د. خالد محمد غازي
نعيش هذه الايام حالة من الترقب والانتظار؛ لما ستسفر عنه رياح التغيير التي هبت علي ارجاء الوطن العربي ، وجعلت الشعوب العربية تطالب بالتغيير وإسقاط الأنظمة الحاكمة ، والبحث عن الديمقراطية بشتي أشكالها وألوانها، ووسط صخب الاحتجاجات والمظاهرات العربية ، ألقت المحكمة الدولية في قضة اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري كرة من اللهب في لبنان؛ فازدادت النيران اشتعالا، وكأنها تؤكد أن مصائر الشعوب العربية ليست بأيديهم، وأن هناك من يحيك لهم العديد من المؤامرات، ويحاول جاهدا النفخ في رماد الخلافات والفتن الداخلية في هذه الدول؛ حتي تظل مشغولة بنيران الطائفية، والانقسام ، ولا تفكر أبدا في المستقبل؛ وذلك بعد أن أعلنت المحكمة مذكرة توقيف في حق أربعة من قيادات حزب الله؛ بشأن اغتيال الرئيس الحريري.
(1)
لقد أنقذ القدر لبنان من فتنة شيعية – سنية ينقسم المسيحيون بينهما؛ بسبب صدورالقرار الاتهامي، لأنه ساق إلي البلد نجيب ميقاتي رئيسا للحكومة في هذا التوقيت، علي عكس ما كان البعض يظن ؛ فلو صدر القرار في ظل وجود حكومة قوي 14 آذار برئاسة سعد الحريري “السابقة”؛ لكان احتمال الانفجار هو الأقرب بنسبة كبيرة.
ورغم هذا فإن ميقاتي بين شقي رحي؛ الأول: قوي “14آذار”، والتي تعتبرها وسيلة لتحقيق العدالة، وكشف المتورطين في الاغتيال، ولوقف القتل السياسي في لبنان، وقوي “8 آذار” والتي تعتبرها أداة لمؤامرة أمريكية ـ إسرائيلية تتورط فيها قوي داخلية للنيل من حزب الله والمقاومة، ولإحداث فتنة داخلية لصالح إسرائيل، فقد اعتبرت هذه الآراء معادلة ميقاتي تماثل معادلة الجيش ـ الشعب ـ المقاومة كاستراتيجية دفاعية عن لبنان التي طرحتها الحكومة السابقة كصيغة وسط تخص الطرفين أيضا، علي خلفية السجال حول سلاح المقاومة والحزب.. وأمام هذه المبارزات اللبنانية – اللبنانية، فإن لبنان – بلا شك – مقبل علي فتنة كبري ما لم تتحرك كل القوي اللبنانية لانقاذ دولتهم من رحلة إلي الماضي والمزيد من الحروب الداخلية التي قد تقضي علي مستقبلها.
(2)
الطامة الكبري في القضية أنه بمجرد أن تسلم المدعي العام اللبناني القاضي “سعيد ميرزا” مذكرات التوقيف من وفد المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، والتي تضمنت أربعة أشخاص؛ هم: حسن عنيسي، ومصطفى بدر الدين، وسليم عياش، وأسد صبرا، وأوضحت أن اسم سامي عيسى – الذي أورده القرار – هو نفسه مصطفى بدر الدين، وكان يستخدمه الأخير للتمويه؛ وهم جميعا من كوادر حزب الله. أصبح لزاما علي السلطات اللبنانية تنفيذ قرار المحكمة الدولية بشأن اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري.. موضحا أنه في حال رفض لبنان التجاوب مع قرار المحكمة فسيواجه مشكلة دولية، وهكذا يكون بمثابة نقض للاتفاق بينه وبين الأمم المتحدة.
وإنه في حال رفض لبنان التجاوب مع المحكمة، فإن مجلس الأمن يتصرف تحت البند السابع والفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وتحديدا المادة 41 والـ 42 من هذا الفصل، يتحول مجلس الأمن لأخذ تدابير استثنائية ذات طابع اقتصادي اجتماعي، سياسي، عسكري، وهذا يجب ألا يسمح له بالحدوث.
