قراءة مستقبلية لبرلمان الثورة

 

د. خالد غازي   

“خرج المصريون وهم يراهنون على نظام سياسي جديد ينتشلهم من أزماتهم، يحلمون بالعدالة والكرامة.. وذلك قد يكون بدا جليا في مدى الإقبال على التصويت في العملية الانتخابية”.

 

(1)

بكّروا بكور الطير لاستقبال فجر يوم جديد من الحرية.. ارتدوا الأرجواني من الثياب.. وتطيبوا بعطر الصباح.. خرجوا مجموعات مصطافة؛ لأداء الفريضة، يتسابقون في التعبير عن أنفسهم.. يؤمنون بما لهم وما عليهم.. إنهم المصريون بعد ثلاثين عامًا من التزوير.. يتجهون إلى صناديق الاقتراع لاختيار برلمان الثورة؛ فلم تشهد البلاد في تاريخها يومًا كهذا، لم يجتمع أهلها في الانتخابات مثل هذا اليوم؛ فهذه الانتخابات ليست كسابقاتها، فقد أحدث الشعب المصري مفاجأة مدوية بحضوره الكثيف على مراكز الاقتراع لاختيار نواب أول برلمان بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير؛ حيث شهدت عملية التصويت إقبالا كثيفا؛ وامتدت طوابير طويلة أمام اللجان في مختلف محافظات المرحلة الاولى التسع، التي تجري فيها الانتخابات؛ الأمر الذي دعا لتمديد فترة الاقتراع ساعتين، شاهدة على نزاهتها على خلاف الانتخابات التي كانت تجري في السابق، وملخص الأشياء كان ممتعا رغم بعض التجاوزات القليلة، لكن يمكنك أن تمحوها بصور أخرى من التحضر والتفاهم والاحترام، ملأت جميع اللجان في مختلف محافظات المرحلة الأولى، فضلاً عن دور القوات المسلحة في تأمين العملية الانتخابية.

 

(2)

إن غالبية الذين اصطفوا في طوابير طويلة أمام اللجان الانتخابية للإدلاء بأصواتهم من غير المُسَيّسين، رغم تعرضهم لضغوط لا حصر لها من قبل المتنافسين على مقاعد مجلسي الشعب والشورى، حتى إن بعضهم صوّر التصويت لمرشحي حزبه على أنه نصرة للدين وإعلاء لرايته، مثلما فعلوا في استفتاء التعديلات الدستورية – من قبل – وهؤلاء هم خط الدفاع الحقيقي عن الثورة ومكاسبها. فالمواطن البسيط كسر طوق السلبية والاستكانة الذي لفه حول عنقه النظام السابق، لأن النظم الحاكمة بعد قيام ثورة الثالث والعشرين من يوليو، لم تكن تكترث قيد أنملة به وباختياراته على أساس أنها أعلم بمصلحته، وأنه لم يبلغ مرحلة النضج بعد، وأنه غير مطالب بإرهاق نفسه في التدقيق والاختيار، وكان الطريق الأسهل هو تزوير الانتخابات بصور فجّة تخلو من الاحترام والتقدير للرغبة الشعبية، والمرة الثانية بعد الاستفتاء في مارس الماضي تجد المشهد يتكرر، حيث يزحف المصريون إلى صناديق الاقتراع لاختيار من يمثلهم في برلمان الثورة، يتكرر مشهد طوابير الحرية من جديد، التي تتضمن في صفوفها الشباب والكهول والشيوخ رجالا ونساء حتى ذوي الاحتياجات الخاصة، ذهبوا يحلمون بحياة أفضل، كثيرون منهم كانت تنتابهم الحيرة، ضمائرهم لا تطاوعهم على اتخاذ موقف محدد قد لا يجانبه الصواب، بعضهم كان يسأل عما يفعل؟ ومن يختاره ليكون صوته للدولة؟

