حين وضعت أمامي هذه المجموعة القصصية من شاب هادئ النفس يحمل في وجهه سمت حزن يشوبها حياء كي أقوم بقراءتها أحسست علي الفور أنني أمام شئ جدير بأن يقف الإنسان أمامه وقفة متأنية هادئة تناسب هدوء صاحبه، ومع الانتهاء من هذه الوقفة بدا لي بما لا يدع مجالا للشك أن جيل الشباب يحتاج من القارئ والدارس إلي وقفة حب ووعي واحترام. وما إن تمكنت لي قراءة المستمع، إذا بهذه المجموعة القصصية القصيرة للقاص المتمكن خالد غازي تفصح عن إدراك صاحبها الكبير ووعيه التام بالتكنيك الواجب للقصة القصيرة.نحن أمام تجربة فنية يحكمها خيط نفسي واحد ورؤية فنية كاملة، تملك هذه التجربة الوعي الكامل بالخيط الدرامي غير المتناقض رغم تعدد القصص وكثرتها النسبية، ذلك الخيط الذي أسهمت اللغة والصورة والفكرة إسهاما وصل إلي الإشراف به إلي الجودة والتمام ومن هنا أجد لزاما علي أن أسجل ما استطاعت قراءتي أن تصل إليه من ملاحظات هي جزء من طاقتي علي القراءة والاستمتاع والتي لا تجب الإشباع الوارد المتعدد في هذه المجموعة إذا ما تعددت لها القراءات وتنوعت أمامي الأشخاص.
يعبر الخيط الدرامي في هذه المجموعة عن أزمة الكاتب وحيرته الممثلة في التوتر القائم بين آماله وطموحاته وواقع العالم المعاصر الذي يحيط به، فالصراع بين قيم تحاول الارتقاء وعالم يمثل تحولا قاتلا، وفي بؤرة هذا الصراع نحس بقدرية الدراما خط مسار البداية والنهاية واد من التشاؤم ليس بالقليل، وظل انتصاره علي القدر المعاصر حبيس حلم نفسه عند إغفاءته تلك الإغفاءة التي تنسيه في لحظة الواقع الزائف المحيط به.
فالحلم في الأعمال لمسة الراحة التي تكسر في غفلة جبروت الواقع وتحيي بقدر ما قدرة الإرادة لدي الكاتب يستطيع الوقوف أمام سطوة المدينة.
يتردد الحكم بين حين وحين واضحاً موحيا بعالم مثالي يوتوبي للحب فيه قيمه وللإنسان فيه دور وللحرية فيه مكان، وينبئ عن اتصال الماضي لدي الكاتب بالمستقبل المأمول مع هروب من الواقع المؤلم الحاد.
ومن إدراك بعض مسارب هذا الحلم نجد الكاتب يقول في قصته “انتظار”
“أنا فقير يا سيدي”
لكنني أملك الحلم _ تري من وهبه لي وأنا الفقير المعذب المشرد!”
ويقول في ” العزف علي إيقاع الحزن”:
“أيقظتني زوجتي من النوم قائلة، ماذا بك؟ سمعتك تهذي بكلمات غير مفهومة. سألتها: مثل ماذا
هل يرضي الحلو بأن يصبح مرا؟
هل يرضي المر بأن يصبح حلوا؟
فبرغم استيقاظه لم ير في الواقع شيئا، ومن ثم حاول جذب زوجته إلي المشاركة في الحلم الذي يوحي أن الحلو له سبيل والمر له آخر، ومن غير المعقول أن يتلاقيا في عالم مثالي مشيرا بذلك إلي خلط الواقع المعاصر بين قيمتهما، ولأن الحلم عالمه الحقيقي سري في شرابينه حبيبته قائلا:
“وتسرني في شرايين حلمي المأمول”
ولأن نبض الحياة المرتبط بالضحوة والنور لديه خاطب به ضحي” وناداها قائلا:
“يا أملا أنتظر مجيئه، يا حلما قد أموت لكنه بداخلي ينبض بالحياة”
لقد أضحي الحلم قسيم حياته مشاطرا حين قال:
“والتقينا أنا والمرأة والحلم”
ولأنه كيان سيطر لم يدرك أحيانا أنه منام في مناظرة واقع، فقد استحال الواقع لديه مناما حين طلب القاص ممن في اليقظة أن يعيشوا المنام “أكنتم تعلمون بما يدور وأنتم نائمون” وكي يصبح هذا الحلم واقعا معاشا بدا الواقع فيه واضحا بحدوده غير هائم ففي الرحيل إلي أميرة” يقول:
“حلمت بك البارحة حلما غريبا.. في الحلم حدث صدام بين قطارين واشتعل الحريق بينهما” وهكذا يكتمل تصوير الواقع لديه في الحلم حيث الصدام والقطارات والاشتعال.
