قراءة في أوراق الرئيس

 

د. خالد غازي   

تبقى القضية الأهم فى طريق رئيس مصر الجديد هى مواجهة منافسين أقوياء داخلياً وخارجياً، لاسيما أن مناورات السياسة لا تصنعها الميادين  الحاشدة، لكن تصنعها الغرف المغلقة فى الكثير من الأحوال، فضلاً عن أنها بحاجة دائماً لأن تكون هناك رؤى واضحة ومواردا وخططا للتنفيذ يفهمها الشعب – المستقبل – لخطاب الرئيس ومن ثم يلتفون حولها.

 

(1)

ربما نجا الرئيس محمد مرسى بفصاحته فى خطاب ميدان التحرير من هجوم معارضيه الذين كانوا يستعدون للنيل منه عقب الخطاب، ورغم ذلك فإنه سقط بين أطراف متباينة تجمعوا فى معادلة السياسة والشارع والميدان والمعارضين والمؤيديين، لذا كانت وجهة نظر الميدان متفاعلة جداً مع الرئيس المنتخب وخطابه، لاسيما أنه كان خطابا عاطفيا فى أغلبه بالدرجة الأولى سواء فى العبارات الحماسية أو التى اختصت بالنسيج المصرى من المسلمين والأقباط، أو حتى تلك التى تمثلت فى إضفاء الطابع الدينى وذكر آيات من القرآن الكريم وخطبة البيعة للصديق أبو بكر، لذا فالجمهور تلقى الخطاب بارتياح، وانحسرت التخوفات خشية الصدام، حتى إن الخصوم له قد أعلنوا اطمئنانا مشروطا فى انتظار النتيجة، وبقى ” مرسى” – رغم الملاحظات- متمسكا بتواضعه أمام شعبه ، غير منفصل عن الجمهور، حتى أنه تخلى عن وسائل الحماية كعدم ارتدائه واق للرصاص فى ميدان التحرير أو منع الحرس  الجمهورى من الالتحام بالرئيس، ووضع حاجز بينه وبين الشعب الذى امتلأ فى صحن الميدان ؛ تأكيدا لحبه لهم وعدم خوفه منهم، وقد يكون الخطاب فى العديد من نقاطه قد أرضى الأطراف كافة دون تمييز.

 

(2)

أنصار الدولة المدنية والديمقراطية وتفعيل مبدأ المواطنة فى الحكم وقطاع العاملين فى السياحة والكثير من الفنانين والمثقفين الذين أبدوا قلقهم  من صعود ” مرسي ” لسدة الحكم ،  وهم من طالبوه بقسم اليمين أمام الناس في الميدان ؛ وقد كان لهم ما أرادوا ، وأعلن التزامه بالقسم أمام المحكمة الدستورية العليا، ليتبعها بجامعة القاهرة ؛ حيث تمت دعوة أعضاء مجلسى الشعب والشورى، والنتيجة أن محمد مرسى تصرف كسياسى لا يسعى للصدام – الآن على الأقل – وإن كان ضمن خطابه إشارات إلى أنه الذى يقرر وأنه يمتلك كل صلاحياته ولا سلطة تعلو على سلطة الشعب، فى إشارة إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة وإن كان لم يشر مباشرة إلى الإعلان الدستورى المكمل. فقد نجح كثيرا فى تصدير صورة السياسى عن نفسه يمكنه مخاطبة الجماهير العريضة قوياً وصلباً، رافضاً التفريط فى صلاحياته التى يظن الكثير من النخبة أنه سيكون منزوعة منه، بأنه رئيس للمصريين جميعاً مالكاً لقراره دون الرجوع لأحد لا فى الداخل ولا فى الخارج،  وبالغ كثيرا فى ذلك، لكنه لم يكن بعيدا عن جماعة الإخوان، فى خطابه، الذى سيظل مرهونا بمدى التزامه بتنفيذ تعهداته، لاسيما أنه يعلم أن الشعب تركيبة متنوعة ومتعددة الوجوه والرؤى والمطالب والاتجاهات والأفكار، كما أنه يعلم أن ميدان الثورة ” مزاجي الهوى ” فى سلوكه، ويميل إلى التقلب بشدة، ولا يمكن الوصول إلى أعماقه أو توجهاته ظاهريا.

