قطعت القصة القصيرة العربية شوطًا بعيدًا منذ تأسيسها على أيدي أساتذتها الأوائل. هؤلاء الأساتذة نقلوها من تحت عباءة المقالة الوعظية، وحرروها من هيمنة السجع (المقامي)، نسبةً إلى المقام، ومن الحكاية البطيئة والمكررة المليئة بالوعظ والنصح والإرشاد، والحث على فعل الخير والتمسك بأهداب الفضيلة. ولقد قيض للقصة القصيرة العربية قصاصون مجتهدون، انتقلوا بالقصص إلى دواخل أبطالها وشخوصها، وتخففوا من ثقل السرد الذي لم يعد يتناسب مع إيقاع الحياة العصرية السريعة والمتطورة. ومع ذلك، جاءت أجيال من القصاصين الذين عاشوا عصر السينما والتلفزيون والهاتف النقال والإنترنت. من بين هؤلاء، يبرز خالد محمد غازي، القاص والباحث والصحفي المصري، الذي أصدر مجموعتين قصصيتين: (أحزان رجل لا يعرف البكاء) و(الرحيل عن مدن الهزائم). في قصصه، يلجأ خالد إلى أسلوب قصيدة النثر، التي تكاد تكون موسيقية في جملها، وإلى لغة السيناريو، حيث تقطيع المناظر في القصة مما يسهل التخفف من ثقل السرد وبطئه، ويساعد على دفع القارئ لرؤية الحدث من عدة زوايا ووجهات نظر لشخوص القصة، مع الحفاظ على جو القصة والإمساك بمفاصلها، حتى وإن بدت مجزأة وممزقة، كأيام حياتنا المتطايرة.
في قصة (الليل والحلم)، يدخلنا القاص إلى عالم القصة مدخلًا شعريًا. وحيدًا، خرجت أبحث عن كوة مجهولة النور، يسابقني توقي إليها، وعيون أحبائي ترقبني، وأسمع صوت أبي يدعو لي بأن أعود سالمًا غانمًا. ثم نتعرف على بطل القصة، الذي يواصل مناجاته، في حين يتوغل في اجترار هزيمته وألمه، وشعوره بالوحدة. وتنتهي القصة بنهاية ملغومة، طافحة بالسخرية، فاللقاء بالأجداد لا ينقذ حفيدهم التائه ولا يبدل حاله من سيء إلى حسن. في القصة التي تحمل اسم المجموعة (الرحيل عن مدن الهزائم)، نقرأ المقاطع ومن ثم نجمعها كما لو أننا نلعب لعبة (الجيغسو)، وهكذا يشركنا القاص في كتابة قصته التي تنتهي مقاطعها بما يثير دهشتنا، مع أن النهايات – وهذا أمر غريب – تقودنا إليها مقدمات سلسة لكنها مراوغة وغير تقليدية.
في هذه القصص تتكرر مفردات: الحلم، الوحدة، التعب، الصمت، الذكرى، الانكسار، التوهان، من القصة الأولى في المجموعة (الليل والحلم) وحتى آخر قصة (العزف على إيقاع الحزن). ولماذا الاستغراب والدهشة من أجواء الحزن والإحباط التي تهيمن على جميع القصص، مادام بطلها من أبناء زمننا، ومادام متعلمًا ومثقفًا، باحثًا عن راحة البال التي لا تدرك، وعن اليقين الذي لا يُنال إلا بعد تعب بال، وطول عناء وبحث، وربما ضياع؟ في مجموعته الثانية (الرحيل عن مدن الهزائم)، بدا القاص أكثر دراية وخبرة، وأميل للتخفف من السعي المحموم لتقديم قصص قصيرة تأخذ من أسلوب كتابة السيناريو كما في (أحزان رجل لا يعرف البكاء). في قصص (الرحيل عن مدن الهزائم)، لا يرحل القاص بقارئه عن مدن الهزائم، ولكنه يسلس قياده، فإذا به يحزن ويغرق في الصمت، مستذكرًا أيام حياته التي لم تنته، والتي تملأ القلب مرارة. هذه القصص تمتع وتؤلم، لأنها لم تكتب للتسلية، ولإدخال السرور الخلب إلى النفس، ولا تهدهد أوجاعنا بمتخيل ينتزعنا كالمخدر لحظات عن الواقع، في حين أننا نغرق ونخسر عافيتنا النفسية والبدنية والعقلية، وتتبدد أيام حياتنا في مدن الهزائم، تلك التي لا نستطيع الرحيل عنها، لأنها مدننا وقدرنا.
وليس لنا إلا أن ننهي زمن هزائمها ، وندحر كأس مرارتها بعيدا عن حياتنا، القصة القصيرة تعبر عن معاناة الفرد،ولأن الفرد غير معزول عن الجماعة فإننا نقرأ في قصص (الرحيل عن مدن الهزائم) قصصا، عن الفرد في أشد لحظاته حميمية ، وخصوصية ، وعن أفراد كثيرين .. يشكلون جماعة، تجمعها هموم متشابهة ، متداخلة ، وعلاقات متواشجة ، لافكاك منها، لأن الخلاص لايكون فرديا في مدن (الهزائم).
رشاد أبو شاور
جريدة ” القدس العربي”