وبحسب خبراء قانونيين، فإن أمام لبنان مهلة ثلاثين يوما لتنفيذ مذكرات التوقيف، وفي حال عدم توقيف المتهمين خلال هذه المهلة، تنشر المحكمة الدولية علنا القرار الاتهامي وتطلب من المتهمين المثول امام العدالة ؛ ويأتي الاعلان عن تسليم القرار الاتهامي إلى السلطات اللبنانية غداة إعلان الحكومة اللبنانية توصلها إلى صيغة “مقبولة من جميع الاطراف”، حول الفقرة المتعلقة بالمحكمة الدولية، وهي الفقرة الأكثر حساسية في البيان الوزاري لحكومة ميقاتي التي شكلت في 13 حزيران/ يونيو 2011
وينقسم اللبنانيون بين مؤيد للمحكمة ورافض لها، إذ يتوقع حزب الله أن توجه إليه المحكمة الاتهام في الجريمة، ويطالب بوقف التعاون معها، في حين يتمسك بها فريق رئيس الحكومة السابق سعد الحريري وحلفاؤه. وهو الامر الذي زاد من صعوبة الموقف، وجعلها تدخل طريقًا مسدودة قد تصل في النهاية إلي حرب أهلية ؛ خاصة ونحن نجد أن سعد الحريري ، أكد عقب صدور قرار المحكمة الدولية في جريمة مقتل والدة ، أن لبنان يعيش لحظة تاريخية مميزة في حياته السياسية والقضائية والأمنية والأخلاقية. و”أننا ناضلنا جميعا من أجل هذه اللحظة التاريخية، وارتضينا ألا ننتقم وألا نحقد واتكلنا على الله سبحانه وتعالى وبدأنا مسيرة طويلة مكلفة”.
وأكد أن الحكومة اللبنانية مدعوة – سياسيا ووطنيا وقانونيا وأخلاقيا – إلى تنفيذ التزامات لبنان تجاه المحكمة الخاصة بلبنان، ولا حجة لأحد في الهروب من هذه المسئولية.. مشددا على الجميع الامتناع عن التشويش على مسار العدالة.
ودعا الحريري إلى أن “نجعل من الإعلان عن صدور القرار الاتهامي فرصة لقيام الدولة اللبنانية بمسئولياتها، والتزام الحكومة اللبنانية بالتعاون الكامل مع المحكمة الدولية”.. مشيرا إلى أن تسليم المتهمين للعدالة يعتبر ضمانة للديمقراطية والاستقرار؛ وهو الأمر الذي يؤكد أن الحريري متمسك بضرورة تسليم المتهمين إلي المحكمة والقصاص منهم.
في حين نجد موقفا معاكسا تماما من الشيخ حسن نصر الله أمين عام حزب الله اللبناني، والذي أكد أن قرار الاتهام الصادر عن المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بلبنان، هو خطوة في طريق طويل، يستهدف حزب الله منذ انتصاره على إسرائيل في العام 2006 .. واعتبر نصر الله أن الهدف الخاص من وراء اختيار توقيت إصدار القرار الظني للمحكمة الدولية، هو بث الفتنة بين السنة والشيعة في لبنان والعالم العربي والإسلامي.
وأضاف نصرالله: إن أهم الإشكالات الأساسية حول التحقيق الدولي، أنه أخذ مسارا واحدا؛ الأول: كان سوريا والضباط الأربعة، ثم انتقل إلى مسار حزب الله، ولم ينظر قط في فرضية المسار الإسرائيلي، فالقاضي ” بلمار” أو أحد في المحكمة لم يحرك ساكنا تجاه ما قدمناه من أدلة وبراهين عن تورط إسرائيل، ووجه نصر الله سؤالا لبلمار قائلا: لماذا قامت لجنة التحقيق بنقل سبعة وتسعين كمبيوتر، تحتوي على اعترافات ووثائق سرية إلى لاهاي عبر إسرائيل؟ ولماذا لم تتم عملية النقل من خلال مرفأ او مطار بيروت؟.. لافتا إلى أن إسرائيل من أكثر الدول المتطورة على المستوى التكنولوجي، وقدم الدليل على قوله بمستندات من إسرائيل.
