كتابة السير الذاتية اوالمذكرات السياسية الخاصة، تعتبر فكرة جيدة من حيث مبدأها فحسب.. و الصدق والجودة التى تتطلبهما تلك النوعية من الكتابات، ترجع لكيفية رؤية هؤلاء الاشخاص لدورهم السياسى الذين مارسوه.. فهل يرونها باعتبارها اعترافاتهم بأخطاء حقيقية فتظهر بشكل الاعتذار، أم أنها تبرير لما اقترفوه من أخطاء تصل فى أحيان كثيرة إلى حد الجرائم؟
(1)
يتبنى العديد من رجال السياسة حول العالم فكرة كتابة مذاكراتهم الخاصة التى تتبني وجهة نظرهم عند شعورهم بالاكتفاء من ممارسة العمل السياسى او الاحالة الى التقاعد ، ويتناولون فيها الحديث عن اهم الملامح الرئيسية او المحركات الثابتة التى سيطرت على فترة معينة أو أحداث معينة، ويصفها البعض فى أغلب الاحوال بالفضائح السياسية حيث لا يكترث أصحابها بذكر المساوئ التى يتحلى بها زعماء تلك الفترة فضلاً عن أخطائهم التى ارتكبوها إبان حكمهم أو توليهم المناصب القيادية، وقد لا يكون هذا النوع وحده بل هناك الكثير من السياسيين من فضلوا كتابة تلك المذكرات ونشرها لكن بعد وفاتهم حتى لا تقع عليهم أية مسئوليات أوالتأثير على الرأى العام بمجري المعطيات السياسية فى بلدهم مما قد يعرضهم الى المساءلة تحت طائلة القانون.
(2)
كتابة السير الذاتية جنس أدبي غربي، بدأ تحديدا مع القديس “سانت أوغسطين” الذي تحدث فيها عن تأثير الدين في حياته الخاصة، ثم تبلورت وأخذت فى التطوير كفن أدبي قائم بذاته مع “جان جاك روسو”، الذي يعتبر أهم من كتب السيرة الذاتية عبر كتابه الشهير “اعترافات”، وقد استهله بجملة صارخة قال فيها: “أنا أفعل شيئا لم يفعله شخص قبلي ولن يقدر شخص بعدي على تقليده”، بعد أن ظلت “السيرة الذاتية” حكرا على الأدباء والفلاسفة تلقفها بعد ذلك السياسيون والملوك والرؤساء. وبعض تلك المذكرات يمثل نوعا من الابتراز الذاتى ومحاولة لدفع التهم عن أصحابها، اذ إنهم صمتوا عن الكثير من الحقائق التى كانوا يعلموها، فلم لم تصبغ سوى هالة من الفخر والنرجسية لا تمت إلى واقعهم بصلة من قريب، أى انها قد تسير ضد التيار، الذى من أجله كانت تاللك المذكرات مهمة وضرورية، فجميع الذين كتبوا مذكراتهم نطبق عليهم هذا الرأى ؛ قهم يسعون الى تحسين صورتهم واضفاء صورة أخرى لهم، حتى يستطع المتابع لها أان يقرأ سيرة ذاتية لأحد المصلحين أو القديسين الذين جاءوا الى الارض وبرحيله او وفاتهم قد رفعت تلك الرحمة من الارض ، ويظهر ذلك جليا من ناحية الأسلوب، فتبدو المذكرات فى بعض الاحيان أقرب إلى الحكايات التي يرويها العجائز الى صغارهم وهم يجتمعون حول مدافئ الشتاء اذ تمثل حكايا عن أبطال أسطوريين وخرافات تعود بسامعيها الى زمن سقراط الحكيم وزمن “سبارتاكوس”.
(3)
تظل كتب السيرة الشخصية الخاصة بالسياسيين مثار جدل واهتمام، حيث إنها تتناول شهادة حية تحص راويها مختلف الاحداث والقضايا التى عايشها، وكذا موقف الادارة الخاصة بالحكم التابعة لها وكشف بعض الأسرار والخفايا التي لم يتسن الكشف عنها في حينها، وهو ما حدث مع كتاب “في زمني” الذي يتناول السيرة الذاتية لنائب الرئيس الأمريكي الاسبق “ديك تشيني”، وفي رد فعل لذلك ، قال وزير الخارجية الأمريكي الأسبق “كولن باول” إن كتاب تشيني اعتمد على توجيه “ضربات رخيصة” لزملائه وقدم تفسيرات غير صادقة للأحداث.. مضيفاً بأن فريق الأمن القومي للرئيس الأمريكي السابق جورج بوش لم يكن يعمل بسلاسة وأنه نصح بوش بالعمل على حل المشكلة.. وقال فى حديث متلفز: كانت لدينا وجهات نظر مختلفة ولم يكن من الممكن التوفيق بين وجهات النظر.
