وقع “ويكيليكس” الإلكتروني فضح السياسة الأمريكية

د. خالد محمد غازي

علي موقع “ويكيليكس” الالكتروني نشرت آلاف الوثائق السرية حول مدي الدور الذي لعبه الجيش الأمريكي في حروب القرن الجديد في كل من: أفغانستان، والعرا.. فهل تتحرك الولايات المتحدة لتحري الصدق، وإجراء تحقيقات موسعة حول تلك الوثائق، وتغسل سمعتها مما نشر، أم سينتهي الحدث (دون تعليق)؟

 

(1)

علي طريقة (إن أخذت فلابد أن تعطي)، جاء خبر القبض علي مؤسس موقع “ويكيليكس” لنشر أدق الأسرار والفضائح السياسية، لاسيما بعد نشره أربعمائة وثيقة سرية تكشف انتهاكات الجيش الأمريكي إبان غزو العراق؛ ليفتح بابًا جديدًا للالعاب والمناورات السياسية التي تمارس علي مستوي عالمي، حيث يظهر من مراسم الاحتفال والاحتفاء به خلال نسج خيط جديد من نظرية المؤامرة التي رسمت، إذ تمكن المدعو جوليان إسانج، رجل العام كما صنفته إحدي كبريات الصحف الأمريكية، من الحصول علي الوثاثق ونشرها، وآن له أن يستريح سياسياً وأن يرد ما أخذ، عبر تشويه صورته والتحرش بسمعته حتي يتثني ضرب المصداقية التي حققها موقعه الخاص مؤخراً.  فقد بدأت اللعبة التي تتنوع أسبابها وتتعدد، خلال محاولة إفشال طلبه للحصول علي حق اللجوء السياسي إلي سويسرا، بتوريطه في جرائم اغتصاب  واعتداء جنسي بحق امرأتين خلال وجوده في السويد في أغسطس الماضي – حسب مذكرة الاعتقال التي أصدرها القضاء السويدي ضده – فمؤسس “ويكيليكس”، والذي يبلغ من العمر تسعة وثلاثين عامًا، والاسترالي الأصل، والموجود حالياً في بريطانيا، أبدي استمراره في كشف المزيد من الوثائق خلال الفترة المقبلة بعد نقل موقعه إلي سويسرا.

 

(2)

السؤال الآن الذي يفرض نفسه: إلاما يهدف هذا الاتهام؟، هل يهدف إلي تكسير الاهتمام الذي حظي به جوليان عالمياً، أم أنه نوع من التهديد له حتي يتوقف عن مزاولة أفعاله ونشر الفضائح، أم أن طلبه اللجوء صنع حوله شبهات هروبه للحصول علي حماية من الأيدي التي تفكر في أن تطوله والاستفادة من القوانين الصارمة التي تطبقها سويسرا في حماية الصحفيين، خاصه أنه وفي آخر مؤتمر صحفي له في جنيف، أكد أنه بصدد الكشف عن وثائق جديدة تطال الحرب في أفغانستان ولبنان عن قضية محاكمة قتلة رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري؛ ويترتب علي ذلك الوقوف علي من وراءه ،  فهل سيكون صاحب هذه المحاصرة له وملاحقته دولياً عبر الإنتربول ضالعة فيها أطراف متورطة في جرائم أخري في أفغانستان ولبنان، أو ربما هناك استكمال للوثائق الخاصة بالعراق، أم أن وراءه الخلاف القائم بينه ووزارة الدفاع الأمريكية، أم صقور الإدارة الامريكية (الديموقراطيون الجدد) الذين قاموا بتسريب الوثائق لضرب الجمهوريين بعد نجاحهم بأغلبية في الكونجرس – هذا في رأي البعض –  وتحسباً لمعركة انتخابية محتملة بين قطبي السياسة في الولايات المتحدة الامريكية، أم أن القضية كلها تتعلق بأجهزة مخابراتية بالدرجة الأولي، خاصة أنها برمتها تحكمها دوافع سياسة؟.. فالاسئلة لا تتوقف والإجابات تعاني المخاض والاهتزاز .