(3)
إن استقراء التصريحات السابقة، يُجْلِي رفض حزب الله قرار المحكمة الدولية وهو ما يضع حكومة ميقاتي في مأزق كبير، ربما يعصف باستقرارها واستقرار لبنان كله، وهو الأمر الذي يزيد المشكلة تعقيدا. ورغم كل هذا فلابد أن نعترف بأن موقف رئيس الحكومة نجيب ميقاتي كان معتدلا، فقد ترك ارتياحا كبيرا في صفوف جمهور المقاومة، عندما قدم نفسه كمسئول متفاعل مع مشاعر كل اللبنانيين على ضفتي الوجع من الجريمة والوجع من الاتهام، وبدا شديدَ الوضوح والشفافية في تأكيده علي أن مبدأ المحكمة بالبداية كان يحظى بالإجماع، ولكن مسيرة ما بعد لحظة الانطلاق بها شابتها شوائب وظواهر أدت إلى تفسخ الإجماع وانشطاره حول هذا المبدأ.. وحذر من تبعات أخذ البلد نحو الفتنة.. ودعا إلى التعقل والتبصر في رحلة البحث عن الحقيقة دون مواربة. وأن القرارات الاتهامية – أيا كان مصدرها – ليست أحكاما، والاتهامات تحتاج إلى أدلة دامغة، وكل متهم بريء حتى تثبت إدانته.
فميقاتي قال إنه مطمئن بعد الاتصالات التي أجراها، وأنه لن تكون هناك فتنة في لبنان نتيجة لصدور القرار الاتهامي، وأن الحكومة ماضية في عملها بعد إقرار البيان الوزاري، وتتطلع إلى نيل ثقة مجلس النواب.. معللًا ذلك بقوله: “لأننا لا نريد أن نخلق حالة من الذعر والهلع والتوتر في البلاد، نتيجة قرار دولي ليس بيدنا، والأمور جيدة إن شاء الله، وستأخذ مجراها الطبيعي؛ سواء فيما خص القضاء اللبناني والنائب العام، الذي تقع عليه، لا على الحكومة مسئولية متابعة إجراءات المحكمة والقرار الاتهامي، أو فيما خص عمل الحكومة”. وهو ما يعني تنفيذ مذكرة التوقيف من اجل تفادي المشكلات الكثيرة التي قد تحدث.
(4)
إن الموقف الامريكي كان أكثر ذكاء؛ حيث رفضت الولايات المتحدة الظهور كلاعب أساسي في اللعبة؛ وهو ما أكده الناطق باسم وزارة الخارجية الأمريكية مارك تونر، والذي امتنع عن مناقشة مضمون القرار الاتهامي الصادر عن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، لكنه رأى أن صدور القرار الاتهامي بحد ذاته يعتبر “خطوة مهمة في اتجاه العدالة، وإنهاء الحصانة للاغتيالات السياسية في لبنان”.. وقال إن حكومته ستعلق على مضمون القرار لاحقاً.. وشدد على ضرورة تنفيذ الحكومة اللبنانية واجباتها وفقا للقرار الاتهامي، أي توقيف المتهمين و”من الواضح أننا نريد نهاية هذا الفصل في تاريخ لبنان، وهذا يتطلب اتخاذ الخطوات الأخرى. وبالنسبة للحكومة وما نطلبه منها، فقد كنا واضحين بأننا نريدها أن تطبق واجباتها الدولية، وهذا يتضمن تنفيذ تعهداتها للأمم المتحدة وللمحكمة الخاصة” بلبنان.
وامتنع “مارك” عن التكهن بموقف واشنطن، إذا رفضت الحكومة اللبنانية توقيف المتهمين؛ قائلاً: “دعونا لا نستبق الأمور.. وسنرى ما الذي ستقوم به الحكومة اللبنانية لاحقاً. نحن نتوقعها أن تتخذ الإجراءات، بالتزامات الحكومة السابقة للامم المتحدة، وعلى هذه الحكومة الجديدة ان تلتزم بهذه التعهدات”.
