د. خالد غازي
خلال الجلسات الإجرائية لمجلس النواب بدا للمصريين المتابعين للجلسات أن أعضاء البرلمان يحاولون ، من خلال مشهد صاخب يغلب على أدائه المبالغة ، التغلب على أزمة الشرعية التي تضفي بظلالها على المجلس بعد ما يمكن وصفه بأنه مقاطعة شعبية لم يسبق لها مثيل خلال جولات الانتخابات التي سبقت إعلان الفائزين بمقاعد هذا المجلس ، ولا يمكن فهم المشهد الصاخب للنواب في أولى جلسات المجلس إلا من خلال محاولة الالمام بأبعاد أزمة الشرعية التي يعاني منها أول مجلس للنواب بعد ثورة 30 يونيو .
(1)
بعد انتخابات برلمان 2010، والعيوب التي شابت عمليات الاقتراع آنذاك وكانت أحد أسباب أحداث 25 يناير 2011، ارتفعت وتيرة المشاركة الجماهيرية والحراك السياسي بشكل غير مسبوق، لدرجة فاقت كل التوقعات في معدلات الإقبال ونسب التصويت في استفتاء 19 مارس 2011، ثم الانتخابات البرلمانية والرئاسية والاستفتاءات التي تلت ذلك، كانت غير عادية في الحياة السياسية في مصر، لكن الاستحقاق الثالث والأخير في خريطة الطريق التي وضعها الرئيس عبد الفتاح السيسي، هو انتخابات البرلمان التي كان الإقبال فيها ضعيفا للغاية، لدرجة أن الحكومة منحت العاملين في الدولة نصف يوم عطلة من أجل التوجه إلى مراكز الاقتراع والتصويت لرفع معدلات الإقبال.
وسائل الإعلام رأت أن الحكومة لو كانت قد منحت الموظفين عطلة ليوم كامل، لما ذهبوا إلى مراكز الاقتراع، وبقيت معدلات الإقبال كما هي. لكن المدهش أن لهجة وسائل الإعلام الحكومية وغير الحكومية (التابعة لرجال الأعمال) تغيرت بشكل يثير الدهشة والتساؤلات. فبعد أن كانت تتحدث عن “الشعب المصري العظيم”، و”الشعب المصري الواعي”، و”الشعب الذي يعي مصالحه بعد ثورة 30 يونيو”، و”الشعب الذي يدعم الرئيس”، انقلب الحديث خلال النصف الثاني من يوم 18 أكتوبر الحالي، إلى انتقادات “للشعب الذي لا يعي مصالحه” و”الشعب الذي لا يدعم الرئيس” و”الشعب غير الواعي”. وتصاعدت لهجة الانتقاد للمصريين عقب إغلاق مراكز الاقتراع في اليوم الأول، على أمل أن “يفيق الشعب من غفوته” ويشارك في اختيار نواب برلمانه القادم ، لدرجة أن مقدمي برامج “التوك شو” وضيوفهم من رجال الجيش والشرطة ورجال الدين الإسلامي والمسيحي بدأوا في توجيه العظات الدينية، وإطلاق الفتاوى، وتوجيه الكلمات القاسية للشباب الذين لم يشاركوا تقريبا في عمليات التصويت.
(2)
الانتقادات والتقريع موجهان إلى فئة الشباب تحديدا. والشباب في مصر غاضب من أجل رفاقه الذين قتلوا خلال السنوات الأربع الماضية، وغاضب من أجل الشباب الموجودين في السجون بتهم سياسية مختلفة، على رأسها “التظاهر ضد قانون التظاهر”. الشباب غاضب لغياب العدل والعدالة والقانون كما يرون، الشباب غاضب لتفشي الفساد السياسي والإداري. ولذلك عزف الشباب (60% من الناخبين) عن التوجه إلى مراكز الاقتراع، ولم يهتموا بفتاوى رجال الدين المسلمين والمسيحيين، أو يبالوا بالأخبار والتهديدات التي تنشرها وسائل الإعلام الحكومية أو التابعة لرجال الأعمال بشأن الغرامة المالية على الذين يمتنعون عن التصويت.