الحلم في أعمال الكاتب راحته. شد أزره أمام واقع طاغ. ويكفي أنه جعله يحكم رمزه واضعاً قدرته موضعا المناسب حيث لم يظهر نفسه سوبر مان يغلب الواقع تماما.
وإذا كان الحلم كيان الكاتب وذاته فإن هذا الكيان يصدمه دائما واقع ناء عنه مخالف له يظهر جليا في صورة المدنية” التي رفضها. رفض فيها الزيف والنفاق وقتل الشهامة والوجدان والإحساس، رفض الغول اللاإنساني الذي يميت الأمل ويفني الإنسان.
أضحت المدنية طرف الصراع الدرامي ومحورا أساسيا فيه، ففي المدينة وضحت كل انفعالات الكاتب وعذاباته، ويكفي أنه يعطي صورتها كاملة في “أحزان حارتنا القديمة” قائلا:
“سأحكي لك طرفا عما يحدث في المدينة الظلام الدامس يخيم علي كل شئ الكلاب ترتع في الطرقات. لم تعد
تعض اللصوص بل أصبحت تعض الأبرياء”.
وهي البلاد التي “تآمر فيها الدجالون علي الأنبياء” والبلاد التي تنفي أبناءها واحدا واحدا في الخفاء”.
الكاتب في صراع دائم مع المدينة يطاردها وتطارده يقاوم فيها ويقاوم تصبح أرقه الدائم.
“إن حياتي يجب أن تكون هنا. حيث أقاوم العفن والظلم.. حياتي في المدينة مليئة بالأحداث والتغيرات والحقائق”.
وقد بلغ العفن مداه إذ صرح الكاتب “ذهبت أصلي في جامع حارتنا فسرق حذائي ومن داخل بيتي سرقت ملابسي. إنني خائف أن تسرق مني نفسي”.
الكاتب في أعماله مضاد للمدنية ؛ لأنها تعتمد علي الزيف والنفاق، ولأنها تقتل المحب والشاعر والفنان ولأنها تكبت الإحساس الرهيف والوجدان.
ولأنه ضدها لم يجهد نفسه في قصصه أن يعرف منها الحد والشكل والأركان فقد استقر في باطنها ومعناها فبدا الزيف الخارجي لديه داخليا. من أجل ذلك لم يعرها التفاته تحدد المكان والزمان، فالأماكن لديه ثابتة لا تتغير كثيرا في كل أعماله ويبدو أن شكلها الخارجي مجرد ديكور بإمكانه أن ينزع من هنا ليوضع هناك.
جاء المكان مرتعا غالبا للعلاقة بين الكاتب والمرأة ومعظم لقاءاته معها كان محورها الشارع في الخارج، في معظم قصصه بانتهاء اللقاء، فما من علاقة عاشت معه الليل والنهار حتي الحلم المحتاج إلي سكن وهدوء واستقرار كان يأتيه أحيانا في المكان الخارجي.
من هنا أضحي المكان وعاء عاما حيث القطار فيه غير القطار والنيل غير النيل والصخرة غير الخصرة فقد جلس الكاتب علي صخرة النيل والعرف الواقعي يوجب الصخرة للبحر أو الشلال يقول:
سرت مرة أخري علي النيل أرهقني التعب جلست علي صخرة كبيرة جدا.
