خالد محمد غازي ، عاشق للقصة القصيرة ، فهو منذ أعوام ليست قريبة يكتب الدراسات والمقالات ويناقش عشرات المبدعين عبر حوارات منشورة ، إضافة إلى أعماله التي ظهرت في كتب سميكة تأتي أهميتها من أهمية اختياراته لنوع المعلومات التي يكتب عنها ، منها كتابه المهم “الطوفان” عن العولمة وفك الثوابت وتحطيم الهوية ، وكتابه “مي زيادة .. سيرة حياة وأوراق لم تنشر” الذي يحكي فيه عن حياة الأديبة الراحل “مي زيادة” وكتابه “الحرب السّرية في أرض العرب” وكذلك “القدس سيرة مدينة” ، لكن ذلك كله لا يوازي هيامه بالقصة القصيرة . ويأتي اهتمامه بهذا الفن منذ أول رواية قرأها وتشبث بأبطالها ، لذلك أصدر في عام 1994 كتابه النقدي الموسوم “القصة القصيرة في أدب المرأة السعودية” .. تلك بعض أعماله المنشورة ، إلى جانب كتابات منوّعة ومهمة مازالت تحت الطبع وتحت الاختيار ، ناهيكَ عن اهتماماته المتشعّبة في الشأن السياسي العربي والعالمي ، والذي عرفناه في كتابيه “الطوفان عام 1998 و”طريق الخداع .. سّري للغاية” في السنة نفسها . كل هذه الكتابات – كما يبدو – لا تعنيه في الصميم ، وإنما أراد لنفسه “القصة القصيرة” حاكماً عليه ومحكوماً بها ، حتى أنه لا يسألك رأيك فيما قرأت له من أعمال “ذكرناها سلفاً” بل يرى في رأيك عن قصصه أساساً لمستقبله الإبداعي وجواباً على مستقبله المهني والفني معاً ، وله الحق طبعاً في ذلك ، حيث أن القصة القصيرة – كما جاء في كلام جان بول سارتر – ستبقى هى الفن الأكثر صعوبة بين تقنية الفنون الإنسانية .
“الرحيل عن مدن الهزائم” هى المجموعة الثانية بعد مجموعته البكر “أحزان رجل لا يعرف البكاء” التي صدرت عام 1992 والتي كانت – كما يقول عنها – بداياته الخجولة ، والعجيب في شأن القاص “خالد محمد غازي” هو أنه أصدر أحد عشر كتاباً بعد مجموعته تلك وكلها أعمال لا علاقة لها بالقصة القصيرة أو الرواية ، بل يوشك بعضها أن يكون من عالم بعيد – نسبياً – عن فن القصة القصيرة كما هو الحال – مثلاً – مع كتابه “حياة ورجال وأسرار” الذي كتبه عن الممثلة المصرية المعروفة “فاطمة رشدي” عام 1998 ، وكذلك نقول أيضاً عن كتابه “أنبياء وقتلة” وهو كتاب يبحث في التطرف الديني والعنف السياسي في مصر عبر فترات زمنية مختلفة في أثرها وتأثيرها على نبض الشارع العربي المصري ..فما هو سرّ هذا الصمت عن كتابة القصة ولمدة تزيد على ثمانيةِ أعوام، مع أنه جدّ حريض على هذا اللون من الكتابة ؟! هذا الاستفسار يدفعني – في الوقت نفسه – إلى القول : بأن القصة القصيرة والرواية معاً ، بحاجة كبيرة إلى حالة من حالات التفرغ لدى كاتبها ، وهو الحال الذي لا بتوفر – حتى الآن – في شخص أديبنا المجتهد خالد محمد غازي الذي نعرف كثرة انشغالاته وحركته الدائبة وحرصه على نشر أعمال أدبية – لمجموعة ليست قليلة من أدباء وشعراء الوطن العربي – لها مستواها بين بقية دور النشر ، إلى جانب عمله كصحفي ورئاسته لتحرير لـ”وكالة الصحافة العربية” ، كما أنه مايزال يكتب ويطبع وينشر أعماله الفكرية والسياسية والفنية والاجتماعية ، وكلها تحتاج إلى وقت ليس بالقصير.. وكل ذلك إنما حصته من جرف الإبداع ، وبالتالي من شاطئ القصة القصيرة أولاً .