من الضروري أن نقف أمام تلك الحيرة باحترام، لأن التردد يعني الرغبة في الأفضل؛ فالقضية ليست مباراة تنتهي لصالح فريق ضد آخر، بل إنها وسيلة تتجه نحو أهداف أوسع تمثل مستقبل دولة، وسيلة تتوكأ عليها ليست غاية في الاختلاف والتنافر، الهدف المساواة والحرية والعدالة الاجتماعية التي ظمأت إليها النفوس، لكن رغم ذلك فلن تنتهي مناورات الانتخابات والبرلمان والسياسة بألعايبها، حتى التصويت الخاطئ وارد، وهو جزء من العملية الديمقراطية في بناء النظم السياسية الجديدة، لكن على الناخب أن يلم في الوقت نفسه الحقائق المتعلقة بطبيعة وحدود الدور الذي ستلعبه هذه الانتخابات، والعمل على استخلاص دلالاتها بنفسه، واستشراف تأثيراتها المحتملة، ليس فقط على إدارة ما تبقي من المرحلة الانتقالية، ولكن أيضاً على مستقبل النظام السياسي المصري ككل. بعض هذه الحقائق يتعلق بالفترة الزمنية التي ستستغرقها، وبعضها الآخر يدور حول علاقة البرلمان الذي ستفرزه الانتخابات البرلمانية الحالية بالمجلس الأعلى للقوات المسلحة من ناحية، وبالحكومة من ناحية أخرى.

 

(3)

لابد من التساؤل: ماذا ستجني مصر في النهاية؟ هل سنجني برلماناً ضعيفاً تكوينه مختل البناء وقابل للانهيار، وقابل للحَل مع أول تعديل دستوري يجري بعد اللجنة التأسيسية المرتقبة أو مع الدستور الجديد للجمهورية الرابعة، أم برلمان للثورة لن يشهد تواجداً ملموساً لشباب الثورة الذين أنهكوا خلال العشرة أشهر الماضية في مواجهات مع كل القوي المضادة للثورة حماية ودفاعاً عن مطالبها وأهدافها؟

فأي برلمان – كما هو معروف للجميع – دوره التشريع بما لا يخالف الدستور، وثانياً الدور الرقابي على كل مؤسسات الدولة، وعلى رأسها وأهمها على الإطلاق السلطة التنفيذية، وهي هنا الحكومة والمجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي يحل محل رئيس الجمهورية مؤقتاً متمتعاً بصلاحياته كافة، إلا أن المجلس العسكري قد أكد ان مجلس الشعب القادم بلا سلطة على الحكومة، فما هي وظيفة مجلس الشعب في النظام الديمقراطي الجديد الذي ستبنيه مصر؟ فهذا قرار سياسي بالدرجة الاولى هدفه أن يكون مجلس الشعب القادم منزوع الصلاحيات، فلا يقوم بدوره الأساسي وهو مراقبة الحكومة، وبالتأكيد فهذه السلطة ينتهجها المجلس الاعلى العسكري في حكمه، وهذه تعتبر محل جدل قانوني ودستور، تدفع الجميع للشك في جدية النظام الجديد في تسليم السلطة لبرلمان منتخب. ولكن بعيداً عن الفكر التآمري، فإنه بإصرار الشعب على بناء دولة مدنية ديمقراطية حديثة، سيسلم المجلس العسكري السلطة، كما أن نجاح الانتخابات سيضعف من كل الأفكار التآمرية التي راجت طوال الأيام الماضية لأن الجيش ليس غريبًا عن النسيج المصري، بل هو جزء أصيل منه، واحترامه والحفاظ على تماسكه الداخلي وخروجه من ساحة الحكم السياسي، هو هدف غالبية الذين أدلوا بأصواتهم في الانتخابات، وأدلوا بأصواتهم، الذين يرفضون إهانة المجلس أو التجاوز في حقه؛ لأنه رصيد استراتيجي للدولة الديمقراطية التي نرغب جميعا في بنائها على حساب الاستسلام لنظريات المؤامرة.

