د.خالد محمد غازي
من المتعارف عليه في ملاعب السياسة في العالم – التخطيط والممارسة – أنها لم تَخْلُ على الإطلاق، وفي أي فترة من الفترات عبر التاريخ، من المؤامرات والمتآمرين، حيث باتت المؤامرة الوجه الأساسي لممارسة السياسة، إلا أن هذا ليس معناه أن السياسة ليست إلا مؤامرات، وإنما أن المؤامرة واردة في عالم السياسة بشكل كبير وأساسي، بوصفها أحد أهمّ الأوجه والسلوكيات لتلك الممارسة، لذلك لا يصح أن يتضمن نقدُ العقل التآمري، نفيَ وجود المؤامرة، أو التقليل من أهميتها، أو النظر إليها على أنها سلوك محض هامشي.
(1)
من المعلوم أن الآراء تختلف حول الذين يتأمرون دولياً؛ هويتهم، وطبيعتهم، والظروف المحيطة بيهم، فهناك من يرى أن اليهود يشكلون الصفوف الأولى في هذا التشكيل، وأنهم يزاولون أنشطتهم الخاصة التي تجري فيها عروق السرية، عبر مؤسسات ومنظمات محترفة وقوية مثل “الماسونية” و”الحركة الصهيونية العالمية”، وأنهم يقفون خلف باب المصائب الكبرى، التي تحيق بالعالم بين الحين والآخر.
وهذه نظرية ليست صحيحة على الدوام، رغم اعتناقها بشكل كبير في المنطقة العربية، حيث تحفل المكتبات العربية بالكتب التي تتناول المؤامرة والمتآمرين..
الزعيم النازي أدولف هتلر، كان متأثراً بنظرية المؤامرة إلى حد الهوس، واعتقدَ أن اليهود يتآمرون ضد الأمة الجرمانية، في حين يذهب آخرون إلى أن الدول الصناعية الأوروبية الكبرى؛ في اتحاد شركاتها العملاقة متعددة الجنسيات معاً؛ تمثل مؤامرة على الاقتصاد العربي، وتتحكم بشكل ما في القرار السياسي. وهناك من يرى ذلك أيضاً في الكنيسة الكاثوليكية والملَكيات الأوروبية. ورغم تعدد الآراء واختلاف أوجه النقاش والتناول، يبقى المعنى الأصيل والمتأصل في النفوس: أن المؤمراة في السياسات التي تشكل العلاقات الدولية والعالمية، تتحكم فيها حركات صهيونية معروفة.
وهناك من يؤشر بأصابع الاتهام على الماسونية، التي عُرف عنها أنها تسعى للسيطرة على العالم؛ ويتبنى هذا الرأي البشر المحبطون بخاصة؛ حيث يعلّقون أسباب التخلف كلها بالماسونية وأشباهها، ومما سمعه كاتب هذه السطور عن نظريات المؤامرة: أن هناك بضعة أشخاص يقودون العالم بأسره. ومن النظريات أيضاً أن إبليس أو الشيطان يتحكم بقرارت العالم..
(2)
وجاء في القواميس والموسوعات العالمية –حتى لا ننسى– وفي موسوعة “ويكيبيديا” على شبكة الإنترنت بخاصة، أن نظرية المؤامرة تسود في الدول العربية والإسلامية، والمتَّهم بالتآمر هو هنا الغرب، ضمن محاور من أبرزها تدمير الثقافة والعادات والأخلاق العربية والإسلامية، ويتم ذلك عن طريق استخدام وسائل الإعلام الحديثة، كالتلفزيون بما يبثه من إعلانات وأفلام ذات مضامين منافية للعرف الشرقي المحافظ؛ من عري وإثارة للغرائز وترويج لنمط العيش الغربي بترفه وبذخه، ومحاولة إسقاطه على الواقع العربي والإسلامي.. والأصل في ثقافة المجتمع الشرقي أنه مجتمع صاحب قضية لعروبته وصاحب رسالة بإسلامه، الأمر الذي يدعو بعضهم للاعتقاد أنها محاولة لإلهاء العقول عن قضايا الأمة.
ومن الوسائل الحديثة التي تسهم في تكريس ما يؤمن به بعضهم من وجود مؤامرة على الأمة، الإنترنت “شبكة المعلومات الدولية”؛ بما تحتويه من مواقع إباحية، وما تسمح به من نشر مواد محظورة قانونياً.
هذه المؤامرة ذات نتائج وتداعيات واسعة وملحوظة على الشباب من الجنسين، الذين يتّجهون بوتيرة متسارعة إلى تغيير نمط الملابس التي يرتدونها، نحو العري والإثارة.
ومن الملاحَظ في سياق متصل، العزوف عن الطرب العربي الأصيل إلى الموسيقى الغربية كالروك والراب.
ومن عناصر نظرية المؤامرة: تلويث البيئة والعبث بالصحة العامة، فقد تم اتهام مسؤول مصري بالتطبيع مع إسرائيل وتسهيل إدخال مادة سماد مسرطنة. كما قررت إدارة المرور في مصر قياس عادم السيارات عند الترخيص، وتم اكتشاف عدد هائل من السيارات التي تشتمل على أجهزة تبث مادة ملوثة مع العادم في الهواء، وبعدها بأقل من شهر تم إيقاف قياس نسبة العادم عند الترخيص.