 

(3)

فقد نشر موقع “ويكليكيس” نحو 400 ألف وثيقة أمريكية سرية عن سنوات الحرب في العراق، كشفت أسرار ما جري علي مدي خمس سنوات كاملة، قامت خلالها القوات الأمريكية بالتعذيب، وتدبير المؤامرات، وقتل، ودمار، وانتهاك لحقوق الإنسان العراقي، الذي خضع إلي فنون التعذيب والتفنن في خلق مثل هذه الوسائل. وبالرغم من كل الأصوات التي علت من قبل منظمات حقوق الإنسان في العالم، خاصة في العراق، لتطالب بالتحقيق الدولي عن هذه الجرائم، وكشف السجون السرية التي كانت تمارس بها هذه الوسائل غير الإنسانية والأخلاقية، إلا أنه لم يتحرك ساكن، بل كانت القوات الأمريكية علي علم واضح ومكشوف بما يجري في هذه المعتقلات، ولكن تعليمات “دونالد رامسفيلد” وزير الدفاع الأسبق في ولاية جورج بوش الابن، فرضت سياجًا من غض النظر عنها وعدم التدخل. لهذه الأسباب، دعا في صباح يوم الخميس – الرابع من نوفمبر الجاري – المعهد الدولي للسلم والعدالة وحقوق الإنسان في جنيف، لتنظيم مؤتمر صحفي حظي باهتمام الصحافيين كافة، وكذا متابعي الشئون الأمريكية، وراصدي آخر التطورات التي أحدثتها تلك الوثائق في السياسة الدولية، وذلك بحضور “جوليان أسانج” الذي قام بنشر تلك الوثائق للحديث عن طبيعتها، وأيضاً للوقوف علي ماهية الضغوط التي مارستها الإدارة الامريكية بسبب هذا النشر . جاء ذلك كمحاولات متوالية، تقوم بها منظمات “حقوق الإنسان” حول العالم للتضامن مع “جوليان أسانج”؛ لكشفه عورات إدارة بوش وانتهاكاته غير المبررة خلال تلك الحروب التي خاضها، خاصة بعد إشارة تقارير دولية إلي احتمالية وجود دور غير معلن للمخابرات المركزية الأمريكية C.I.A لتغييب معلومات أساسية ومهمة عن العمليات العسكرية الأمريكية في العراق وتضمين تقارير “البنتاجون” معلومات مفبركة أو مضخمة، مع إخفاء ملامح الأدوار الأمنية والمخابراتية التي لعبتها الأجهزة السرية الأمريكية؛ لذا فإن هذه الوثائق المسربة تمت وفقًا لهذه التقارير بعد إخضاعها لتأثيرات وتوجيهات من أجهزة المخابرات الأمريكية؛ بهدف تحقيق أهداف سياسية وأمنية، وتطويعها لتؤتي ثمارًا ينتظر قطافها فيما بعد.

 

(4)

وبالعودة الي أهم ما نشره “جوليان أسانج”، فإن الولايات المتحدة الأمريكية تركت القضية الأساسية التي تم تفجيرها، وتفرغت لرصد حركات المنظمة المسئولة عن الموقع، والتوعد بأنها ستضرب بيد من حديد علي يد المسئولين عن نشر تلك الوثائق، وشنت تجاههم حربًا شعواءً، فضلاً عن سيل من التحقيقات العدوانية، دون أن تلتفت قليلاً إلي خطورة ما تم نشره وما يمكن أن يلحقه بالإدارة الأمريكية .  وحسب ما تم نشره خلال وكالات الأنباء والصحف العالمية، فإن من نتائج ضغوط الإدارة الأمريكية التي تمت ممارستها علي منظمة موقع “ويكيليكس”، فإن المنظمة اضطرت إلي تخصيص “نصيب الأسد” من ميزانيتها التي تعمل بها لإحكام بعض الإجراءات الأمنية: “اضطررنا لتخصيص حوالي 70% من مواردنا المالية لتعزيز الإجراءات الأمنية والقانونية الخاصة بالموقع وبأعضاء المنظمة”، كما أكد “أسانج” ? خلال المؤتمر ? تعرّض الموقع والعديد من أعضاء المنظمة إلي “ضغوط من قبل وزارة الدفاع الأمريكية”.. مؤكداً ضرورة اتجاه الولايات المتحدة إلي الانفتاح وترك الانغلاق والتقوقع حول الذات. وكل هذه الضغوط دفعت مؤسس “ويكيليكس” إلي محاولة طلب اللجوء السياسي في سويسرا، مع نقل كل أدواته وموقعه علي الشبكة الدولية؛ حتي يتسني له تحقيق قدر عالٍ من الأمان   بعد أن فقده عقب نشر تلك الوثائق. الغريب في الأمر أن “ويكليكيس” لم يكشف مصدر هذه الوثائق التي نشرها، لكن شكوكًا حامت حول “براد لي ما نينج” المحلل في شئون الاستخبارات العسكرية الأمريكية، وهو رهن الاعتقال العسكري الآن، وكان “براد لي” قد اعتقل في مايو بعد نشر “ويكليكيس” تسجيلات مصورة عن هجوم شنته مروحية عسكرية أمريكية من طراز “أباتشي”، والذي أدي إلي مقتل مدنيين، وأدين في حينها بنقل معلومات دفاعية إلي مصدر غير مرخص.

