د. خالد غازي
لقد استطاعت الكنيسة الأرثوذكسية فى عهد البابا شنودة الثالث أن تبسط وجودها فى مناطق كثيرة من العالم، حيث تمكن البابا من توطيد العلاقات بين كنيسته والكنيسة الإثيوبية، والكنيسة الكاثوليكية فى الفاتيكان، كما دشنت الكنيسة الأرثوذكسية المصرية فى عهده عدداً من الكنائس فى بلدان أوروبية كفرنسا وإنجلترا وألمانيا، وكذلك ٍفى الولايات المتحدة الأمريكية، فضلاً عن الكنائس التابعة لكنيسة الأسكندرية فى العراق و سوريا و الأردن، وغيرها من البلدان العربية.
(1)
لذا كانت ومازالت قضية خلافة البابا شنودة الثالث بابا الاسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، تعتبر شأناً كنسياً ووطنياً عاماً في آن واحد، لأنه شخصية استثنائية فى الحضور الكنسي والسياسي المزدوج، والمزاوج أيضاً بين السياسة والكنيسة في عصره، مما جعل مسألة غيابه عن المشهد بوفاته ؛ ربما تنصرف إلي فراغ مقلق حال استخلاف من لا يلائم الظروف الراهنة، خاصة أن البابا شنودة الثالث ظل طيلة حياته محافظا على مبادئه فى الوحدة الوطنية وعدم الدخول فى أية مناورات أو مهاترات سياسية، رغم محاولات بعض الأيادي الخفية فى زج الكنيسة فى خلافات سياسية كان من شأنها التأثير على نسيج مبدأ الوحدة الوطنية ؛وتاريخ هذا الرجل الحكيم حافل بالكثير من المواقف الايجابية والتي من الصعب رصدها ؛ حيث خدم “نظير جيد روفائيل ” أو البابا شنودة لاحقاً بكنيسة القديس الأنبا أنطونيوس بشبرا وكنيسة القديسة مريم بمسرة وجمعية النهضة الروحية بشارع فؤاد بشبرا ؛ حتى ترأس تحرير مجلة مدارس الأحد عام 1947وخلال تلك الفترة قاد نظير مرحلة من النضال الفكري ضد الفساد الكنسي ؛ وقدم العديد من الأفكار الإصلاحية حول الراعي الصالح؛ واختيار البطريرك ؛ وبعد أن غيب الموت البابا كيرلس السادس في التاسع مارس 1971 ٍاجتمع المجمع المقدس برئاسة الأنبا انطونيوس القائم مقام البطريرك ليتدبر أمر اختيار البطريرك الجديد ؛ حتى استقر الرأي على اختيار خمسة من مجموع المرشحين تمت بينهم الانتخابات ؛ واستقرت عن اختيار ثلاثة منهم هم الأنبا شنودة أسقف التعليم والأنبا صموئيل أسقف الخدمات والقمص تيموتاؤس المقاري وأجريت القرعة الهيكلية يوم الأحد الواحد والثلاثين من اكتو بر 1971، وتم اختيار الأنبا شنودة ليكون البابا السابع عشر في سلسلة باباوات الإسكندرية.
(2)
ومرت حياة ” البابا ” بالعديد من المحطات والمواقف الصعبة ؛ التى كان أولها خلافة مع الرئيس الأسبق أنور السادات، حيث نشبت بينهما خلافات كانت نتيجتها اقصاء البابا من الحياة العامة، وكان سببها الأول التقارير التى كانت تُرفع إلى الرئيس متهمة بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية بشحن الأقباط ضد الدولة، وزادت الخلافات فى حدتها مع إعلان السادات عزمة عقد إتفاقية للسلام مع إسرائيل عام 1977 حيث رفض شنودة مرافقة السادات فى رحلته إلى تل أبيب وفى زيارته إلى الكنيست الإسرائيلي. ووصلت الأزمة إلى ذروتها مع توجه السادات إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1979 لتوقيع إتفاقية السلام مع إسرائيل ؛ وإذ به يواجه مجموعة من أقباط المهجر الذين رفعوا لافتات يتهمونه وحكومته بدعم وتغذية جماعات دينية إسلامية متطرفة تضطهد المسيحيين فى مصر، الأمر الذى شوه الصورة التى حاول السادات رسمها طيلة سنوات أمام “الولايات المتحدة الامريكية ” حليفه الجديد وقتها ؛ ٍوأراد السادات تسليط العقاب على أبناء الكنيسة الأرثوذكسية فى مصر بأن أصدر قراره للأجهزة الأمنية بمنع عقد الإجتماعات الأسبوعية للبابا شنودة برعايا كنيسته، فكان رد الفعل الذى بدر من البابا أنه أعلن عدم إحتفال الكنيسة بأعياد الميلاد فى ظل القمع الموجه ضدها.
عندئذ أصدر السادات قراراً بعزل البابا شنودة عن الكرسى الباباوى ، وعيّن وقتها لجنة من خمسة من الأساقفة لمباشرة شئون الكنيسة، كما أمر بتحديد إقامة البابا فى دير وادى النطرون فى الصحراء الغربية فى سبتمبر عام 1981 إلا أنه لم يدم فى الدير المحددة إقامته فيه طويلاً ؛ برحيل السادات ووصول الرئيس السابق حسنى مبارك إلى كرسى الحكم، ليسمح للبابا بالعودة إلى كنيسته وممارسة مهامه الباباوية.