(3)
الكثير من المثقفين العرب -على اختلاف توجهاتهم الفكرية- سواء كانوا إسلاميين أو ليبراليين؛ يرون أن الأحداث العالمية تتم وفق تخطيط منظم من طرف فاعل وموجه ضد العرب بوجه العموم، أو المسلمين بشكل خاص. هذا التحليل لنظرية المؤمراة ليس خاطئاً، لكنه ليس صحيحاً تماماً، لأنه في أغلب الأحوال لا يمكنن الوقوف على التفسيرات الصحيحة والحقيقية التى تقف خلف الأحداث والمبادرات والتحركات العالمية في المحيط السياسي.
التفكير وفق منطق هذه النظرية ليس مقتصراً على العرب وحدهم، بل هو موجود أيضاً لدى بعض النخب في كبرى القوى بالعالم، مثل الولايات المتحدة الأمريكية، التي تمثل المؤامرةُ جزءاً لا يستهان به في منهجها، مهما حاولت إبعاد تهمة المؤامرة عن نفسها. وهذا يؤكد حجم حضور منطق المؤامرة واستهجانها معاً في الثقافة الأمريكية، حتى الأكاديمية منها!
رفض منطق المؤامرة كطريقة للتفكير، مسلكٌ يتسم بالعلمية، لكن ذلك لا يعني أن أحداث الواقع تجري كلها بطريقة منطقية أو منهجية أو واقعية.. وهنا، لا بد من القول إن تفسير الأحداث بشكل علمي يحتاج إلى معرفة وجهد وبحث لأبسط الأمور، وقدرة عقلية على التحليل والتركيب، وهذا لا يتوفر لكثير من الناس، مع وجود الحاجة الملحّة لدى كلّ امرئ لتفسير ما يجرى من أحداث، بخاصة ما يكون غامضاً أو مبهماً منها.. وفي هذا المنحى تعدّ “نظرية المؤامرة” أحد أهم الحلول القادرة على إعطاء تفسيرات منطقية ومتزنة، من خلال أبسط الطرق في التفكير النمطي المعتاد، فإذا تمّ توجيه هذا التفكير نحو إحدى وسائل الإعلام التي تتبع الأجهزة الحكومية بجميع مستوياتها وتأثيرها، بما يتسم به أداؤها من تخبط وعدم شفافية، حيث تخفي أكثر مما تعلنه غالباً، فضلاً عن انعدام المعلومات المستنيرة كافة، وغياب الثقة واختلاف التفسيرات وتضاربها، فإن نظرية المؤامرة تصبح وسط هذا الضجيج المفتعل “الحلَّ الأنسب”، في ظل غياب التفسير السياسي المنطقي الذي يرضي العقول.
(4)
وفي نظرية المؤامرة يتم التعامل مع أداتين هما: الاستدراج، والاختراق. والاستدراج لا يقف عند التصور الضعيف الفطري حول نصب كمين للإيقاع بطرفٍ ما مستهدَف بأمر معين، رغم أن هذا النحو يحدث، وإنما يدل على ابتكار موقف أو قضية معقدة تضطر الضحية إلى الوقوع خلالها في ما يريدونها أن تقع فيه. والاختراق قائم وموجود، وسوف يظل، لكنه ليس مرتبطاً بالضرورة بالعمالة أو الخيانة قدر ارتباطه بضعف الأطر والنظم والسياقات القائمة، التي تتلخص في تضعضع المناعة الوطنية، لذا فالتفسير التآمري لبعض الأحداث قد يصير مقبولاً في ظل ضوابط تحتاج إلى المراجعة والتدقيق.
هذا الميل إلى التفسير التآمري للسياسة، والذي يُعدّ المجال الأوسع نطاقاً للخرافة السياسية في العالم العربي، يتسم بأنه وصل في عصر ثورة المعرفة إلى مستوى لا سابق له في تاريخ العرب الحديث.
وهكذا، فإن انتشار العقل الذي يستوطنه التفكير الخرافي، يمثّل أساساً لافتراض وجود مؤامرات وراء كل فعل سياسي أو أي حدث من الأحداث التي تمر علينا، لذا فمن الضروري أن ينصبّ جهدنا على التفكّر في أسباب ارتهان العقل لهذا النمط غير العلمي الذي لا يمكن تفسيره بمجرد الجهل المعرفي، ولكن من خلال النظر إليه كحالة من الانزياح المرَضي في التفكير، وسيلتُه في التغلب على كل معضلة، هي في البحث عن خطط أو ترسيمات مسبقة مريبة يؤمن بوجودها وبخبثها.
هذا كله، لا يكفي لفهم انجرار النخب إلى تسطيحات كهذه تفتقر إلى المنطق، تظهر في خلفيتها أشباحُ فشلٍ متراكم على مدى عقود طويلة.