والترام يتحرك بالكاتب وهو سبيل مواصلة ماتت أواصرها أو كادت، فأين راكبه الآن؟ أين وجوده الواقعي إلا إذا كان وجودا نفسيا؟. يقول الكاتب في “هل حدث هذا”. عبرت شريط الترام متجها إلي المكان الذي سأقابلها عنده، وجدتها واقفة تنتظرني، خالجني إحساس بالحبور وأن العالم الذي يحيط بي واسع جداً”. فالترام غامض غموض المكان لأن حدهما نفسي وليس خارجيا، وكثيراً ما كان الغموض أساس رؤية المكان يقول في “وداعا”.
وجدتك في الشارع منزويا في مكان مظلم”
وهل هناك من غموض أكثر من قوله في “قرار”:
“قدت خطاي إلي هذا المكان الذي أجهله”
لم يعد المكان وحده مكانا داخليا نفسيا غير واقعي فقد أضحي الزمان أيضاً في المدينة زمانا غير زمان البندول الذي يتحرك من خلال دقات عقاربه أضحي الزمان زمان النفس والشعور فالزمان الذي يعيش في الكاتب يترك أنه الواقعي يستقر في الحلم والخيال ذكري ماضي وأمل مستقبل.
يقول في “قرار” : صوت الماضي يطفو. صوت الحاضر محبوس في الحناجر. صوت المستقبل مجهول ننتظره.
فالزمن الإيجابي ماض يطفو ومستقبل مأمول، أما الحاضر فسلبي محبوس هو زمن التشفي، زمن الكلاب، زمان يعرف كيف يدوس الأزهار ومن ثم فما عاد هذا الزمان الحاضر كما يقول في “العزف علي إيقاع الحزن” زمن الفرح أضفت المدنية كما عهدنا علي الزمان والمكان ظل عتمة وظلام، ومن ثم لم يعدو واضحاً لدي الكاتب إلا الزمن الماضي والزمن المشرف علي الغيب وهما معاً من نسيج حلم وخيال لا من حركة وواقع.
وقد جمد إحساسه بالمكان والزمان في الواقع أن المدنية ظلها إحساس العادة حيث لا جدة في الشخوص والأماكن والأزمنة، يقول مصورا تحكم العادة في “زيف الصمت”.
“نفس رحلة الذهاب كانت رحلة الإياب إلي بيته”
ويقول “في أحزان حارتنا القديمة”
سأحكي لك طرفا عما يحدث في المدينة .. في حارتنا التي رحلت عنها منذ سنين، حارتنا نفس الحارة”.
ولأن العادة تذهب البهجة والتأثر فقد اعتاد أن يخلو من الانفعال لكثرة ما اعتاد يقول:
“شق طريقه وسط الأجساد البشرية بصعوبة بالغة بعناد خال من الانفعال.. كان يسير”.
فقد أوصلت العادة كما نري العناد إلي عناد سلبي خال من الانفعال وقد أفصح عن ذلك حين قال:
“لا . إني تعودت علي مثل هذه المواقف”.
ركائز الحلم وقوة المدنية التي غام فيها الزمان والمكان واستحكمت فيها العادة أبانت قضية صراع بين ما هو مثالي وما هو واقعي، وفي هذا الصراع الدرامي ظهرت قضية محورية تمثلت في التعبير عن أزمة الكاتب أو صاحب الكلمة في هذا العالم المعاصر ففي أعماله ثوابت توضح ذلك.
فالتعلم في قصته “محاولة” لا يكتب بلا مداد .. ومداد قلمي المبادئ .. فلا تتحدي قلمي ومداده .. هما حياتي”.
وفي سبيل دور الكاتب وجه قلمه مرآة صادقة تعكس ما بالمدينة ففي قصته ضحي” يقول:
قلمي كان مرآة عكست حزن المدينة وكآبتها ويأسها”.