هذه المجموعة “الرحيل عن مدن الهزائم” صدرت عام 1993 بطبعتها الأولى عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، وأمامنا الطبعة الثانية التي صدرت حديثاً عام 1999 ، وفي القصص جميعها – وعددها 23 قصة – سينتابك إحساس ملحوظ عن طبيعة كتابات خالد غازي ، حيث تشترك قصصه في شطب ملامح”البطل” أو ربما كان البطل هو “نفسه” المؤلف – الراوي : مثال ذلك : – منذ زمن لم أكتب إليكِ “أحزان حارتنا القديمة” ص 123 – المسافات التي تفصلنا عن بعض ليست كبيرة “محاولة” ص 89 – وحيداً ، خرجت أبحث عن كوة مجهولة من نور ، توتي يسابقني إليها “الليل والحلم” ص 9- أريد أن أكتب كلاماً لا يثابه كلام الناس “قالت : اذكرني” ص 24
كما تعتمد القصص – ربما جميعها – على انثيالات شاعرية تصبّ في مخاطبة الآخر ، البعيد ، الغائب ، الذي عادة ما يكون “المعشوقة” المتمردة أو “الحبيبة” الغاضبة أو “امرأة” ما في ذاكرة الرأس حلّت ذات سنة أو هدبت من عالم “الأحلام” ليبقى بطل القصة يبحث ويسأل ويكتب عنها ، ربما مجموعة أُخرى من قصص “الحلم” و”الهجرة” و”الهزائم” .. خذ مثالاً على ذلك قوله : – لماذا نجفف الدمع بالأمل رغم أن الأمل والخرف يتعانقان ؟ “قصة : في انتظار الغائب” صفحة 44 – أنا ، أنا أريدك أنت ، أريد أن نتوحد ، ألا ترغبين في ذلك ؟ “قصة : البحث عن شئ ضائع” صفحة 84 • حتى اختيار العنوان ، يخبرك بتلك المفردات القاسية التي تؤكد حجم الأحزان والضياعات والمتاهات ، انظر “نزيف الصمت” و”هذا هو الحزن” ثم “العزف على إيقاع الحزن” و”الحزن يرحل عند المفترق” وليس آخرها “أحزان حارتنا القديمة” وغيرها .
في قصة “الليل والحلم” يتجسّد رأينا السابق في قصص خالد غازي ، حول البطولة المشطوبة أو البطولة المنفردة ، صحيح أنك تقرأ – مثلاً – قوله “أسمع صوت أبي يدعو لي بأن أرجع سالماً غانماً .. القطار ينطلق” ..لكن الحدث الصغير هذا – صوت الأب وانطلاق القطار – لا ينمو صوب غاية أكبر ، بل تقف مع الكاتب صفحة إثر صفحة وتقرأ قولاً للناشر الذي قال له “لا أغامر بالنشر لكاتب جديد” وأجمل من ذلك قول الأب “يا ولدي أحذر ، فخطواتك مراقبة ، أنت تحمل اغتيالك” لكن القصة ذاتها لا تستمر على هذا المنوال ، حتى يحقق بها السلم الهارموني من درجة أدنى إلى درجة أعلى ، بل ترى وتقرأ أكثر من انتقاله والمزيد من التشعبات تحاول – أنت القارئ – أن تربط السطور ببعضها ، إذا بك – دون أن تدري كيف – تقرأ قوله قرب نهاية القصة بما يعني “أنه انتصر” حيث جاء الشاعر “المتنبي” وصافحه ، كما أن “هارون الرشيد” ابتسم له ، وشدّ من أزره “المعتصم” ليرغمنا على السؤال والعودة إلى القصة “ماذا جرى ؟” فنكتشف أن “الحب” هو الذي كان السبب وراء ذلك كله ..لكن هيكلية القصة تتشظى هنا وهناك ، لو أن المؤلف تخلّص من حالات التشتت وبعثرة الأحداث وتمكن من السيطرة على وحدة السرد ، لحقق لنفسه قفزة طيبة في عالم القصة القصيرة – وهو بحاجة إلى أن يتورط أكثر مع هذا الفن العسير – ذلك أن عبارته سليمة والمخيّلة لا غبار عليها ، وهناك حدوس ومشاعر وعواطف عاصفة ، وكلها تساعد على صناعة القصة القصيرة ، بينما ينشغل خالد محمد غازي في كتابه “القصة / الرسالة” ويعطيها الكثير من اهتمامه ، ذلك أن جماليات رسالة الحب لا تحقق شروط القصة القصيرة ..قد تقول “كم هو جميل هذا الكلام” لكننا نحتاج إلى القول : “كم هى جميلة هذه القصة” .. خذ مثلاً قوله في قصة “الرحيل إلى أميرة” صفحة 77 الذي جاء فيه : “أرسل إليكَ أشواقي ، تلك الأشواق التي أحسدها لأنها ستراك ، وتحتضنك ، فتنظر إليها وتبادلك النظر ، ناهلة من سحر عينيك ، لذا أتمنى أن أكون بدلاً من أشواقي ” . ونفس الحال يتكرر في قصص “قالت : اذكرني” و”ضحى” والقصة التي تحمل عنوان المجموعة نفسها ، حتى أنه كتب بنفسه في بدايتها “رسالة حب” .
الكاتب في حالة “حلم” دائم لا يكف من التعلق به ، وبرغم حلاوة الأحلام وجماليات الصدى الذي يتردد فيه ، تبقى – أحلامنا – أحياناً حجر عثرة في طريق الكتابة ، لاسيما كتابة القصة القصيرة ، وأرى أن العوم في هذا البحر الشاسع يحتاج إلى مهارة وصبر و”تفرغ” من بقية الهموم والمشاغل . والقاص خالد غازي يمتلك “مصيره” مبدعاً إذا أراد ذلك ، ومادام “الحلم” قيد اليدين فهو – شاء ذلك أم رفض – لابد أن يصحو “منه” ذات يوم .. وعندها سنقرأ رحيله الصحيح عن مدن الهزائم.
عبد الستار ناصر