د. خالد غازي
مصطلح “العولمة” يعتبر واحداً من أحدث المفردات شيوعاً في سائر أرجاء العالم خلال السنوات القليلة الماضية، لارتباط مدلول هذا المصطلح بشتى أمور الحياة الإنسانية.. وكانت أول صياغة لهذه الكلمة باللغة الانجليزية عام 1961 عندما ظهرت في أحد المعاجم اللغوية، ثم سرعان ما انتشرت وتم تداولها وشقت طريقها لتكون مفردة متداولة. ويعرف بعض المفكرين “العولمة” بأنها عملية التقارب والتواصل والاتصال والانفتاح بكل مستوياته وجوانبه على مستوى العالم، والاعتماد المتبادل بين الشعوب والذي يشكل خصائص الحياة المعاصرة بين البشر في تفاعلاتهم ومعاملاتهم.. وكأن لا حدود؛ ولا فواصل؛ ولا مسافات فيما بينهم؛ لكن المؤكد أن هذه الأفكار ليست بجديدة، فقد سبقتها أفكار ونظريات كثيرة تتشابه معها.. وليس أدل على ذلك من خروج الإنسان العربي من عزلة الصحاري إلى رحاب الأمم مشفوعاً بالقوة الروحية للإسلام التي كانت دعوة للعالم.. ولم يتأخر الناس في جميع أرجاء المعمورة عن الاستجابة لهذه الدعوة الداعية إلى حضارة تمتلك عناصر نجاحها وقوتها.. وكانت الدعوة فكرة ذات قوة هائلة استوعبت ما قبلها، واحتضنت عقول وقلوب الناس وآمالهم، وأنتجت قوة اجتماعية متماسكة وقوة عسكرية ضخمة مؤمنة بأهدافها؛ ولم تكن الرسالة رسالة عربية بل كانت رسالة إلى كل الأمم.
إن جوهر العولمة أو الأممية أو الكوكبية – وهي مصطلحات ومعان مترادفة – هو ازدياد الترابط والاعتماد المتبادل بين أرجاء المعمورة، قفزاً على الحدود وأوضاع الحياة؛ وقد تحقق ذلك من خلال الثورة العلمية التكنولوجية الحديثة وأنشطة الشركات والمؤسسات العملاقة ذات النشاط الدولي؛ والتقدم الهائل في نقل المعلومات والاتصالات؛ وهذا الانفتاح تمثل في سهولة حركة الناس والمعلومات والسلع بين الدول على نطاق دولي، والمواد والنشاطات التي تنتشر عبر الحدود يمكن – كما يقرر روزناو – تقسيمها إلى فئات ست: بضائع وخدمات، أفكار، معلومات، نقود، مؤسسات، أشكال من السلوك والتطبيقات.. في ضوء ذلك كله يمكن إثارة سؤال رئيسي: كيف تحدث العولمة؟ وبعبارة أخرى: بأي الطرق أو من خلال أي قنوات يتم انتشار السلع والخدمات والأفراد والأفكار والمعلومات والنقود والرموز والاتجاهات وأشكال السلوك عبر الحدود؟
في رأي “روزناو” تتم عملية الانتشار من خلال أربعة طرق متداخلة ومترابطة:
– التفاعل الحواري ثنائي الاتجاه عن طريق تكنولوجيا الاتصال.
– الاتصال المونولوجي أحادي الاتجاه من خلال الطبقة المتوسطة.
– المنافسة والمحاكاة.
– تماثل المؤسسات.
