د. خالد غازي
“ما تشهده مصر خلال الفترة الراهنة هو انفصال كبير بين الحقيقة والأكاذيب؛ بين الوطنيين المخلصين والانتهازيين المتلونين . فالدولة فى مأزق خطير؛ لأنها خارجة للتو من تجربة جديدة على المنطقة العربية؛ وأمامها تحديات من الضرورى أن تعمل لها ألف حساب”.
(1)
لا نستطع أن نجد فى أي قواميس سياسية تبريرا لما يشهده ميدان التحرير من أحداث واشتباكات وقتلى وجرحى؛ فالشرطة للمرة الثانية تقوم بسالف عهدها فى “جمعة الغضب” (الثامن والعشرين من يناير الماضى، ثالث أيام الثورة) وأكثرها اشتعالاً؛ فقد أخطأت في حق المتظاهرين؛ ففى الأيام الماضية لجأ المحتجون إلي القوات المسلحة لحماية ثورتهم والوقوف درعا واقيا للثورة ورجالها، وكانت نعم العون لتطهير البلاد من الفساد.. واليوم ارتفع سقف المطالب للمطالبة باقالة العسكر، وازداد الأمر تعقيدا وبدأنا نشم رائحة الدم في الميدان؛ لأن المواجهات الدامية طوال الاسبوع الماضي لم تجد من يحاول الفصل فيها بين المتظاهرين والشرطة المتهمة أنها سبب اشتعال الأزمة ، فلم تخرج كلمة أسف وحيدة من القائمين على هذه الوزارة ، بل تعمدت حكومة د. عصام شرف استفزاز مشاعر الجماهير؛ بأن قامت بتوجيه الشكر إلى وزارة الداخلية؛ لأنها استطاعت ضبط النفس مع الأحداث ! حتى المجلس الأعلى للقوات المسلحة تأخر كثيرا فى كلمته، وإبداء الأسف على الأحداث. لم يتعلموا أن البطء في التحرك واتخاذ القرار كان من أهم العوامل التى أسقطت نظام الرئيس مبارك العتيق.. فالمتابع لما يحدث علي أرض الثورة ومهدها – ميدان التحرير – يرى أن الدولة تفتقد من هيبتها الكثير، و الشعب يسير فى الاتجاه الخاطئ، لقد تاهت عقولنا فى ميدان التحرير، ولا يزال الخلاف واالتحزب هو السمة الأولى والغالبة على كل مظاهر الحياة؛ مازلنا نبحث عن الأمن والاستقرار والوضع الحقيقى لدولة بحجم مصر؛ لكن كل شيء انقلب رأساً على عقب.. ولنعترف بأن المعطيات أمامنا ليست مبشّرة ولا تعطينا أملاً فى غد أكثر طمأنينة.
(2)
وحين تتساءل ( لا تجد اجابة ) : لماذا هجمت الشرطة بجنودها وعتادها على عشرات من المعتصمين السلميين العزل فى ميدان التحرير على هذا النحو الذي فجَّر المشهد السياسى، وتسبب في سقوط عشرات الشهداء ومئات الجرحى والمصابين، وليعود العداء ويستحكم بين الشعب والشرطة من جديد؟ وما الذى دفع لهذه الخطوة الحمقاء من قبل الأجهزة الأمنية؟ ومن الذي تسبب فيها؟ ولماذا هذا التوقيت لتفجير المشهد السياسي على بُعد أيام من انتخابات برلمانية كان من الضرورى أن تكون عرسًا ديمقراطيًّا تكون من خلاله أول خطوات انتقال السلطة من المجلس الاعلى للقوات المسلحة إلى سلطة مدنية منتخبة (هي السلطة التشريعية والرقابية)؟ ن هذه الأسئلة المشروعة سبقتها أسئلة أخري مماثلة في أحداث سابقة ليس لها من جواب سوى أن هناك أجهزة ذات إمكانيات ضخمة تستخدم كل الأدوات لصناعة الأزمات وتفجير المواقف، تبدأ فى إلقاء عود الثقاب وتترك الحرائق تشتعل بشكل طبيعى، بينما تتوارى هى عن الأنظار. hلعقل يقول إنه لابد من ضبط النفس لإنقاذ ما يمكن إنقاذه؛ فليس من مصلحة مصر أن تدمر وزارة الداخلية، أو تقتحم، أو أن يطلق رجال الشرطة قنابلهم المليئة بالغازات علي الثوار.
