سيرة مدينة •• القدس

 

عبد الستار ناصر

ربما بسبب حجم انتفاضة الأقصى، التي كانت الحدث الأساسي والخبر الأول عبر فضائيات العالم على مدى سنة- وتزيد- قرر الكاتب العربي المصري “خالد محمد غازي” إعادة طبع كتابه”القدس سيرة مدينة” وهو من الكتب التي اعتمدت على دراسة تضمّنت قصة مدينة القدس والرجوع بميلادها إلى ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد، منذ شيّدتها إحدى القبائل الكنعانية ، مع طوبوغرافية شاملة تحكي عن جبال (القدس) وأسوارها القديمة وصخورها وينابيعها المقدسة، عن مساحتها الحقيقية وامتدادها ومستوى الصناعة والزراعة على أرضها ، ويحكي كتابنا هذا عن الحرم والهيكل ومستوى التزوير الذي حلً باحتلال الصهاينة أرض الأجداد• كما احتوى الكتاب على شهادات مهمة لقداسة البابا شنوده الثالث والدكاترة محمد عمارة وعبد الوهاب المسيري ومحمد سيد طنطاوي وصالح حسن المسلوت ، وشارك في هندسة أفكاره أدوارد سعيد الذي قدم بحثاً عن مؤامرات التهديد وموقف القانون الدولي ، بينما يكتب المفكر فهمي هويدي ما يشبه الرثاء لحقبة من الزمن الرديء ، قاطعاً إياها إلى نصفين (ما قبل الغرق) وما بعده! تدور أكثر مقالات السادة (مفيد شهاب وعبد اللّه الأشعل والشيخ عكرمة صبري) حول ما إذا كانت إسرائيل- اليوم- قادرة على التنازل – غداً – عن القدس ، وبخاصة أمام هجمة التطورات الفكرية والاقتصادية ، وماذا ستفعل الأجيال (العربية) التي لحقها الكثير من الجوع والتشرد والنكران؟ ونرى بعد حصيلة الشهادات ما يشبه الهروب من حلً حازم بشأن المستقبل ، ذلك أن السياسات العالمية- والعربية منها بخاصة- صارت تبدّل جلودها بحسب المصالح مرة وبسبب الخوف من الحرب التي إذا اندلعت (هذه المرة) فهي ستأخذ في طريقها اليابس والأخضر ، وربما ستقطع الجذور وتقلب الخرائط عن مكانها القديم• يقول الكاتب والمفكرالفلسطيني أحمد صدقي الدجاني على الصفحة 257 إن حاجتنا ماسة نحن العرب وفي هذه الأيام لقراءة صحيحة لتأريخ القدس كي نحسن التعامل مع ملف القضية•• ويشاركه محمد سيد أحمد بقوله: إن ياسر عرفات اقترح أن تكون القدس عاصمة لدولة فلسطين وإسرائيل مستقبلاً ، فهي مثل (الفاتيكان) تنطوي على أبعاد روحية إنسانية وهي جسر بين السماء والأرض (ص251)• ولاتبتعد بقية الشهادات عن أسئلة المستقبل ، لكنها تبتعد عن بعضها بنسة ما يملك هذا أو ذلك من أفكار وآراء واجتهادات تأريخية قانونية غير منسوخة عما قرأنا وكتبنا منذ عام 1948 وحتى يومنا هذا • إن الطريق نحو السلام لايمرّ إلاّ عن طريق القدس، وهذه الحقيقة صارت نبراساً لايمكن الاختلاف عليه، ويصل الحال مع السفير سعيد كمال وهو رئيس إدارة فلسطين بالجامعة العربية أن يؤكد على إسرائيل بأنها لاتملك أي حقوق تاريخية ولاسياسية ولاجغرافية في القدس وإن كل ما تفعله من تسويق وتدليس أوضرب للثوابت أو إلحاق الضرر بأرض فلسطين ، إنما هي مراوغات مهما طالت أو كيفما تشعّبت ستبقى محض ” مراوغات” سياسية تنتهي حرارتها أمام حرارة الحقائق التي ستأتي حتماً مهما تأخر الوقت • سيرة مدينة القدس ، من الكتب التي