(3)
ويمثل دوره السياسى فى عهد مبارك مرحلة مهمة من تاريخ الكنيسة المصرية ، إلا أن هذا الإتساع الروحى والمادى لم ينأي بالكنيسة من مشكلات مع العلمانيين المسيحيين الذين لا يكفون عن المطالبة بعدد من الحقوق فى الزواج الثانى بعد الطلاق، إذ أن الشريعة المسيحية لا تبيح الطلاق إلا لعلة الزنى ؛كما أن الشريعة المسيحية لا تسمح للمطلق أو المطلقة من الزواج ثانية لأي علة وتعتبر الزواج الثانى زنى كذلك، وخلال تلك الفترات تصدى “البابا” بحكمة وحنكة لمحاولات الفتنة و التدخلات الخارجية، فكان هدوءه ورويته بمثابة صمام الأمان بين المسيحيين والمسلمين ؛ وله دور بالغ الأهمية بعلاقة الكنيسة بالدولة ،كذلك كان له دور صارم تجاه سعي الدول الأجنبية والأوروبية في التدخل في الشئون الداخلية المصرية ؛ بدعوى حماية حقوق الأقباط ؛ وأجهض رغبتهم في إرسال مبعوث أوروبي لحماية الأقليات الدينية .. وغيرها من المواقف التي لا تحصى للبابا شنودة ؛ لقد خسرت مصر شخصية استثنائية فى تاريخ الكنيسة، ذات كاريزما لن تتكرر كثيرا من حيث الإنجازات المادية والمعنوية والدينية ، ففى عهده اتسعت الكنيسة ووصلت إلى العالمية، إلى جانب إحداثه نهضة فى إنشاء الأديرة على مستوى مصر والعالم، وقد أعطى فى حياته لكرسى الباباوية بعدا سياسيا وإعلاميا، فقد كان يتعامل تارة كأنه مسئول سياسى عن الأقباط وتارة أخري بوصفه المرشد الديني الذ يغلب صوت العقل علي الانفعال والتطرف .
وعندما جاءت ثورة 25 يناير ازدادت مخاوف الاقباط من سيطرة الاسلاميين على الحكم في مصر وتعرض المسيحيين للاضطهاد، ويبدو أن هذه المخاوف المسيحية قابلها رغبة من جماعة الإخوان المسلمين – صاحبة الأكثرية الشعبية والبرلمانية – في الظهور بمظهر المتسامح، وتلقى البابا شنودة هذه الاشارات بذكاء وأبدى تفهما مع الإخوان، وصل إلى تبادل الزيارات بينه وبين أقطاب جماعة الاخوان وحضور قيادات منهم ومن حزب الحرية والعدالة احتفالات الكنيسة الارثوذكسية بأعياد الميلاد في الكاتدرائية المرقسية.
(4)
وقد ظل سؤال : من يخلف البابا ؟ محل جدل طوال السنوات الماضية ، فرحيل البابا شنودة يعتبر الملف الأكثر خطورة الآن ؛ وقد يلقي بظلاله على مستقبل اندماج الأقباط في الحياة السياسية المصرية ، فالأقباط لديهم قلق واضح لغياب الرؤية السياسية المستقبلية للبلاد، خاصةً والشعب مقبل على انتخابات الرئاسة ؛ وقد تحدث صراعات سياسية بين البابا الجديد والرئاسة في بعض المواقف السياسة التي قد تلقى بظلالها على مستقبل الكنيسة؛ وعلى جبهة الإصلاح الكنسي باحتواء الصراعات الداخلية بعد رحيل البابا ؛ خلال الفترة الانتقالية التي تعقب خلو الكرسي البابوي، فعدم تعيين نائب للبابا قبل رحيلة ؛ كان لغاية أن لا تحدث صراعات داخلية أو انقسامات قبطية بعد رحيلة تضع الكنيسة في مأزق؛ فلائحة اختيار بطريرك الكرازة المرقصية ليست بالأمر السهل، ولم تتغير منذ عام 1967ومن شروطها أن لا يقل عمره عن أربعين عاما ؛ وأن يكون قد أمضى في سلك الرهبنة بالأديرة مدة لا تقل عن خمسة عشر عاما ؛ وأن يكون مصريا ؛ ولم يسبق له الزواج ؛ سواء أكان أسقفا أو راهبا أو مطرانا ؛ وتتكون لجة للترشيح مكونة من تسعة أشخاص من المجمع المقدس وتسعة أشخاص من هيئة الأوقاف القبطية وتجتمع اللجنة وتفتح باب الترشيح ؛ويتقدم من تتوافر فيه الشروط ؛ وتجرى بينهم الانتخابات ويتم اختيار ثلاثة يحصلون على أعلى الأصوات ؛ ثم يتم الاختيار بينهم بـ”العناية الإلهية” عن طريق طفل ؛ ليعلن عن اختيار البابا الجديد للأقباط وللكنيسة، لذا فإن صراع الأساقفة على المنصب الباباوى سوف يتزايد والتربيطات والتحالفات تدور وتعقد من الآن ؛ لأن لائحة وقانون اختيار الباب لم يتم تعديلة لتوسيع دائرة الناخبين ويقتصر التصويت على فئة قليلة من رجال الدين المسيحي الذين قد يتلاعبون للوصول للمنصب بعد أن رحل البابا ؛ ويقتسمون مناصب الكنيسة بينهم ؛ ومن هنا فالخلافات القبطية داخل الكنيسة سوف يكون لها مردود سياسي على الشارع المصري ؛ وهو الأمر الذي سيضر الكنيسة ويخلق توتر بين الأقباط ؛ وهذا مالا نتمناه .