 

(3)

حفل خطاب الرئيس المنتخب د. محمد مرسى فى ميدان التحرير – مهد الثورة- بالعديد من الإشارات والتطمينات التى استقبلها العالم بكل التقدير، والتى كان من  أهمها أن بنية الدولة المصرية الجديدة لن تتأثر على الإطلاق بالضغوط الخارجية، للمحافظة على السيادة الوطنية دون انتقاص، وحماية الحدود واستقلالية القرار المصرى بشكله الخالص، بما يحقق سيادة مصر والعودة تدريجياً إلى دورها الريادى عربياً ودولياً. وأبرز الرئيس المنتخب مدى تمسكه بالثقافة الإسلامية، ومحاولة اتخاذها كمرجعية سياسية له في المستقبل، خلال العديد من الآيات القرآنية والخطب التاريخية ؛ لاسيما خطبة الصديق أبوبكر، مما ينم عن ارتكاز عدد من القيم المهمة التى تمثل دعائم الحكم الرشيد، من خلال الرقابة والمساءلة والمحاسبة وتشاركية صنع القرار، مؤكداً فى جانب آخر الديمقراطية التى جسدتها صناديق الاقتراع، وكذا بعض العبارات الأخرى التى تضمن  “سيادة القانون واحترام الدستور” والحريات واحترام حقوق الإنسان والمحافظة على حقوق المرأة والأسرة والطفل، وإلغاء كل أشكال التمييز ؛ وهي كلها مؤشرات معروفة عن مفهوم الديمقراطية، لذا حملت خطاباته كافة ردود فعل متباينة، حيث منها ما كان عاطفياً ؛ لذا لم يستشعره سوى أنصاره.. أما على الجانب الآخر  نجد معارضيه لم يصل إليهم، لأنه كان فى كثير من جمل خطابه يشير إلى ثوار التحرير فحسب، وأيضاً اتسمت بالتوافقية والتصالحية مع البسطاء، وربما نجح مرسى فى أن يخمد ثورة الشك التى لدى البعض ممن ينتظرون وجهاً واضحا له، أو من يراهنون أنه سرعان ما سينضم لجماعة الإخوان المسلمين سواء بشكلها الدعوى أو احتفاظه بعضوية ذراعها السياسية حزب الحرية والعدالة ؛ الذى استقال من رئاسته فقط وليس عضويته، لكنه قد يجد صعوبة فى اكتساب رضا الكل من الخصوم.

 

(4)

لقد جاء خطاب الرئيس فى مجمله مطمئنا للجميع، وإن كانت هناك بعض النقاط أصابها الغموض، إلا أنه نجح بعث روح الارتياح،  وبدا حريصا على الظهور كصاحب للشرعية التى منحته إياها صناديق الاقتراع والميدان الثورى فى مواجهة المجلس الأعلى للقوات المسلحة، لكنه فى الوقت ذاته لم يبد الرغبة فى المواجهة ؛ لذا وجه التحية لمن اختاروه ومن رفضوه، وأيضاً تحدث عن المدنية والدستورية وسيادة القانون، وخلال الأيام القادمة سيكون بحاجة ملحة إلى ترجمة لتلك الوعود ؛ حتى يكتسب أرضية جديدة ومزيداً من المؤيدين، لأن الخطابات تأثيراتها تضيع بعد فترة، وتنتهى حال عدم تنفيذ ما فيها.

وفي الخلاصة خطاب الرئيس ناجح جماهيرياً كعادة قادة الإخوان.. لكن على المستوى السياسي  الرؤية والأدوات غائمة ، فهو بلا مجلس مستشارين معروفين ؛  ولا يمتلك سوى بعض رجال حملته، وهنا يمكن أن نشير إلى أن مرسي لا يمتلك رئيس وزراء ولا وزراء ، كما أن علاقة مرسي بالكتلة الوطنية – وهي مجموعة من القيادات السياسية التي تنتمي لتيارات مختلفة التفت حول مرسي في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية – غير واضحة، حتى إن تلك الكتلة دورها في صناعة قرار الرئيس الجديد  السياسي غير معروف ؛ مما يثير أسئلة هامة عن دور التوافق السياسي في صناعة قرارات الرئيس خلال هذه الفترة الحاسمة، ومتى سيصبح للتوافق السياسي دور واضح ومؤثر، مما ينم أننا نعيش حالة من السيولة السياسية وضعف العمل المؤسسي، وهو ما يفتح الباب على مصراعيه أمام التخبط السياسي وقلق المتابعين، فتارة يقول مرسي أو أي من قيادات حزبه شيئا، ثم يقولون شيئا آخر في اليوم التالي بلا رابط أو نظام، وقد يستمر الحال على المنوال نفسه لفترة، لأننا في النهاية نقف أمام أشخاص وليس أمام عمل مؤسسي، والنهاية تقود إلى أن خطابات مرسى ربما لا تكون قد أجابت عن كل الأسئلة المطروحة ولم تزل المخاوف السياسية والاجتماعية قائمة وشائكة ، خاصة مع غموض القرار السياسى للرئيس كما أن غرف صناعته مجهولة.