حينما أعلن رولان بارت عن موت المؤلف وبداية عصر القارئ، لم يكن يقصد ذلك القارئ الذي يمسك بالكتاب للتسلية وقضاء أوقات الفراغ، بل كان معنيًا بذلك القارئ الخاص الذي يحاول تكوين رؤية خاصة تجاه النص، ويتلقى النص وهو في حالة دهشة ناتجة عن توحده بالنص. وكما قسمنا أنواع القراء يمكن أيضًا تصنيف النصوص، فهناك نص صريح، مباشر يسلم نفسه للقارئ بلا مجاهدة فهو نص ذو بعد واحد، وقد يكون محدود القيمة، وهناك نص غير صريح، نص موحٍ، وهو النص الذي تختفي خلف مفرداته وصيغه دلالات أخرى كثيرة يستشفها القارئ من النص ذاته.
ويكتفي المؤلف بأن يعطي للقارئ مفاتيحًا تسهل له الولوج إلى داخل النص الفسيح. وفي هذه الحالة يصبح النص، أيضًا كما يقول رولان بارت، “يتكلم وفقًا لرغبات القارئ”. وهذا النص الإيحائي هو الذي يحدد نوعية قارئه. وفي رأيي أن هذه المجموعة (الرحيل عن مدن الهزائم) من القصص القصيرة للكاتب خالد محمد غازي من النصوص التي يمكن اعتبارها نصوصًا إيحائية تصلح لقراءة خاصة وصعبة كتلك القراءة التي أسماها تودوروف بالقراءة الشاعرية تمييزًا لها عن القراءة الإسقاطية أو قراءة الشرح.
إن محاولة العثور على مفاتيح قصص “الرحيل عن مدن الهزائم” لن تكون سهلة وتحتاج لقراءات عديدة، فالقراءة الواحدة السريعة لا تكفي لسبر أغوار النص. وقد وجدت بعد أكثر من قراءة أن المدخل البنيوي هو المدخل الطبيعي لدراسة هذه المجموعة. لكن المنهج هنا لن يكون بنيويًا بالمعنى الضخم لهذه الكلمة، بل سأكتفي فيه بالاستعانة ببعض خطوط المنهج البنيوي، وذلك وفقًا للخطوات التالية: إحصاء بعض المفردات التي تمثل أفعالًا محركة لبنية النص، دراسة هذه المفردات كل على حدة، الكشف عن القيمة الأساسية ثم الموتيفات المتفرعة عنها على مستوى المجموعة ككل وليس بالنسبة لكل قصة على حدة، الانتهاء إلى تقديم البنية الرئيسية للمجموعة القصصية التي تتشابك فيها تيمات وموتيفات هذا التكوين القصصي. محاولات التبلور الأولي والإطلالة على نهايات القصص التي تضمها المجموعة تبين لنا أنها كتبت خلال خمس سنوات (من 1985 وحتى 1989) وهذا معناه:
أولًا، أن هذه المجموعة تمثل مرحلة واحدة من مراحل التطور الفني لمؤلفها، وهي ما يمكن تسميتها بمرحلة التكوين، حيث محاولات التبلور الأولي التي تنبئ بمراحل تالية أكثر نضجًا وتوفيقًا لعله يتخلص فيها من بعض العيوب الفنية في بعض قصصه، كأن يفصل في بعض المواضع التي يجب فيها التركيز مما يصيب القصة بشيء من الترهل كما في قصة “ضحى”، أو يوجز في وقت يتطلب فيه السياق بعض التفصيل مما يصيب القصة بالابتسار كما في قصة “ما حدث في المقابر”.