(3)
إن حالة الانفلات الأمنى طالت جميع القطاعات والمؤسسات ومناحى الحياة المعيشية؛ ففي البداية كان الخوف من الصراع الطائفي بين المسلمين والمسيحيين وتأجج نار الفتنة؛ لاسيما وأن الفتنة الطائفية تمثل جرحا اندمل على عفن وصديد وسيظل ينزف، وظهرت بوادره منذ عدة أشهر مضت، والتى كان أخرها الأحداث التى اندلعت خلال الأيام القليلة الماضية بمنطقة شبرا بوسط القاهرة، وأيضاً الصراع الدموى بين المسلمين بعضهم البعض اى الصراع الاسلامى – الإسلامى الذى لا يمكن تجاهله.. أما الآن فنري كثرة الاحتجاجات والاعتصامات والمطالبات التى لا تنتهى، الكل يريد أن يأخذ حقه فورا – وهذا أمر مستحيل – لأن مليونية كل جمعة، والمستمرة، باتت تحمل مطالبا ثقيلة، تحتوى قدرًا هائلاً من التمسك بالرأى الأحادي وعدم الاستماع إلى الآخرين، ولا أحد يريد أن يعطى القائمون على شئون الحكم – من المجلس العسكرى ومجلس الوزراء – فرصة الدراسة بتأنٍ وفحص الأزمات والوقوف على حلول لها.كل هذه العوامل تربك الحسابات، وتصنع حالة من الذعر والخوف الشديدين، فضلًا عن انتشار الأعمال البلطجة بشكل يحول الشارع إلى ميدان قتال، لا يعرف فيه أحد ماذا يفعل ومن يقتل؟ وتصنع فسادا وانتهازية جديدة .
(4)
مصر الآن تحترق بنيران صديقة؛ فالمخاطر تحيط بها من كل جانب، لاسيما وأننا نمر بمرحلة غاضبة رافضة لكل شيء؛ فالليبراليون يصارعون الإسلاميين والعكس صحيح، وكذلك ثوار يناير يخشون على ثورتهم من أذناب النظام السابق، وكذلك الذين يحاولون القفز على شرعية الثورة واختطافها. وأبدا لن تكون استقالة د. عصام شرف رئيس مجلس الوزراء، هى الحل للخروج من المأزق؛ فالمشهد اليوم مختلف تماما عن البارحة، فالاحداث سخونتها تتزايد كل يوم ؛ والتصعيد مستمر وسقف المطالب يتزايد والبطء في اتخاذ الإجراءات ينال من أي دور اطفائي أو احتوائي للأزمات، فالأيام القليلة الماضية شهدت أحداثا جسام؛ أولها: تفجير ميدان التحرير، وما شهده من أحداث مؤسفة، واستقالة حكومة د. عصام شرف، وإصدار المجلس العسكرى مرسومًا بقبول تطبيق قانون العزل السياسى “قانون الغدر” على أذناب النظام السابق، والمرشحين على مقاعد الانتخابات التشريعية، وسحب وثيقة د. على السلمى نائب رئيس مجلس الوزراء، المعروفة إعلامياً بوثيقة السلمى، والإعلان أنها استرشادية، ثم القول بتأجيلها لحين الانتهاء من الانتخابات.. كل هذه الأحداث تتخللها أسئلة بحاجة إلى إجابات غائبة؟
(5)
تتزاحم الأزمات الآن، وكان آخرها خطاب المشير حسين طنطاوى رئيس المجلس الاعلى للقوات المسلحة، والذى تركز حول زهد المجلس العسكري فى السلطة، وأنه يعمل على دأب لتحقيق الانتقال السلمى للسلطة، واختيار رئيس منتخب. والأزمة فى خطاب المشير لا تكمن فيما قاله، بل تكمن فيما لم يقل، والتى كان من البديهى أن يكون أولها اعتذارًا للشعب عن الضحايا الجدد الذين سقطوا فى الاشتباكات فى الميدان أمام قوات مدججة بالذخائر الحية والقنابل المسيلة للدموع. وثانيها: لم يتحدث عن تقديم المتسببين فيها للتحقيق والمحاكمة ، وكذا الحديث عن قوى خارجية تحاول العبث بأمن مصر والوقيعة بين الجيش والشعب دون الإشارة إليها بشكل كاف أو توضيحها، والإسهاب فى التعريف بها ومن يقف وراءها؟ كذلك لم ينوه إلى ضوابط المرحلة الراهنة غير استمرار الحكومة فى تيسير الاعمال مؤقتاً لحين اختيار حكومة جديدة. إن الأخطاء الجسيمة التى تقع على كاهل هذه الأيام كبيرة، ولا يمكن هضمها سياسياً، وإفراز حلول سريعة؛ حيث إن الأحداث توضح أن الأمور تسير دون تخطيط وببطء شديد لا يتناسب مع طبيعة المرحلة؛ فقضية الانتخابات البرلمانية مازالت قائمة، وكم سيكون تكلفتها من الضحايا في ظل الانفلات الامني ؟ وهل حقا اختلفت الخطط والرؤى بين العهد السابق والان ؟ ومن ستتم محاسبته على النتيجة؟.. هذه مرحلة جديدة من النيران الصديقة التى ستأكل من تبقى من الرداء .