(5)
علي أية حال فإن ميقاتي يحاول إيجاد حل لمعادلة المصلحة الوطنية ـ العدالة ـ المستقبل؛ لإرضاء طرفي الخلاف حول المحكمة.. فقوي “14آذار” التي تعتبر وسيلة لتحقيق العدالة وكشف المتورطين في الاغتيال، ولوقف القتل السياسي في لبنان، وكذا قوي “8 آذار” التي تعتبرها أداة لمؤامرة أمريكية ـ إسرائيلية تتورط فيها قوي داخلية للنيل من حزب الله والمقاومة، ولإحداث فتنة داخلية لصالح إسرائيل؛ فقد اعتبرت هذه الآراء معادلة ميقاتي تماثل معادلة “الجيش ـ الشعب ـ المقاومة” كاستراتيجية دفاعية عن لبنان، طرحتها الحكومة السابقة كصيغة وسط تخص الطرفين أيضا علي خلفية السجال حول سلاح المقاومة والحزب.
فميقاتي جاء من موقع وسطي إلي حد كبير؛ لصداقته برفيق الحريري من ناحية، واختيار قوي “8 آذار” له لتشكيل هذه الحكومة من ناحية أخري، فإن التحفظ واجب، فالحسابات السياسية والطائفية في لبنان تدخل فيها الارتباطات والمصالح الإقليمية والدولية لجميع الأطراف علي حد سواء، وما يطمئِن اللبنانيين حتي الآن هو عدم وجود قرار دولي بتفجير لبنان، واستبعاد احتمال تصعيد حلفاء سوريا في لبنان (قوي8 آذار) الموقف في ضوء انشغال سوريا بأحداثها الداخلية، وسط سجال كل من قوي 14و8 آذار؛ حول العدالة من جهة، والمؤامرة من جهة أخري، فإن التحدي الذي يواجه لبنان الآن هو كيفية التعامل مع القرار؟.. فحسب الاتفاقية التي وقعتها الحكومة برئاسة فؤاد السنيورة مع الأمم المتحدة، وبروتوكول التعاون بين الطرفين بشأن المحكمة عقب اغتيال الحريري (2005) والإجراءات التي حددتها المحكمة، فقد تمت الخطوة الأولي بتسليم القرار إلي مدعي عام التمييز (النائب العام) سعيد ميرزا، أما الخطوة الثانية، فهي التحدي؛ حيث يقوم ميرزا بتكليف السلطات الأمنية بإلقاء القبض علي المتهمين الأربعة من عناصر تنتمي لحزب الله! ثم الخطوة الثالثة بتسليم المتهمين إلي المحكمة في لاهاي، أي انتقالهم إلي خارج لبنان!!
فمن سيلقي القبض؟ ومن يسلم ؟ في ضوء التقسيم الطائفي لوظائف الدولة العليا والانتماءات السياسية؟؛ فالنائب العام ميرزا، والمدير العام لقوي الأمن الداخلي اللواء أشرف ريفي محسوبان علي قوي 14آذار. ورئيس الحكومة ميقاتي، ووزير الداخلية مروان شربل، هما حكومة متهمة بأنها حكومة حزب الله (!) هذا التحدي لربما كان وراء دعوة ميقاتي للتعامل مع القرار بتعقل وتبصر بمسئولية وواقعية في إطار القانون، في ضوء غياب المتهمين عن الأنظار، فأي محاولة لملاحقتهم في أماكن معينة، واتهام أي طرف بالتستر عليهم قد يفجر الأوضاع في لبنان، وهو أمر مستبعد في ظل إمكان المحاكمة غيابيا حسب مايري فقهاء في القانون الدولي؛ لذا فإن الحل هو التعقل في اتخاذ القرار، ولابد أن تجتمع جميع القوي في لبنان سنة وشيعة نصرالله والحريري، في وجود العديد من الأسماء الأخري؛ لكي يتم الاتفاق علي أمر واحد؛ وهو: ضرورة أن تتجنب لبنان ويلات الانقسامات والحروب الطائفية وليذهب إلي الجحيم كل من يحاول إيقاظ الفتنة.