 

(5)

ويعتبر أخطر ما تم نشره خلال الموقع هو: توضيحه بأن ما جري نشره يعد أكبر عملية نشر لوثائق عسكرية سرية في التاريخ.. وأُوْرد في بيان: أن “الوثائق توضح عددًا كبيرًا من جرائم الحرب التي تبدو واضحة من قبل القوات الأمريكية؛ مثل: القتل العشوائي لأشخاص كانوا يحاولون الاستسلام”، وتطرقت الوثائق إلي تصرف الجنود الأمريكيين الذين فجروا أبنية بكاملها؛ لأن قناصًا يوجد علي سطحها . وكشف عن أكثر من ثلاثمائة حالة تعذيب وأعمال عنف ارتكبتها قوات التحالف بحق  الأسري، كما أحصي أكثر من ألف عملية قتل من قبل القوات العراقية.. وتحدثت “الجارديان” البريطانية حينها؛ كاشفةً أن السلطات الأمريكية لم تحقق في مئات حالات العنف والتعذيب والاغتصاب، أو حتي في عمليات القتل التي ارتكبها شرطيون وعسكريون عراقيون• ومن الضروري هنا الإشارة إلي أنه: بصرف النظر عن طبيعة تلك الأحداث التي تضمنتها الوثائق أو النوايا والتفسيرات، فإن مهمة الموقع قد انتهت عند النشر، أما النتيجة أو ما يمكن تحريكه من مياه راكدة في السياسة الأمريكية من إجراء تحقيق فيها، فيعود إلي كل من يهمه الأمر، لا سيما الضحايا الذين سقطوا جراء أفعال قوات “المارينز” الواردة في تلك الوثائق، مما يبقي بين أيدينا وفي أذهاننا سؤالًا جوهريا تم تجاهله عن عمد بعد تفجير هذه الأزمة؛ وهو: ألا توجد محكمة أو جهة أو منظمة دولية لديها الجرأة علي تقديم الولايات المتحدة الأمريكية إلي محاكم دولية عادلة؛ حيث إن كل المنظمات الدولية ومؤسسات ومراكز حقوق الإنسان، ومجلس الأمن الدولي، وغيرها في فيينا أو نيويورك، تقع تحت سيطرة البيت الأبيض؟

 

(6)

ربما هذا يكون هو الدافع الذي تحرك علي أساسه “رامزي كلارك” وزير العدل الأمريكي السابق، مؤخراً، عقب اجتماع نظمته في “بيروت” الحملة العالمية القانونية لملاحقة جرائم الحرب الأمريكية في العراق، وإعلانه أن وثائق “ويكليكس” تفتح لأول مرة في تاريخ الأمم فرصة سانحة لملاحقة مسئولين أمريكيين ضالعين في جرائم حرب تم ارتكابها في حق العراق وشعبه.. داعياً إلي ملاحقة المسئولين عن جرائم الاحتلال.. مشيرا إلي أهمية الوثائق  وضرورة تعزيز العدالة الاجتماعية ومواجهة الأمور الصعبة والعنيفة، ومحاولة تخفيف العبء الذي حملته خروق سياسة الحرب للرئيس “بوش” للعراقيين، وكبدتهم خسائر فادحة، فضلاً عن نقص الموارد الأساسية؛ كالطعام والمياه، وكذلك الفوضي المستشرية فيه، وأكد أن هناك اعترافاتٍ لا تقبل الشك من قبل المعتدين ومخططي الاحتلال وبخط يديهم؛ مما يجعل إدانتهم في الصدارة خلال قياس أبعاد هذه القضية، وزاد “كلارك” علي ذلك بالقول بأنه بوصفه أمريكيا يشعر بـ”الخجل”؛ لأن في حرب بلاده علي العراق انتهاكًا للاتفاقيات والمواثيق الدولية.. ويبدو – حسبما قال سياسيون ودبلوماسيون غربيون – أن هذا السؤال سيظل حائرًا بلا إجابة (!) ومن ناحية أخري، إذا كان سبب تسريب هذه المعلومات في هذا التوقيت نتيجة خلل في الأجهزة الاستخباراتية – بدليل ظهوره رغم إحكام القبضة الأمريكية عليه – فإن الاعتقاد الذي أصبح يشبه الحقيقة؛ هو أن عملية التسريب جاءت بناءً علي تعليمات من رجال الإدارة الأمريكية الجديدة للرئيس باراك أوباما، خاصة أنه يقع علي كاهلها خلال الأوقات الراهنة مسئولية الفوز في انتخابات منتصف الرئاسة المقبلة، لا سيما ومعظم الأحداث تم تدوينها في عهد الإدارة السابقة للرئيس جورج دبليو بوش؛ وبذلك تظهر وكأنها إشارة صريحة من الرئيس أوباما، لتشويه صورة الجمهوريين، أو كما يحلو للبعض القول “توريط الجمهوريين”، أي حكام الفترة السابقة، وجنرالات الحروب الخاسرة خلال الأعوام الماضية، وشرح مفاسد حرب ومسئولية بوش الابن فيما ألت إليه الأوضاع في العراق.