غير أن ذلك لا يعني أن عملية العولمة تسير على النطاق القومي بغير مقاومة؛ فهناك صراع مستمر بين العولمة والمحلية. فالعولمة تقلل من أهمية الحدود، بينما تؤكد المحلية على الخطوط الفاصلة بين الحدود؛ والعولمة تعني توسيع الحدود، في حين أن المحلية تعني تعميق الحدود. وفي المجال الثقافي والاجتماعي العولمة تعني “انتقالاً للأفكار والمبادئ وغيرها”، بينما المحلية قد تميل إلى منع انتقال الأفكار والمبادئ. ويرى المفكر السيد ياسين (جريدة الأهرام 15/1/1998) أنه إذا حاولنا أن نتتبع النشأة الأولي للعولمة يمكننا أن نعتمد على النموذج الذي صاغه رولاند روبرتسون في دراسته المهمة “تخطيط الوضع الكوكبي: العولمة باعتبارها المفهوم الرئيسي” والتي حاول فيها أن يرصد المراحل المتتابعة لتطور العولمة وامتدادها عبر المكان والزمان.
ونقطة البداية عند روبرتسون هي ظهور الدولة القومية الموحدة على أساس أن هذه النشأة تسجل نقطة تاريخية فاصلة في تاريخ المجتمعات المعاصرة؛ ذلك أن ظهور المجتمع القومي منذ حوالي منتصف القرن الثامن عشر يمثل بنية تاريخية فريدة؛ حيث فكرة الدولة القومية المتجانسة، والتجانس هنا بمعنى التجانس الثقافي، تمثل تشكيلات لنمط محدد من الحياة.
ويمكن القول إن شيوع المجتمعات القومية في القرن العشرين هو فعل من أفعال العولمة. بمعنى أن إذاعة ونشر الفكرة الخاصة بالمجتمع القومي كصورة من صور الاجتماع المؤسسة، كان جوهرياً بالنسبة لتعجيل العولمة التي ظهرت منذ قرن من الزمان.. وهناك مكونان آخران للعولمة وهما – بالإضافة إلى المجتمعات القومية؛ مفاهيم “الأفراد” و”الإنسانية”.
وبناء على هذه الاعتبارات صاغ روبرتسون نموذجه من خلال تعقب البعد الزمني التاريخي الذي أوصلنا إلى الوضع الراهن، والذي يتسم بدرجة عالية من الكثافة الكونية والتعقيد؛ وينقسم النموذج إلى خمس مراحل:
المرحلة الأولى: المرحلة الجنينية.. وقد استمرت في أوروبا منذ بداية القرن الخامس عشر حتى منتصف القرن الثامن عشر؛ هذه المرحلة شهدت نمواً للمجتمعات القومية، وإضعافاً للقيود التي كانت سائدة في القرون الوسطى، كما تعمقت الأفكار الخاصة بالفرد وبالإنسانية وسادت نظريات جديدة عن العالم؛ وبدأت الجغرافيا الحديثة وذاع التقويم الغريغوري.
المرحلة الثانية: مرحلة النشوء.. وقد استمرت في أوروبا أساساً من منتصف القرن الثامن عشر حتى عام 1870 وما بعده؛ فقد حدث تحول حاد في فكرة الدولة المتجانسة الموحدة، وأخذت تتبلور المفاهيم الخاصة بالعلاقات الدولية، وبالأفراد باعتبارهم مواطنين لهم أوضاع مقننة في الدولة، ونشأ مفهوم أكثر تحديداً للإنسانية، وزادت إلى حد كبير الاتفاقات الدولية، ونشأت المؤسسات الخاصة بتنظيم العلاقات والاتصالات بين الدول، وبدأت مشكلة قبول المجتمعات غير الأوروبية في “المجتمع الدولي” وبدأ الاهتمام بموضوع القومية والعالمية.