وبه أي بهذا القلم يستطيع أن يصنع في الليل بابا ونافذة لفجر طال انتظاره، أي أن مداد القلم إشراف إلي غد مأمول إزاء واقع مشوه لا يقيم احتراما له ولا لصاحبه، ففي “الليل والحلم” لا يجد الكاتب سبيلا لنشر كتابه الأول فحين وعد حبيبته بفستان أنيق إذا نشر كتابه الأول بان أن الوعد غير مضمون لأن مدير أحد دور النشر قال له: “لا أغامر بالنشر لكاتب جديد”.. وعندما ذهب إلي ناشر آخر أخبره بأنه لا ينشر إلا لكبار الكتاب وقد ذهب لثالث ورابع وخامس حتي يتيقن له أن هذه مؤامرة من عصره ومدنيته عليه.
محاولة النشر أضحت أملا أحس به في قصته “انتظار” والانتظار قرين الاستقبال والاستقبال غائم مجهول، وهذه التي كان قد وعدها بالفستان حين النشر قالت له في هذا المكان “عندما تصبح كاتبا مرموقا ستنسانا”.
وكأنها أيضاً ترفض في قرارة نفسها أن يكون كاتبا.
وقد استطاعت زوجته أن تعي ضياع قيمة الكاتب التي تدور في هذا العصر حول لا شئ وسوف تنتهي في هذا العالم المادي إلي لا شئ حين قالت له في “نزيف الصمت” موضحة أزمة الكاتب في هذا العصر، تقول زوجته: من سهرك طول الليل في هذا البلاء الذي يسمي القراءة. ماذا جنينا من وراء القراءة سوي الفقر وأكوام من الكتب والمجالات التي ضاق بها منزلنا” وتلك محنة الكاتب المعاصر أن يدرك أن عمله بلا قيمة.
بعد هذه المعاصرة للكاتب وغربته في المدينة وتجريد الزمان والمكان واحتكام العادة فيه وكلها خيوط درامية أحكمت الصراع الدرامي في أعماله في ضوء حلمه المستمر يبدو أن استخدامه الرمز سبيلا في توضيح هذا الصراع أضحي مطلباً فنيا.. وقبل تتبع الرمز لديه في بعض الأعمال نبين رمزا واضحا ارتبط بحلمه فمثل خصوصية في أعماله وهو الممثل في “ضحي” إشراقة أمله وغفوة حلمه الناعسة ومستقبله الذي يحارب في سبيله غول المدينة وإرهابها.
ترددت ضحي كثيرا بلفظها ومعناها في أعماله كثيرا ففي “الرحيل إلي أميرة” يقول: “لابد أن نلتقي. نتوحد ليأتي الضحي من توحدنا”.
فالضحوة غايته، وفي “العزف علي إيقاع الحزن يقول”: ونتوحد ننجب طفلة واسعة العينين ونسميها ضحي .. تري هل أستطيع أن أبني لها بيتا واسع الطرقات واسع الردهات؟
فالتوحد طريقه إلي ضحي حلوة العينين التي في سبيل يخلق لها بيتا من يوتوبيا واسع الطرقات واسع الردهات. ويسري الرمز واضحا حين يريطها بالانتظار قائلا في قصة بعنوان “ضحي”:
“إلي ضحي التي علمتني الانتظار.
أحبك أحبك ولا أدري لماذا أو ماذا بعد”
هي غايته والطريق إليها صعب مجهول أو كما قال: “يا أملا أنتظر مجيئه”.
ولأنها البسمة الوحيدة لديه ونقطة الضوء التي يسعي إليها بثها أحلامه وأشجانه، عري نفسه وذاته أمامها قائلا:
“أنا يا ضحي رجل فقير بسيط لا أملك إلا مبادئى التي أشعر أنها أكبر من الفقر والألم والفرح والضعف والقوة والهزائم والانتصارات” ويجسدها كيانا حيا مستمعا يحكي لها:
أقول لك شيئا ربما تضحكين منه .. وأنا أسير في شوارع المدينة وحدي أحب أن أنظر للفترينات، ولا إراديا أعد ما في جيبي من نقود .. ثم أحاول إقناع نفسي أن بمقدوري شراء أي شئ.. فستان .. حقيبة يد .. حذاء.”