وثانيًا، أن الكاتب يمثل جيله وعصره، حيث تشيع في أدبه تيمات الحزن والفقد والخوف والموت والرحيل، كما ينشد الحل في الحلم بحب مستحيل أو اللجوء لطفولة بكر نقية. وهذا ما سنراه في الحديث عن مفاتيح المجموعة. إن القراءة المتأنية لهذه المجموعة تكشف لنا أن تيمات معينة قد شاعت فيها وكما بينا من قبل، فإنها تكاد تكون سمة لجيل الكاتب بأكمله مع الاحتفاظ بخصوصيات تجربة كل كاتب، وأيضًا مع الاحتفاظ بخصوصيات التشكيل الصياغي والتكوين اللغوي. وأهم التيمات الواردة بمجموعة “الرحيل عن مدن الهزائم” هي الحزن، الوحدة، الانتظار، الموت، الليل، الخوف، الهزيمة وغيرها.
فيما يلي جدول توضيحي يبين عدد المرات التي وردت فيها المفردة في كل قصة على حدة، وعددها الإجمالي في كل قصص المجموعة، وذلك للوقوف على موقع المفردة أو التيمة من خريطة التيمات ككل في نظرة شمولية. هناك مفردات – بمشتقاتها – تكررت في كل القصص كتيمة أساسية، لعل أبرز هذه المفردات وضوحًا: الحزن، الرحيل، الوحدة، الانتظار، الحلم. مفردة كالحزن تكررت في قصة ‘العزف على إيقاع الحزن’ 71 مرة ومفردة كالرحيل تكررت في قصة ‘الليل والحلم’ 8 مرات، ومفردة كالحلم تكررت في قصة ‘في انتظار الغائب’ 81 مرة. تيمة الحزن، لقد قمت بعملية إحصاء للمفردات الواردة في قصص المجموعة وإلى كثرة دورانها، بما يشي بأهمية الموضوع الذي تدور حوله هذه المفردات. وفي إحصائنا للعائلة اللغوية الواحدة، قمنا بإحصاء للجذر اللغوي، بمعنى أننا عندما نحصي مفردة ما، فإنما نحصي كافة اشتقاقاتها في كل الجذور اللغوية التابعة لها، ونسوق لذلك مثالًا توضيحيًا. فمثلًا عندما نحصي مفردة ‘الحزن’ سنقوم بإحصاء كافة صيغها الاسمية والفعلية مثل ‘الحزن، حزين، يحزن، المحزون’، ثم إحصاء مرادفات هذه المفردة بكافة صيغها مثل ‘الهم، الكرب’، ثم المفردات ذات العلاقة بالحزن مثل ‘الدموع، العويل، البكاء، البؤس، اليأس’ إلخ. ووفقًا لذلك، فإن الحزن كمفردة قد وردت في 20 قصة من بين 32 قصة ضمتها المجموعة، وقد بلغ عدد مرات تكرار المفردة في القصص 211 مرة.
صور متعددة
والحزن في قصص “خالد غازي” يأخذ أكثر من صورة مثل الكآبة، المرارة، الألم، ولكن كيف يعيش الكاتب هذه المشاعر؟ إن الكاتب (من خلال أبطاله) دائمًا حزين، فهو يعيش الحزن فيما حوله ويراه فيمن يحيطون به، وهو حزين لافتقاده صديقًا أو لفشله في الحب أو لأي سبب آخر. والحزن في هذه المجموعة ليس حزنًا عارضًا ولا طارئًا، بل هو حزن مكين وعميق. فالأبطال ماضيهم حزين، وذكرياتهم عنه حزينة، وأيضًا حاضرهم حزين. لكن كيف يمكن الخروج من هذه الحالة؟ الحل الذي تطرحه قصص المجموعة للخروج من دائرة الحزن هو الحلم. فليس هناك حلاً آخر سوى أن ينسحب الإنسان (في القصة) من الحاضر المحزن إلى ذاته ليستغرق في الحلم. وتتكرر في المجموعة تيمات أخرى، وإن كانت أقل شيوعًا من الحزن، مثل تيمة السفر، والوداع، والرحيل، وتتكرر في 21 قصة، أي نصف عدد قصص المجموعة تقريبًا، وتتكرر بمعدل 32 مرة. ومن الطبيعي أن يرتبط الرحيل بالحزن، فقد يكون سببًا له أو ناتجًا عنه. والرحيل قد يكون إغترابًا في المكان، كما أن الحزن هو نوع آخر من الاغتراب. ومن التيمات الأخرى والتي لا يمكن ذكرها هنا بسبب الإطالة، تشمل الإنتظار، والعزلة، والوحدة، والهزيمة، والخوف. ونجد أنها جميعًا تكمل التيمة الأساسية في المجموعة، وهي تيمة الحزن.