وسُئِل ” باول ” عن فقرات في الكتاب تنتقد مسئولي ادارة السابقة، فقال: “إنها ضربات رخيصة” كما رفض باول توقعات تشيني بأن الكتاب سيحدث ضجة حول الكثيرين في واشنطن، وقال باول: “رأسي لم تنفجر ولم ألحظ انفجار أي رءوس في واشنطن،” وفند باول رواية جاءت في الكتاب أشار فيها تشيني بأن وزير الخارجية الأسبق ازيح من منصبه في نهاية ولاية بوش الأولى.. وقال: “أنا والرئيس بوش كنا دوما متفقين على أنني سأترك منصبي في نهاية 2004 لقد كنت انوي دوما ان اخدم لفترة واحدة”. وجاء في الكتاب الذي نشرته صحيفة الـ”نيويورك تايمز” الامريكية، مقتطفات منه أن “ديك تشيني” أعلن موقفه هذا في شأن سوريا في اجتماع لبوش مع كبار مستشاريه في يونيو2007 مضيفاً: “بعد أن انتهيت سأل الرئيس: هل يوافق أحد هنا رأي نائب الرئيس؟.. وحينها لم ترفع يد واحدة في الغرفة”، وقال إن مستشاري بوش تحفظوا على خطته خشية أن تكون قد اعتمدت على معلومات استخباراتية خاطئة على غرار تلك المتعلقة بـ” مخزون أسلحة الدمار الشامل العراقية”. كما ذكرت الصحيفة أن “تشيني” انتقد أيضا وزيرة الخارجية السابقة “كونداليزا رايس” وسلفها “كولن باول”؛ فقد اتهم رايس بالسذاجة لانها كانت تسعى للتوصل إلى اتفاق في شأن البرنامج النووي لكوريا الشمالية.. معرباً أيضا عن اعتقاده بأن باول كان يقلل من شأن إدارة بوش بانتقاد سياساته خارج نطاق الاجتماعات المغلقة للحكومة.
(4)
ويرفض مؤرخون القبول بأن المذكرات تاريخاً حقيقياً؛ حيث إنها فى معظم الاحوال تفتقد الى الدقة والمرونة والحياد فى كثير من فصولها، ولا تقف على مراجع موثقة، فتعكس وجهات نظر شخصية.ويرى البروفيسور “لويس” بجامعة إلينوي بالولايات المتحدة الأمريكية؛ تعليقاً على مذكرات “ديك تشينى” إن المذكرات والسير الذاتية للسياسيين من الضرورى ألا تكون خيار من يبحث عن مادة للقراءة، لأنها تتضمّن معلومات غير موثقة وآراء مسبقة وتمثل وجهة نظر محددة. ويرى “إيفان كورنوج” أستاذ الإعلام في جامعة كولومبيا، أن سرد القصص الذاتية للسياسيين من المهام الأساسية الذى ينبغى ان يراعيها المسئولون فى الحكومات المختلفة، باعتبارها نقطة أساسية ومهمة ؛ ان مفتاح السرد الناجح لا يتمثل في عامل الصدق فقط، ولكن المهم أيضاً أن تكون القصص المحكية تحمل بعض المنطق.
ويقول “روبرت كارو” كاتب السير الذاتية الحائز على جائزة “بوليتزر”، والذي كتب سيرة حياة “ليندون جونسون”، انه يرى أن عيب الكتب الخاصة بالمذكرات بشكل عام يتمثل في “انها جافة وينقصها التوازن الأدبي”. وفيما يتعلق بالدوافع الكامنة وراء كتابة المذكرات، يرى “روبيرت ماكروم” الكاتب في صحيفة “الأوبزيرفر” البريطانية، أن هناك أسباباً عدة تدفع السياسيين لكتابة مذكراتهم، منها المال أو الغرور أو لتحقيق مصالح ذاتية. لتبقي المذكرات الشخصية للسياسيبن جنسًا أدبيًا غربيًا، تعددت أسبابه، ولكن الهدف واحد.ازي
خالد محمد غازي