إحكام في توظيف الرمز فاستمرارية ضحي لم توقع القاص في غموض أو تناقض حيث أضحت ضحي لديه بارقة الضوء والأمل المنشود.
لم يقف الرمز عند هذا الحد وحده فقد أفصحت أعماله عن استخدام فني يلعب في بناء القصة دورا هاما وها هي بعض أعمال توظف فيها الرمز دون لبس أو غيبوبة.
ففي قصته “الحزن يرحل عند المفترق” وهي قصة تحكي بطولة أطفال الحجارة يقطع مشاهد رؤيته محافظا في التقطيع علي وضع الغاصب الغاشم في عتمة المقاطع وظلامها، ووضع القوة المتوفرة للحرية والعدل في دائرة الضوء، ومن هنا كانت المقابلة بين القيمة والنور رمزا للصراع.
يبدأ الكاتب القصة بمدخل ظلامي يقول فيه “الظلام يغشي كل مكان” وهو ظلام يوحي برهبة حسية ونفسية، وكما يولد النور من الظلام تآزر الجمع خلف فتاة السادسة عشرة التي حفزت فيهم الإحساس فانطلقوا جميعاً في سبيل قتل المارد المخيف ليكون ختام القصة ضوءا يظهر في النهاية.
ظهر نجم صغير في السماء الحالكة الظلمة .. منذ زمن كبير لم يظهر”
فالرمز هنا موجود كما قلت في إحكام علاقة التضاد بين الضوء والعتمة والظلام والنور.
وفي “أحزان حارتنا القديمة” تركز الرمز في شخصية حامد الذي بدا مظهر الثراء الكاذب، وصورة من صور المدينة الخادعة التي لا تعتمد علي أصل. فالناس دائما إلي حامد، ولكونه رمزا تناسخ في مسميات أخري حين مات بدلالته نفسها يقول في ذلك الكاتب:
“مغفل هذا الذي قتله .. كان يظن أنه بموت حامد تموت أشياء كثيرة لكن لم يكن يعلم أنه سيظهر علي مسرح أحداث حارتنا حامد جديد”.
المناخ في هذه الحارة التي تشبه حارات نجيب محفوظ واحد فالوافد جاء في ثوب القديم وهو ملاذ في كل حال.
وفي “وداعا” كان القط رمزا لاستشراء خيانة من لا يستحق العطف والثواب فقد أنقذ من هلاك فلما استقام عوده صار مصدرا للإهلاك وهكذا حال الدنيا ومن فيها نعلم من فيها الرماية حتي إذا ما اشتد الساعد تلقينا السهام.
والطلاق في “الرحيل عن مدن الهزائم” يمثل ثورة علي القيد أيا كان شكله حتي ولو كان سوارا من ذهب، وقضية القتل في مع سبق الإصرار والترصد” بناء علي علة الحب تظهر قدرا من العبثية في حياة الإنسان حيث يصير الأسود أبيض والكره حبا أو الكره حبا فكل شئ في نطاق هذه العبثية سواء.
جملة أمور تداعت أمام قراءتي لأعمال القاص خالد غازي فقد بدا الحلم عنده محورا تركزت فيه مثالية الكاتب وواقعية المدينة وتحدد فيه دور الزمان والمكان واستحكمت العادة فيه ودار الرمز حول هذه الأمور اللهم إلا في بعض أعمال نادرة حكت بطولات الفدائيين وكانت بطولات في ثوب حلم وأمل أيضا، وهنا يحق للقارئ أن يقف وقفة أمام التكنيك اللغوي الذي استخدم في تصوير هذه الأعمال والإفصاح عنها. والممعن في هذه اللغة يجد فيها جملة أمور تستحق الاهتمام والنظر ومن هذه الأمور بأن أمرين: الأول: توظيف هذه اللغة ودلالة الإسقاط من خلالها وتكثيف الرؤية فيها وإشعاعها. الثاني: شاعرية هذه اللغة حين جاءت محور خيال وحلم لهذا الفنان.