التفسيرات والتحليلات تتوالى بشأن هذه الظاهرة. البعض يراها تراجعاً لدور السلطة والنظام السياسي الحالي، لأنهما لم يتمكنا من ردم الهوة بينهما وبين الشباب، ولم ينجحا في لم شمل الأطياف السياسية أو إقامة حياة سياسية صحية يمكن أن تعمل فيها القوى السياسية، والتحالف مع القوى الدينية السلفية، وإعادة رموز الحكم الذي سبق أحداث 25 يناير 2011، وتوحش وسائل الإعلام الحكومية، وغيرها من المملوكة لرجال الأعمال، والتي غرقت في مستنقع التخوين وتوجيه الاتهامات بالعمالة والخيانة والجاسوسية لكل من يعارض أو ينتقد النظام السياسي الحالي.
ولكن هناك من يرى أن الفشل أيضا لا يقتصر على ممارسات النظام السياسي، ولكن النخب السياسية تتحمل جزء من المسؤولية، فهي لم تتمكن من التواصل مع الشباب، وحاولت تغييبهم والتلاعب بهم، واتخذت مواقف تتعارض مع أحلام وطموحات غالبية المصريين، التحالفات غير المقدسة بين بعض القوى السياسية والنظام السياسي، وظهور تحالفات أخرى بين قوى من أقصى اليسار مع قوى من أقصى اليمين مع طرح شعارات سياسية خادعة ومتناقضة مع برامج هذه القوى السياسية. إضافة إلى الغرق أيضا في مستنقع الاتهامات والتخوين والإقصاء.
(3)
وكشفت الانتخابات عن ضعف قاعدة حزب النور السلفي في الانتخابات، سواء على مستوى القوائم أو المقاعد الفردية وهي مفاجأة لم تكن متوقعة للكثيرين لكنها كانت متوقعة للمحللين والخبراء بسبب سياسات ومواقف للحزب التي أدت به إلى هذه النهاية الحزينة، ومن هذه الأسباب: خروج مجموعة كبيرة من التيار السلفي وقادته من الحزب سواء قبل ثورة 30 يونيو أو بعدها وتأسيسهم لأحزاب منافسة استقطبت مجموعات سلفية كبيرة وقواعد شعبية لديهم، مثل حزب الوطن بقيادة عماد عبد الغفور، وحزب الأصالة بقيادة إيهاب شيحة، وهو ما أدى لتفتت التيار السلفي وانعكس ذلك بشكل مباشر على نتائج الحزب في الانتخابات الحالية والتي جعلته يفقد كثيرا فرصة التواجد البرلماني كما كان في برلمان 2011.
وأيضاً: موقف الحزب من ثورة 30 يونيو وانحيازه للدولة أفقده تعاطف قواعده الشعبية الميالة للإخوان، والتي كان يستند إليها وجعلته يخسر حتى في معاقل نفوذه كالاسكندرية والبحيرة ومطروح، فضلا عن الحملات التي شنتها جماعة الإخوان ضد الحزب وقياداته ودعوتها لأنصارها بعدم التصويت له.
بالاضافة إلى الخطاب الملتبس للحزب والذي شكك الكثيرون في موقفه وخلطه للدين والدعوة بالسياسة، مما أفقده ميزة اكتساب قواعد جماهيرية أخرى تعوضه عن قواعده التي فقدها عقب ثورة 30 يونيو وانشقاق أغلب قياداته عنه.