يحتاجها الجيل العربي الطالع ، الذي استشهد له أخ أو أب أو صديق أو قريب في كل بيت فلسطيني تحت هيمنة الأخطاء والجرائم التي ترتكب يومياً بحق هذا الشعب الشجاع العنيد، إنه (نداء ) يشبه إهداء المؤلف الذي جاء فيه:” سيأتيك الحرف وما فيه ، وسيأتيك منه أسمى ما بقى من الإنسان ذكرى وتأريخ ، وسيأتيك منه العلم، وفي العلم عهودك ووصاياك ، وسيأتيك منه السرّ ، وفي السرّ محادثتي إليك وإيماني بك”• في جانب آخر من رسم المحنة يقول المفكر إدوارد سعيد، إن إسرائيل استطاعت أن تستفيد من صمتنا في مراحل شتى، وتستغل هذا الصمت لمصلحتها دائماً ،مثلما استغلت جميع تغيرّات الوضع الدولي من الحرب الباردة وما بعدها • بينما يصف د• محمد عمارة إسرائيل على أنها حفنة من لصوص يرتدون ثياب الجنود، وأعادنا بشهادته إلى انعقاد ديوان المشورة العسكرية الصليبي الذي قرر أن ” يقتل كل مسلم باق داخل المدينة المقدسة” حيث استمرت المجزرة أسبوعاً كاملاً ، وكل من هرب من البيوت والأقبية قبضوا عليه وقذفوا به من أعلى البيوت والأبراج إلى النار! وبعيداً عن المؤامرات والدسائس والمزايدات وأبواق الدعاية، لندع الحقائق تجيب : من هو صاحب الأرض؟ ومن هو صاحب الحق في السيادة عليها؟ وإذا كذّب اليهود الحقائق ورضي العرب بما هو كائن ، علينا إذن أن نتساءل • “لماذا يقبل العرب بعد أكثر من 1400 عام من عروبة القدس تهويد المدينة راضين بالصلاة في الأقصى الأسير وفي كنائس مدججة أسوارها ببنادق الصهانية ، ويشتري العرب بما يتوهمونه سلاماً ، مصيراً مشكوكا فيه، ومستقبلا يكتنفه الغموض ” تماما كما أراد الناشر أن يقول• ترى كم أعطت هذه البلاد ، وكم أخذت ؟وأي مدينة هي ؟ حملت على كاهلها أكثر مما احتملت أيّ بلاد سواها ، حتى صار اسمها ممتزجاً بالصبر والشهداء والتضحيات ، وصار اسم فلسطين يعني السلام والحرب معاً ، فهي – بحق- مدينة الرسالات والأنبياء ، وهي القضية الأولى للعرب جميعاً برغم السنوات الطوال التي مرّت على اغتصابها واحتلال أرضها من قبل الصهاينة•• هذا الكتاب، يأتي في وقت كفّ البعض فيه من الكتابة عن (فلسطين)• ربما شبع القراء من تكرار المأساة وتكرار النكسة، والهزيمة ، ربما تمكنت أجهزه الإعلام (المراوغة) من تفتيت الرغبة في أخبار الأرض المحتلة، لكن (زهـرة المدائن ) ستبقى برغم كل شيء شوكة مسننّة حارقة تحت لسان الموساد وصخرة كبيرة تجثم على قاموس الأطماع اليهودية مهما طال الزمان أو تشعّب الوقت• يقول خالد محمد غازي في نهاية المقدمة •• ما من مدينة في مخيّلتي أسرني عشقها إلاّ تلك المدينة، تملكني ولع شديد لإخلاص منه إلاّ بالكتابة عنها•• وكان بذلك قد أفرغ ما في روحه القلقة وفاء للعشق فهو لابد أن يكتب عمّن يعشق• ساهم في الكتاب- إلى جانب من ذكرنا منهم- أحمد يوسف القرعي والدكتور برنارد سابيلا، واعتمد الكتاب على ملحق شامل بحفريات إسرائيل في منطقة الحرم الشريف، وحفنة من الخرائط والرسومات التي يعود بعضها إلى عام 800 قبل الميلاد، ولم يغفل المؤلف عن ذكر أبرز المراجع والتقارير والوثائق التي اعتمد عليها في إخراج هذا الكتاب إلى النور •