وفي التقاط بعض مظاهر للتعبير عن الأمر الأول نقول: إن اللغة في مجمل هذه الأعمال أصبحت جزءا من الإبداع ولم تعد شكلا مسطحا وحيد الدلالة والمضمون ففي “انتظار” يتحدث الكاتب عن ابتعاد نوال قائلا:
“أومأت نوال برأسها وفي عيناها عشرات الأسئلة الخرساء.. تورد خداها ابتعدت عني .. وافترقنا تعلقت عيناي بمصباح الشارع الذي نتطاير حوله حشرات بشعة يقهرها الضوء فتسقط علي الأسفلت ميتة سوداء”.
ونوال الكاتب هذه برزت صورة العالم مادي حيث بلغ ثمن فستان زفافها عشرة آلاف جنيه وهي التي كانت تتأبط ذراع عريس يشبه برميلا من براميل البترول، ولكراهية الكاتب إياها لفظها لأنه لفظ قبل وجودها كل شئ ينتمي إلي المادة، وقد بانت كراهيته في عطاء لغته حيث أسقط صورة الحشرات البشعة التي قهرها الضوء علي الأسفلت ميتة، وبهذا الإسقاط يكون الذي هوي ومات هو نوال رمز العالم المادي الساقط علي أسفلت من مخلفات البترول.
وتأتي الجملة حاملة إشعاعاً كبيرا رغم إيجازها حين عبر عن إرث المرض والضياع والفقر عن الوالد بقوله في “نزيف الصمت” : “لم يرث عن أبيه إلا السعال الحاد ونحول الجسد”.
وكي تتكثف رهبة الظلام والخوف في المقابر لم يجعل وحشة المقابر وحدها سبيلا للإحساس بالرهبة بل وحفزها بظهور مفاجئ لرجل لم تكسر إنسيته حدود هذه الوحشة، لأنه بدا مجهولا خلف نظارة سوداء يقول الكاتب
موظفا لغته في تصوير هذا الرجل: “غير أني ما كدت اقترب من مدخل المقابر حتي ظهر أمامي فجأة رجل يعترض طريقي، كان يخفي ملامح وجهه خلف نظارة سوداء زجاجها سميك”.
والحرص علي أن تكون كلمة الكاتب موازية لانفعاله ظهر صريحاً ففي “قالت اذكرني” يقول: “متي تكون الكلمة بمساحة الانفعال وحجم وفائي لك بحجم كلمتي”.
ويتحدث عن هذه لغتي التي أجاد توظيفها قائلاً “انتظار: مفردات لغتي صعب أن أكبح جماحي .. أريد أن أقول ما أريد وأفعل ما أريد”
وفي امتلاك عطاء اللغة التركيبي استخدام ما لا يمثل خروجها علي المألوف اللغوي وفق قواعده دون افتعال، فقد استخدم تقديم المنصوب والجار والمجرور في بعض أعماله بغية توضيح الخيط الدرامي في أعماله فهو يقول: “في الزحام وجدتك وفي الزحام فقدتك” مقدما الجارو المجرور وفي التقديم وعي بأن الزحام هو لب الوجود والفقد معا وهذا ما أوضحت عنه رؤية المدينة التي كانت غولا في حسابه.
وقد تحكم المنصوب لديه في المطالع بدءا، وحيدا خرجت، عفوا يا صديقي دائما ترتعش علي شفتيها، منذ زمن لم أكتب وفي البدء به تركيز علي الوحدة والالتماس والديمومة والاستمرار ؛ وربما بدا منه ما لا يرام حيث بدت في أحيان نادره لغة إفصاحية انفعالية ناقضت خياله الحالم فالأسئلة المباشرة ضيقت من فنية فقراتها. هل حدث هذا؟ ربما، لم تفهم ماذا أعني، واعجبا، لماذا تفرض علينا الأيام مالا نحبه؟ لماذا لم تكتب لي؟ لماذا قلت؟ ألم أقل أرأيت..