بجانب، شيطنة الإعلام لحزب النور وتصويره بأنه الحزب الذي يسعى لخلافة الإخوان واتهامه بالتعامل مع الغرب على حساب المصالح الوطنية المصرية وضد الرئيس عبد الفتاح السيسي، وهو ما أدى لتراجع شعبية الحزب تماما، فضلا عن أن الحزب بوضعه الحالي أصبح لا يمثل سوى 10% من التيار السلفي.
ومن أسباب سقوط حزب النور في الانتخابات أيضاً، أن الناخبين أصبحوا رافضين تماما لفكرة وجود التيار الإسلامي في السياسة بعدما كشفت التجربة السابقة عن عدم درايتهم بشؤون الحكم وتفضيلهم لمصالحهم الحزبية على حساب مصلحة الوطن، فضلا عن أن تعاطف الشعب معهم في السابق كان راجعا لمواجهتهم للحزب الوطني الحاكم المدعوم من مبارك، بينما في الوقت الحالي لا يوجد حزب حاكم ولا يدعم الرئيس السيسي أي حزب سياسي، فكانت الاختيارات هذه المرة كاشفة عن تغير في المزاج العام المصري ومعبرة عن رغبة في التغيير والتطلع للأفضل.
وخير مثال على ذلك، أن الناخبين في مدينة الإسكندرية معقل السلفيين منحوا أصواتهم لرجال الحزب الوطني المنحل، مثل: سحر طلعت مصطفى شقيقة رجلي الأعمال المنتمين سابقا للحزب الوطني هشام طلعت مصطفى وطارق طلعت مصطفى، وهناك تقارير تشير إلى أن “يونس مخيون” رئيس حزب النور قد يستقيل من منصبه، ولكن إنتظاراً لما ستؤول إلية نتائج الجولة الثانية من الانتخابات، بل قد يشهد حزب النور مفاجأة مدوية، بإعلان الحزب انسحابه من الحياة السياسية وعودته للعمل الدعوي.
وبإعلان اللجنة العليا للانتخابات البرلمانية لنتائج عمليات تصويت المرحلة الأولى التي أجريت فى 14 محافظة، نجد أن نصيب الأحزاب السياسية، التي تخطى عددها الـ 100، ضئيل مقارنة بحجم استعدادتها، ووفقاً لما هو متاح عن أرقام الأحزاب السياسية في مصر والذي أعلنته الهيئة العامة للاستعلامات، فقد فاق عددها ما يزيد على 90 حزبا تم إشهار أكثر من 65 منها خلال الفترة التالية لأحداث يناير من العام 2011 أي بنسبة تتعدى 70 بالمائة من جملة الأحزاب الموجودة، لكن جميعها تعاني من انشقاقات وصراعات تهددها من الداخل.
(4)
بلا شك أدى التزايد في عدد الأحزاب المشهرة من جانب لجنة شؤون الأحزاب إلى ظهور تركيبة مختلفة عن تلك التي كانت موجودة قبل أحداث يناير والتي غلب عليها بجانب أحزاب المعارضة الرئيسية في مصر والتي نشأت مع بداية التجربة الحزبية في أواخر سبعينيات القرن الماضي، بعض الأحزاب التي كانت تتسم بأنها مجرد ديكور لاستكمال الديمقراطية التي كان يتشدق بها نظام الرئيس الأسبق حسني مبارك، فكان من نتائج التركيبة التالية لتلك الأحداث أن ظهرت أحزاب يتهمها البعض بأنها على خلاف الدستور ذات مرجعية دينية كان في مقدمتها حزب الحرية والعدالة الذي كان يمثل الذراع السياسية لجماعة الإخوان المسلمين والذي تم حله بحكم قضائي، وحزب النور الذي يمثل التيار السلفي والذي، وبعد حل الحرية والعدالة، بدأ في محاولة بسط نفوذه على الشارع السياسي المصري وذلك بمحاولات التقرب إلى المواطنين تارة ومغازلة السلطة تارة أخرى.