 

(7)

ولكن لا يمكن فى هذا الإطار تجاهل ردود أفعال الشارع العراقى تجاه هذه الوثائق، وكيفية تقبلهم لما تم نشره من حقائق فى حق ذويهم وأصدقائهم، خاصة بعد المساحة الإعلامية التى شغلتها تلك القضية من وسائل الإعلام المكتوبة، وحملات النشر الإلكترونى على جميع المواقع الإخبارية، فضلاً عن الموقع الاجتماعى الشهير “الفيس بوك”، وكذلك المدونات الشخصية، والتى احتفت هى الأخرى بهذه الوثائق، إضافة إلى البث الفضائى الذى تزعمته قناة “الجزيرة” الفضائية القطرية خلال مشاركتها لموقع “ويكيليكس” في توظيف ونشر الخبر.غير أن الرياح جاءت بما لا تشتهى السفن؛ حيث إن هذه الأحداث التى هوت العالم لم تحرك ساكنًا فى الشارع العراقى؛ سواء السياسى أو الشعبوى، بل لم يكن لها أي رد يذكر؛   فالتجاوزات التي ارتكبتها قوات الاحتلال الأمريكى، ومن والاهم من فصائل بعض الأحزاب الدينية معلومة لدى الجميع، وخللت جروحاً عميقة فى نفس كل عراقى شريف؛ وبالتالي لهذه الحالة فلم يكن بوسع رجل الشارع العراقى أن يكون يقظاً ويدقق فى تفاصيبل تلك الفضيحة، وما حوته نصوصها، وما يختبئ من معانٍ وجرائم بين ثناياها، حتى يتمكن من معرفة الحقيقة في الأحداث التى جرت، ولا تزال تحدث منذ احتلال العراق في العام 2003 . ورغم ذلك، فهناك العديد من العراقيين ممن ينتظرون عودة ذويهم من سجون ومعتقلات العدو الأمريكى وحلفائها؛ أرباب الأنظمة الطائفية وجلاديهم، بعد أن باتت السجون فى أرض العراق مليئة بمن هم برايا من ذنوب القادة والمحتلين. وكان “أسانج” قد كشف أنه سينشر وثائقَ جديدةً تخص روسيا ولبنان، وأن “ويكيليكس” سينشر آلاف الوثائق هذا العام لا تخص الولايات المتحدة وحدها، بل تتعلق ببلدان أخرى؛ منها: روسيا، ولبنان.

 

(8)

وفى محاولة لاستطراد ما يمكن القول انه انه بيان للمسئولية الحقيقة حول هذها الجرائم، ومدى مسئولية الولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها رأس الحربة في تلك الممارسات، واحداث تدمير وقتل ومراعاة نشر التطرف المذهبى والشحن الطائفى، حيث ساهمت القوات الامريكية فى خلق ظروف مواتية لاية أطراف اخرى للتدخل ؛ لاسيما ايران ؛ اى فتحت الدولة على مصراعيها لكل من اراد التدخل فى الشئون الداخلية، حيث تقاسموا الساحة بالترويج للفوضى ونشر الافكار الهادمة للدولة ومؤسساتها ؛ لتخدم مصالحهم واغراضهم واهدافهم المعلوم منها والمستتر خلال سياسات ملتوية تعتمد على التحريض، وتسليح المليشيات الخارجة على القانون، لتنفيذ عمليات اجرامية من شأنها القضاء على وجود بعض الرموز الهامة فى الجيش مثلاً، وتدمير مبان الحكومة والتجمعات التى يصنعها الزحام الشعبى وأخراً بعض المقرات والسفارات التايعة لمعظم الدول العربية، خلال اطلاق صواريخ متتابعة  أو تجهيز سيارات حاملة المئات من القنابل التى يدفع ثمنها فى نهاية المطاف الرجل العراقى بشكل يصبح عندها الثمن أكثر من باهظ، دفع الإنسان العراقي من خلالها الثمن الباهظ.