المرحلة الثالثة: مرحلة الانطلاق.. وقد استمرت من عام 1870 وما بعده حتى العشرينات من القرن العشرين، وظهرت مفاهيم عالمية مثل “خط التطور الصحيح”، والمجتمع القومي “المقبول” وظهرت مفاهيم تتعلق بالهويات القومية والفردية، وتم إدماج عدد من المجتمعات غير الأوروبية في “المجتمع الدولي”، وبدأت عملية الصياغة الدولية للأفكار الخاصة بالإنسانية ومحاولة تطبيقها، وحدث تطور هائل في عدد وسرعة الأشكال الدولية للاتصال والتواصل؛ وتمت المنافسات العالمية على مختلف الأصعدة والنشاطات الانسانية مثل الألعاب الأولمبية وجوائز نوبل والجوائز العالمية.. وغيرها، وتم تطبيق فكرة الزمن العالمي، والتبني شبه الكوكبي للتقويم الغريغوري – وهو التقويم الميلادي، وينسب إلى البابا غريغوريوس الثالث عشر، الذي اعتمدها في 24 شباط/فبراير 1582 – ونشأت في هذه المرحلة عصبة الأمم وقامت الحرب العالمية الأولى.
المرحلة الرابعة: الصراع من أجل الهيمنة.. واستمرت هذه المرحلة من عشرينات القرن العشرين حتى منتصف الستينات، وبدأت الخلافات والحروب الفكرية حول المصطلحات الناشئة الخاصة بعملية العولمة والتي بدأت في مرحلة الانطلاق، ونشأت صراعات عالمية حول صور الحياة وأشكالها المختلفة وقد تم التركيز على الموضوعات الإنسانية بحكم حوادث الهولوكوست وإلقاء القنبلة الذرية على اليابان وبروز دور الأمم المتحدة.
المرحلة الخامسة: مرحلة عدم اليقين.. والتي بدأت منذ الستينات وأدت إلى اتجاهات وأزمات في التسعينات، وقد تم إدماج العالم الثالث في المجتمع العالمي وتصاعد الوعي الدولي في الستينات، وحدث هبوط على القمر وتعمقت قيم ما بعد المادية، وشهدت هذه المرحلة نهاية الحرب الباردة، وشيوع الأسلحة الذرية، وزادت إلى حد كبير المؤسسات والحركات العالمية. وتواجه المجتمعات الإنسانية اليوم مشكلة تعدد الثقافات وتعدد السلالات داخل المجتمع نفسه.. وأصبحت المفاهيم الخاصة بالأفراد أكثر تعقيداً من خلال الاعتبارات الخاصة بالجنس واللون والسلالة، وظهرت حركة الحقوق المدنية، وأصبح النظام الدولي أكثر سيولة وانتهى النظام الثنائي القومية، وزاد الاهتمام في هذه المرحلة بالمجتمع المدني العالمي والمواطنية العالمية، وتدعيم نظام الإعلام الكوني.
ويختلف كثير من المنظرين والنقاد في تفسيرهم لجذور “العولمة” التي أضحت هي بشرى الأمس وحديث اليوم وهاجس الغد، فمن يجعل التطورات التكنولوجية، وخاصة في ثورة المعلومات في الحقبة الأخيرة من القرن العشرين؛ ونتائج هذه الثورة على صعيد الإنتاج والإعلام والخدمات وثورة الاتصالات الكوكبية هي الجذر الضروري الممهد لحقبة العولمة، ومن يرى في الشركات الاقتصادية العملاقة التي كانت متعددة الجنسيات التي كان أول ظهور لها في بدايات الخمسينات؛ وأصبحت هي القوة الاقتصادية التي لا تنازع في عالم اليوم وما ترتب على قرارات المنظمات الاقتصادية الدولية كالجات وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وآخرون يرون البدايات في الشكل السياسي للمنظمات الدولية، كالأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية وما تبعها من مؤتمرات وعقود دولية خاصة في السنوات الأخيرة كمؤتمرات السكان والتنمية والبيئة والمرأة والعمل، هو البذرة الأولى لهذا النظام.. كذلك التحالف الدولي لتحرير الكويت من الاحتلال العراقي والذي ضم 33 دولة بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، هي بدايات إرهاصات هذا الشكل الجديد؛ خاصة إعلان الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش قيام النظام العالمي الجديد بعد تحرير الكويت.