب الملف من الطرفين؟
(6)
لكن فيما يبدو جلياً أن فكرة استقالة جورج ميتشل في هذا الوقت تحديدًا، جاءت نتيجة أو رد فعل للعديد من المناقشات والمساجلات المشحونة داخل أروقة الإدارة الأمريكية، وحتي الآن لم يتضح أن لديها مشروعًا أو مقترحًا لاستئناف المفاوضات أو طرح رؤي جديدة توضح موقف الإدارة الأمريكية من عملية السلام، خاصة في ظل حالة الاضطراب السياسي الذي تشهده المنطقة العربية.