 

(4)

ومع ذلك، فإن اتجاهات التصويت وسط القوائم والفردي والتكتلات – إذا استبعدنا ما سيحصل عليه التيار الإسلامي؛ لأن هذا في عداد المجهول حتى الآن – تبدو في طريقها لكي يتبوأ حزب “الحرية والعدالة” – الذراع السياسية لجماعة لإخوان المسلمين – نصيب الأسد في الانتخابات، لكن من الضروري علينا معرفة عدد المقاعد التي سيحصل عليها الإخوان في الانتخابات.. وهل ستظل في حدود ثلاثين بالمائة كما كانت معلنة من مكتب الارشاد وحزبهم الجديد أم تغير الوضع، خاصة أن الخوف من الغرامة التي قررتها اللجنة العليا للانتخابات – برئاسة المستشار عبدالمعز ابراهيم – وتصل إلى خمسمائة جنيه، يدفع إلى زيادة كبيرة في التصويت لدى الفئات الأكثر فقرا والأقل تعليما، وهي أرضية خصبة للجماعات والتيارات المختلفة للقفز على مقاعد المجلس، خاصة أن الكتلة المصرية ستحقق نتائج معقولة في ماراثون الانتخابات، وربما تحل في المركز الثاني، هي أو ربما حزب الوفد الليبرالي، وإن كانت الكتلة تتواجد بشكل أكبر في الدوائر الحضرية، بينما يتركز الوفد لدي بعض المناطق العائلية.. يليهم في الترتيب الأحزاب التي خرجت من عباءة الحزب الوطني، أو من يسمون بقائمة “الفلول”، ممن كانوا يرتعون في أحضان النظام السابق وحزبه المنحل.. لكن كل ذلك يظل مجرد اجتهادات في ضوء أن لا أحد في مصر يعرف حقيقة قوة التيارات الحقيقية في الشارع.

 

(5)

الناخب كشف بفطرته، خاصة إبان الأيام العشرة الماضية، التي انطلقت فيها الثورة الثانية من ميدان التحرير، وشارع محمد محمود، الذي لا يقل أهمية وشهرة عن الميدان، سيما الاحداث المؤسفة التي شهدها الشارع من سحل المتظاهرين السلميين، والتعدي عليهم وسقوط قتلى وجرحى، وذلك من الذين يتاجرون به وبقضاياه المصيرية ومستقبله؛ من أجل مصلحة خاصة، وأنه سيرد عليهم بأسلوب حضاري عبر صناديق الانتخاب، والتي ستكشف الحجم الطبيعي والحقيقي لبعض القوى المفاخرة بأنها ملء الأسماع والأبصار، وأنها لديها قدرات خاصة على الحشد، وتعبئة الجموع خلف مرشحيها، ويأتي منها تيارات فلول الحزب الوطني (المنحل) التي تعتمد على الحشد، وكذلك التيارات المنتسبة للدين إن إجراء الانتخابات التشريعية لتشكيل البرلمان في موعدها – رغم ما سبقها من أحداث دامية، وما قد يشوبها من أخطاء وتجاوزات – أعاد لمصر روحها وطاقتها الكبيرة على العطاء، ونأمل أن تكون حجر الأساس الداعم لكرامة المصريين، وحقهم المشروع في منحهم الرعاية، والسهر على تشييد نظام ديمقراطي بمنأى عن خطط من يرجون تعطيل مسار البناء والعودة للوراء، والتخوف من التنعم بدولة الديمقراطية والمواطنة. الغالبية العظمى من المصريين يؤمنون بأن البرلمان القادم لن يكون على المستوى المأمول لدعم ثورة الخامس والعشرين من يناير، وتعظيم مكاسبها، وقطع الطريق على محاولات سرقتها وتحويلها من ثورة شعبية إلى ما يشبه الحركة التصحيحية لنظام الرئيس السابق مبارك، لكنهم واثقون من قدرتهم على الاعتراض، والوقوف مقابل ما يعتبرونه خروجا على رغباتهم ومصالح الوطن العليا. فالمصري أصبح صاحب صوت وكلمة وقدرة على إحداث التغيير، مهما كانت المعوقات.