وكما ذكرنا، يهرب الكاتب في قصص “خالد غازي” من الحزن إلى الحلم، والحلم هو موضوع رئيسي يمتد عبر كل الثلاث والعشرين قصة سواءً بصورة صريحة أو ضمنية. دائمًا يحلم الكاتب وغالبًا ما يتم تحقيق الحلم. وقد تمثل الليل قرينًا للحلم في القصة الأولى بعنوان “الليل والحلم”. وعندما يتعامل الكاتب مع موضوع الحلم، يظهره كتفصيل آخر لشخصياته، وهؤلاء الأبطال يهربون من واقع مؤلم يتسم بالظلم ونقص الأمان وصعوبة التكيف مع المجتمع إلى عالم الأحلام. يُعبِّر الحلم أيضًا عن اتصال الماضي والحاضر، وكليهما يتوقعان مستقبلًا أفضل. يُظهر الكاتب أيضًا في قصصه أن الحلم يمكن أن يكون عالمًا مثاليًا للحب والقيم والحرية.
في قصة “انتظار” يُقرأ: “أنا فقير يا سيدي لكنني أملك الحلم. ترى من وهبه لي وأنا الفقير المعذب المشرد”. وفي قصة “ضحي”: ينادي الحبيبة قائلًا: “يا أملاً، أنتظر مجيئه. يا حلمًا قد أموت، لكنه بداخلي ينبض بالحياة”.
الكاتب في قصص المجموعة لا يهرب فقط من الواقع المؤلم إلى الحلم، بل أيضًا يجد في الحلم راحته ويجعله رمزًا يعبر به عن واقع طاغٍ. في قصة “الرحيل إلى أميرة” يقول: “حلمت بك البارحة حلمًا غريبًا. في الحلم حدث صدام بين قطارين واشتعل الحريق بينهما”. وهكذا يُكمل الكاتب تصوير الواقع في الحلم حيث الصدام والقطارات والاشتعال.
مفردات وإشارات
من خلال قراءة مجموعة “الرحيل عن مدن الهزائم” يمكن استخلاص بعض المفردات التي تم الإشارة إليها مسبقًا، ويمكن تحديد التيمات (الموضوعات الرئيسية) والموتيفات (الموضوعات الفرعية) التي تشكل شبكة العلاقات الموضوعية في المجموعة ..
الموضوعات الرئيسية:
-الحزن يعكس الحزن الذي يترسب في نفس القاص منذ البداية ويزداد مع تجاربه الحياتية.
-الحلم ينشأ نتيجة التراكمات النفسية الكثيرة التي تجعل البطل محبطًا مما يجبره على اللجوء إلى الحلم.
-الهزيمة تظهر نتيجة الإحباطات المتتالية التي يتعرض لها البطل في حياته.
-الرحيل كما يشير عنوان المجموعة “عن مدن الهزائم” يبحث البطل عن حلم جديد في مدن أخرى.
الموضوعات الفرعية:
-الفجر يرمز إلى الميلاد وتحقيق الأحلام.
-الحب يحلم به الكاتب ولكنه لا يتحقق في المجموعة سواء على المستوى الواقعي أو المستوى المجازي ويبقى مجرد حلم أو أمل يتمناه.
-الخوف والحيرة والقلق هذه المشاعر الطبيعية تنعكس في القصص وتزداد تدريجيًا حتى تصبح عوامل تحول دون تحقيق الحلم.
أحمد رجب شلتوت
جريدة ” الأيام ” – البحرين