وهي أسئلة يصبح من خلالها عمق الجملة أملس ساذجا شحيح الإشعاع، بيد أن رؤية شعرية حركت أمر هذه اللغة لدي الشاعر فقد أدرك في كثير من المواقع وبخاصة الحالمة دور الإيقاع وانسيابه في الإيحاء. ففي “انتظار” يبدو إيقاع المتدارك في جمل عفوية:
هي شمس فوق الشمس
حرف فوق الحرف
يصنع في المجد الآتي من وهج الشمس.
هي تعلم أني أكره عهد القس الفاسق
وقد وقع الكاتب لغته كي تماثل حركية الصورة لديه فمع هزة الأرجوحة وازن لغته بها فجاء بها موزونة وإن زاد متحرك في بداية الوزن:
تعالي نركب أرجوحه
وقد قارب وحدة الرمل حين قال:
لا تظنوا
إنني أكتب قصة امرأة.
وقد استطاع أن يعزف لغة شاعرية أفصحت عن إيقاع الحزن حين قال:
تتغير كل الأشياء
النور سراب
الدرب عذاب
وجهك داسته الأقدام
حملته الأيدي المجنونة
وهكذا تلاحقت لغته موظفاً إياها مكثفا دلالاتها شاعرا بإيقاعها ولم ينس في حدود هذه اللغة أن يملك أمرا لتعبير بالصورة تمثل مزجا بين التراث والمعاصرة ففي “الليل والحلم” يقول:
“انتفضت كعصفور بلله القطر”
وصورة التشبيه بدأت تراثية لكن الكاتب ردها إلي المعاصرة حين تابعها قائلا:
“انتابتها موجة من رفض لا شعوري”
وتأتي مزاوجة الصورة من خلال التقاء التراث بجدة المعاصرة حين يقول:
آه من رسائلك .. تذهب بطيئة كعصفور يعبر المحيط”.
فالتشبيه جاء مكتمل الأركان من مشبه ومشبه به وأداة ووجه شبه، لكن الإحساس بالبطء ظهر جديدا في عبور العصفور للمحيط، وهو عبور لمحيط لانهائي يقفز إلي مراد الكاتب والقارئ.
إنه عبور بلا أمل يموت العصفور أثناءه.
ومن إلف الصورة التراثية قوله “وقف مشدوها ينظر إلي القمر المكتمل في كبد السماء” ؛ فكبد السماء وكبد الحقيقة من إلف تراث يوازيه أيضا قوله في “الليل والحلم”
“بدأ يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود في السماء” وهو تعبير إسلامي عن بزوغ الفجر” ولعل ارتكاز الكاتب في الصورة علي الماضي أحيانا مرجعه أن الماضي لديه حقيقة واعية بينما الحاضر عتمة وظلام والمستقبل أمل مجهول، ومن ثم كان ارتداد الصورة إلي الماضي ارتدادا له ما يسوغه فكم كان يرتد بآلة زمنه إلي الوراء قائلاً:
مازل أواصل المسير. شعرت ببرودة أطرافي. أتاني المتبني صافحني والمعتصم جاء شد أزري والمعتز بالله هنأني هارون الرشيد ابتسم لي”.
صور تتنامي ولغة تقوم بوظيفتها الفنية وصراع درامي تتآزر فيه علاقات الحلم والمدينة والزمان والمكان والرمز وكلها تناسب دالة علي عطاء كاتب واضح الملامح والسمات ورغم هدوء نفسه والخجل المستكن وراء العينين فقد بدا نافذ البصيرة يملك عزيمة حاولت قدر طاقتها أن تصارع العالم المعاصر يدفعها إلي ذلك حلم متسرب في الأعماق يطلب من المستقبل ما يريد.
د. أحمد كشك
– كاتب المقال هو عميد كلية دار العلوم ( السابق ) – جامعة القاهرة
27_ 3_ 1990م