غير أن شكل التركيبة الحزبية في مصر لا يمكن أن يصنع مجلسا نيابيا معبرا عن الشعب، لأنه اعتمد على نظام القائمة المطلقة وهي نظام غريب على الشعب، فضلا عن أنه لا يسمح بتمثيل جيد للمواطنين، نظرا لتحكم رأس المال في نظام القوائم وهو الأمر الذي توقع معه محللون سياسيون أن يكون المجلس القادم مجلسا غير معبر عن الشعب ومجرد حالة لاستكمال خارطة الطريق التي تم الإعلان عنها بعد 30 يونيو، خاصة أن الانتخابات النيابية تم تأجيلها لأسباب تتعلق بقانون الانتخابات.
ونظرا لتلك الحالة التي بدت بها الأحزاب السياسية من ضعف وعدم قدرة على الممارسة السياسية عبر كثيرون عن مخاوفهم من العملية الانتخابية برمتها حتى أن كثيرا منهم أعلن رفضه المشاركة في تلك الانتخابات وهو الأمر الذي فسره البعض بأنه سوف يفرز نتيجة سلبية على المجلس القادم الذي توقع مراقبون أن يكون تمثيلا لأنصار الحزب الوطني المنحل وأصحاب رؤوس الأموال الخاصة.
وبجانب كثرة الانتخابات وفشل القوانين المنظمة لها تأتي أزمة الأحزاب السياسية التي وصل عددها على الساحة إلى ما يزيد على 90 حزباً، إلا أنها أحزاب ضعيفة لا تستطيع ان تقدّم فكراً أو نهجاً أو نظاماً للحكم، وكلها تدور حول تحزبات للنفع الخاص بعيداً عن المشاركة السياسية، وهو الأمر الذي بدا واضحاً في فكرة القوائم التي تضمّ عدداً من الأحزاب الضعيفة حتى تستطيع التغلب على ضعفها وعدم معرفة الناخب بها في كيان قد يبدو معروفاً الى حد ما، ويضاف الى ذلك أزمة المرشحين أنفسهم الذين يفتقد أغلبهم للفكر السياسي أو حتى الإلمام بالنظام السياسي او حتى بالنظام الذي يخوضون الانتخابات على أساسه، لتكون أزمة الأحزاب والنواب وفشلهم في التعريف بأنفسهم للناخب هو السبب الأكبر للعزوف عن المشاركة في الانتخابات.
وفي قراءة سريعة في نتائج الجولة الأولى يتضح أن هناك عودة وبقوة لحزب جديد هو أشبه بالحزب الوطني الذي كان يسيطر على كل الانتخابات في عهد الرئيس السابق حسني مبارك، لكنها هذه المرة تتجسد في قائمة “في حب مصر” وهي أشبه بحزب الرئيس، ولكن دون أن تكون حزباً رسمياً، وهو في حقيقته الحزب المؤيد للرئيس ويسعى المرشحون على تلك القائمة أن يكونوا سنداً للرئيس داخل المجلس النيابي المقبل، فقد أعلن أحدهم أنهم داخل البرلمان فقط لمساندة الرئيس، ووصل الأمر في الإعلان أنه كشف عن عدم معارضة الرئيس.
المجلس النيابي يتسم بسلبيات جرت للعملية الانتخابية، والتي تمثلت في قوانين مشوبة بعدم الدستورية، وعزوف عن المشاركة، وتشكيل لوبي لدعم الرئيس، ومثل هذا المجلس لا يمكن ان تنتظر منه الحياة السياسية في مصر خيراً، ويمكن القول أن الفائز الوحيد في هذه الانتخابات – قياسا الى المهمة والنجاح في أدائها – هو قوات الجيش والشرطة التي نجحت في تأمين وحماية العملية الانتخابية، وكذلك في أجهزة الدولة التي استطاعت أن تجهز وتعد لها، بغض النظر عن الأساس الواهي والضعيف الذي قامت عليه العملية الانتخابية.